صفحة جزء
776 196 - ( حدثنا قبيصة قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس : أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء ، ولا يكف شعرا ولا ثوبا : الجبهة ، واليدين ، والركبتين ، والرجلين ) .


مطابقته للترجمة من حيث المعنى ; لأن المراد من الأعظم الأعضاء ، كما ذكرنا على أن المذكور في أحد طريقي حديث ابن عباس لفظ " الأعضاء " مصرح على ما يجيء إن شاء الله تعالى .

( ذكر رجاله ) وهم خمسة : الأول : قبيصة - بفتح القاف وكسر الباء الموحدة - ابن عقبة بن عامر الكوفي . الثاني : سفيان الثوري . الثالث : عمرو بن دينار . الرابع : طاوس بن كيسان . الخامس : عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما .

( ذكر لطائف إسناده ) :

فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه القول في موضع واحد ، وفيه أن رواته ما بين كوفي ومكي ويماني .

( ذكر تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره ) :

أخرجه البخاري أيضا ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن شعبة . وعن موسى بن إسماعيل ، عن أبي عوانة . وعن أبي النعمان ، عن حماد بن زيد كلهم عن عمرو بن دينار به . وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا ، عن يحيى بن يحيى . وعن محمد بن بشار . وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد . وأخرجه الترمذي والنسائي ، كلاهما عن قتيبة . وأخرجه النسائي أيضا ، عن حميد بن مسعدة . وأخرجه ابن ماجه ، عن بشر بن معاذ .

( ذكر معناه ) :

قوله : “ أمر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - " على صيغة المجهول في جميع الروايات والمعنى أمر الله تعالى [ ص: 90 ] النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وقال البيضاوي : عرف ذلك بالعرف ، وذلك يقتضي الوجوب قيل : فيه نظر ; لأنه ليس فيه صيغة الأمر . ( قلت ) : في رواية أبي داود ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أمرت قال حماد : أمر نبيكم أن يسجد على سبعة ، ولا يكف شعرا ولا ثوبا . انتهى ، فهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أمرت " يدل على أن الله تعالى أمره ، والأمر من الله تعالى يدل على الوجوب ، وفي رواية مسلم : " أمرت أن أسجد على سبعة ; الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين . ( فإن قلت ) : رواية البخاري هذه تحتمل الخصوصية . ( قلت ) : روايته الأخرى التي ذكرها عقيب هذا الحديث وهي قوله : " أمرنا " تدل على أنه لعموم الأمة . واختلف الناس فيما فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - هل تدخل معه الأمة فقيل : نعم ، والأصح لا ، إلا بدليل ، وقيل : إذا خوطب بأمر أو نهي فالمراد به الأمة معه ، وهذا لا يثبت إلا بدليل ، ورواية " أمرنا " تدل على أن ابن عباس تلقاه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إما سماعا منه ، وإما بلاغا عنه ، وبهذا يرد كلام الكرماني ، حيث قال : ظاهره الإرسال ، أي ظاهر هذا الحديث ، ثم قال الكرماني : ( فإن قلت ) : بم عرف ابن عباس أنه أمر بذلك ؟ ( قلت ) : إما بإخباره - صلى الله عليه وسلم - له أو لغيره ، أو باجتهاده ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - ما ينطق عن الهوى . انتهى . ( قلت ) : على تقدير إخباره - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس كيف يكون الحديث مرسلا ، وقد قال : ظاهره الإرسال ؟

قوله : “ ولا يكف شعرا " عطف على قوله : " أن يسجد " ، وفي رواية " لا يكفت الثياب ولا الشعر " ، والكفت والكف بمعنى واحد ، وهو الجمع والضم ، ومنه قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أي نجمع الناس في حياتهم وموتهم ، والكفات بمعنى الكف .

قوله : “ ولا ثوبا " أي ولا يكف ثوبا .

قوله : “ الجبهة " بالجر عطف بيان لقوله : " على سبعة أعضاء " وما بعدها عطف عليها . قوله : " واليدين " يريد الكفين ، خلافا لمن زعم أنه يحمل على ظاهره ; لأنه لو حمل على ذلك لدخل تحت المنهي عنه الافتراش كافتراش السبع والكلب . قوله : " والرجلين " يريد أطراف القدمين ، وبين ذلك رواية ابن طاوس عنه كذلك . قوله : " ولا يكف شعرا ولا ثوبا " جملتان معترضتان بين قوله : " على سبعة أعضاء " وبين قوله : " الجبهة " .

( ذكر ما يستفاد منه ) :

احتج به أحمد وإسحاق على أنه لا يجزئه من ترك السجود على شيء من الأعضاء السبعة ، وهو الأصح من قولي الشافعي فيما رجحه المتأخرون ، خلاف ما رجحه الرافعي ، وهو مذهب ابن حبيب ، وكأن البخاري مال إلى هذا القول ، ولم يذكر الأنف في هذا الحديث ، وذكر الأنف في حديث آخر لابن عباس على ما يأتي عن قريب .

واختلفوا في السجود على الأنف هل هو فرض مثل غيرها ؟ فقالت طائفة : إذا سجد على جبهته دون أنفه أجزأه ، روي ذلك عن ابن عمر وعطاء وطاوس والحسن وابن سيرين والقاسم وسالم والشعبي والزهري والشافعي في أظهر قوليه ومالك وأبي يوسف وأبي ثور . والمستحب أن يسجد على أنفه مع الجبهة .

وقالت طائفة : يجزئه أن يسجد على أنفه دون جبهته ، وهو قول أبي حنيفة ، وهو الصحيح من مذهبه . وروى أسد بن عمرو عنه : لا يجوز الاقتصار على الأنف إلا من عذر . وقال ابن بطال : اختلف العلماء فيما يجزئ السجود عليه من الآراب السبعة بعد إجماعهم على أن السجود على الأرض فريضة . وقال النووي : أعضاء السجود سبعة ، وينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها ، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا ، وأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض ، ويكفي بعضها ، والأنف مستحب ، فلو تركه جاز ، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجزه . هذا مذهب الشافعي ومالك والأكثرين ، وقال أبو حنيفة وابن القاسم من أصحاب مالك : له أن يقتصر على أيهما شاء ، وقال أحمد وابن حبيب من أصحاب مالك : يجب أن يسجد على الجبهة والأنف جميعا لظاهر الحديث ، وقال الأكثرون : بل ظاهر الحديث أنهما في حكم عضو واحد ; لأنه قال في الحديث " سبعة " ، فإن جعلا عضوين صارت ثمانية ، وذكر الأنف استحبابا ، وذكر أصحاب التشريح أن عظمي الأنف يبتدئان من قرنة الحاجب ، وينتهيان إلى الموضع الذي فوق الثنايا والرباعيات . فعلى هذا يكون الأنف والجبهة التي هي أعلى الخد واحدا ، وقال ابن بطال : إن في بعض طرق حديث ابن عباس " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم " منها الوجه . ( قلت ) : يؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد فيما رواه مسلم " سجد وجهي للذي خلقه ... " الحديث ، وأما اليدان والركبتان والقدمان ، فهل يجب السجود عليها ؟ فقال النووي : فيه قولان للشافعي ; أحدهما لا يجب ، لكن يستحب استحبابا متأكدا . والثاني يجب ، وهو الأصح ، وهو الذي رجحه الشافعي ، فلو أخل بعضو منها لم تصح [ ص: 91 ] صلاته ، وإذا أوجبنا لم يجب كشف القدمين والركبتين .

وفي الكفين قولان للشافعي ; أحدهما يجب كشفه كالجبهة ، والأصح لا يجب . وفي شرح الهداية : السجود على اليدين والركبتين والقدمين غير واجب ، وفي الواقعات : لو لم يضع ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجزئه ، وقال أبو الطيب : مذهب الشافعي أنه لا يجب وضع هذه الأعضاء ، وهو قول عامة الفقهاء ، وعند زفر وأحمد بن حنبل يجب . وعن أحمد في الأنف روايتان ، وقال ابن القصار : الإجماع حجة ، ووجدنا التابعين على قولين ; فمنهم من أوجب السجود على الجبهة والأنف ، ومنهم من جوز الاقتصار على الجبهة ، ومن جوز الاقتصار على الأنف خرج عن إجماعهم .

( قلت ) : يشير بذلك إلى قول أبي حنيفة ، وما قاله غير موجه ; لأن المأمور به في السجدة وضع بعض الوجه على الأرض ; لأنه لا يمكن بكله فيكون بالبعض مأمورا ، والأنف بعضه ، فكما أن الاقتصار على الجبهة يجوز بلا خلاف لكونها بعض الوجه ومسجدا ، فكذا الاقتصار على الأنف ; لأنها بعض الوجه ومسجد ، إلا أنه يكره لمخالفته السنة ، وذكر الطبري في تهذيب الآثار أن حكم الجبهة والأنف سواء ، وقال أيوب : نبئت عن طاوس أنه سئل عن السجود على الأنف ، فقال : أليس أكرم الوجه ؟ وقال أبو هلال : سئل ابن سيرين عن الرجل يسجد على أنفه ؟ فقال : أوما تقرأ : يخرون للأذقان سجدا ؟ فالله مدحهم بخرورهم على الأذقان في السجود ، فإذا سقط السجود على الذقن بالإجماع يصرف الجواز إلى الأنف ; لأنه أقرب إلى الحقيقة ; لعدم الفصل بينهما بخلاف الجبهة ; إذ الأنف فاصل بينهما ، فكان من الجبهة .

( فإن قلت ) : روى الدارقطني من حديث سفيان الثوري ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين " . ( قلت ) : قالوا : الصحيح أنه مرسل .

( فإن قلت ) : أخرج ابن عدي في الكامل عن الضحاك بن حمزة ، عن منصور بن زاذان ، عن عاصم البجلي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من لم يلصق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد - لم تجز صلاته " . ( قلت ) : أعله بالضحاك بن حمزة ، وأسند إلى النسائي : ليس بثقة ، وقال ابن معين : ليس بشيء .

( فإن قلت ) : أخرج الدارقطني ، عن ناشب بن عمرو الشيباني حدثنا مقاتل بن حيان ، عن عروة " عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : أبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أهله تصلي ، ولا تضع أنفها بالأرض ، فقال : يا هذه ، ضعي أنفك بالأرض ; فإنه لا صلاة لمن لم يضع أنفه بالأرض مع جبهته في الصلاة " . ( قلت ) : قال الدارقطني : ناشب ضعيف ، ولا يصح مقاتل عن عروة .

وفيه كراهة كف الثوب والشعر ، وظاهر الحديث النهي عنه في حال الصلاة ، وإليه مال الداودي ورده عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور ; فإنهم كرهوا ذلك للمصلي سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخل فيها . واتفقوا أنه لا يفسد الصلاة إلا ما حكي عن الحسن البصري وجوب الإعادة فيه . وفي التلويح : اتفق العلماء على النهي عن الصلاة وثوبه مشمر ، أو كمه ، أو رأسه معقوص ، أو مردود شعره تحت عمامته ، أو نحو ذلك ، وهو كراهة تنزيه ، فلو صلى كذلك فقد أساء ، وصحت صلاته . واحتج الطبري في ذلك بالإجماع ، وقال ابن التين : هذا مبني على الاستحباب ، فأما إذا فعله فحضرت الصلاة ، فلا بأس أن يصلي كذلك ، وعند أبي داود بسند جيد : رأى أبو رافع الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يصلي ، وقد غرز ضفيرته في قفاه ، فحلها ، وقال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ذلك كفل الشيطان . أو قال : مقعد الشيطان يعني مغرز ضفيرته ، وفي المعرفة : روينا في الحديث الثابت " عن ابن عباس أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه ، فقام وراءه ، فجعل يحله ، وقال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما مثل هذا كمثل الذي يصلي وهو مكتوف " فدل الحديث على كراهة الصلاة وهو معقوص الشعر ، ولو عقصه وهو في الصلاة فسدت صلاته . والعقص أن يجمع شعره على وسط رأسه ويشده بخيط أو بصمغ ليتلبد . واتفق الجمهور من العلماء أن النهي لكل من يصلي كذلك سواء تعمده للصلاة أو كان كذلك قبلها لمعنى آخر ، وقال مالك : النهي لمن فعل ذلك للصلاة ، والصحيح الأول لإطلاق الأحاديث ، قيل : الحكمة في هذا النهي عنه أن الشعر يسجد معه ، ولهذا مثله بالذي يصلي وهو مكتوف ، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لرجل رآه يسجد وهو معقوص الشعر : أرسله يسجد معك ، وفيه من جملة أعضاء السجود اليدان ، فإن صلى وهما في الثياب ، فذكر ابن بطال الإجماع على جوازه ، وكرهه بعضهم ; لأن حكمهما حكم الوجه لا حكم الركبتين . وللشافعي قولان في وجوب كشفهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية