صفحة جزء
798 218 - حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب عن الزهري قال : أخبرنا عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة : اللهم إني أعوذ [ ص: 116 ] بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات ، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ، فقال له قائل : ما أكثر ما تستعيذ من المغرم ! فقال : إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ، ووعد فأخلف . قال محمد بن يوسف : سمعت خلف بن عامر يقول في المسيح والمسيح - مشدد - : ليس بينهما فرق ، وهما واحد ، أحدهما عيسى عليه السلام ، والآخر الدجال .


مطابقته للترجمة من وجهين ; أحدهما بالقرينة ، وهي التي ذكرها الكرماني ; من حيث إن لكل مقام ذكرا مخصوصا ، فتعين أن يكون مقامه بعد الفراغ من الكل ، وهو آخر الصلاة . ( قلت ) : بيان ذلك أن للصلاة قياما وركوعا وسجودا وقعودا ، فالقيام محل قراءة القرآن ، والركوع والسجود لهما دعاءان مخصوصان ، والقعود محل التشهد ، فلم يبق للدعاء محل إلا بعد التشهد قبل السلام ، وبهذا التقرير يندفع قول بعضهم عقيب نقله كلام الكرماني : وفيه نظر ; لأن هذا هو محل الترتيب للبخاري ، لكنه مطالب بدليل اختصاص هذا المحل بهذا الذكر ، ولو أمعن هذا القائل في تأمل ما ذكرنا لما طالب الكرماني بما ذكره .

والوجه الآخر أن الأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضا ، وقد روي في بعض الطرق تعيين محل الدعاء ، فأخرج ابن خزيمة من طريق ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن طاووس ، عن أبيه أنه كان يقول بعد التشهد كلمات يعظمهن جدا . ( قلت ) : في المثنى كليهما قالا : بل في التشهد الأخير . ( قلت ) : ما هي ؟ قال : " أعوذ بالله من عذاب القبر " الحديث . قال ابن جريج : أخبرنيه عن أبيه ، عن عائشة مرفوعا . وروي من طريق محمد ابن أبي عائشة ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا " إذا تشهد أحدكم فليقل ... " فذكر نحوه ، هذه رواية وكيع عن الأوزاعي عنه . وأخرجه أيضا من رواية الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي بلفظ " إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير ... " فذكره ، وفي رواية ابن ماجه : إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ من أربع ... " الحديث .

( ذكر رجاله ) :

وهم خمسة ، كلهم قد ذكروا غير مرة . وأبو اليمان الحكم بن نافع ، وشعيب ابن أبي حمزة ، والزهري محمد بن مسلم .

( ذكر لطائف إسناده ) :

فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد ، وبصيغة الإخبار كذلك في موضعين ، وبالإفراد من الماضي في موضع واحد ، وفيه العنعنة في موضع واحد ، وفيه القول في موضعين ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية ، وفيه التصريح بأن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وفيه أن الاثنين الأولين من الرواة حمصيان ، والآخران مدنيان .

وأخرجه البخاري أيضا عن أبي اليمان في الاستقراض . وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن إسحاق الصاغاني ، عن أبي اليمان به . وأخرجه أبو داود والنسائي عن عمرو بن عثمان ، عن بقية ، عن شعيب به .

( ذكر معناه ) :

قوله : “ كان يدعو في الصلاة " أي في آخر الصلاة بعد التشهد قبل السلام بالقرائن التي ذكرناها .

قوله : “ من فتنة المسيح الدجال " الفتنة عبارة عن الابتلاء والامتحان ، يقال : فتنته أفتنه فتنا وفتونا إذا امتحنته ، ويقال فيها : أفتنته أيضا ، وهو قليل ، وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه ، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الشيء . والمسيح - بفتح الميم وكسر السين المهملة المخففة ، وفي آخره حاء مهملة - يطلق على عيسى ابن مريم ، وعلى الدجال أيضا ، ولكنه يفرق بالتقييد ، وسمي الدجال بالمسيح ; لأن الخير مسح منه فهو مسيح الضلالة ، وقيل : سمي به ; لأن عينه الواحدة ممسوحة ، ويقال : رجل ممسوح الوجه ومسيح ، وهو أن لا يبقى على أحد شقي وجهه عين ولا حاجب إلا استوى ، وقيل : لأنه يمسح الأرض أي يقطعها إذا خرج ، وقال أبو الهيثم : إنه مسيح على وزن سكيت ، وهو الذي مسح خلقه أي شوه ، فكأنه هرب من الالتباس بالمسيح ابن مريم عليهما السلام ، ولا التباس ; لأن عيسى عليه الصلاة والسلام إنما سمي مسيحا ; لأنه كان لا يمسح بيده المباركة ذا عاهة إلا برئ ، وقيل : لأنه كان أمسح [ ص: 117 ] الرجل لا أخمص له ، وقيل : لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بدهن ، وقيل : المسيح الصديق ، وقيل : هو بالعبرانية مشيحا فعرب ، وأما تسمية الدجال بهذا اللفظ فلأنه خداع ملبس ; من الدجل ، وهو الخلط ، ويقال : الطلي والتغطية ، ومنه البعير المدجل أي المدهون بالقطران ، ودجلة نهر ببغداد ، سميت بذلك لأنها تغطي الأرض بمائها ، وهذا المعنى أيضا في الدجال ; لأنه يغطي الأرض بكثرة أتباعه ، أو يغطي الحق بباطله ، وقيل : لأنه مطموس العين من قولهم : دجل الأثر إذا عفى ودرس ، وقيل : من دجل أي كذب ، والدجال الكذاب .

قوله : “ من فتنة المحيا وفتنة الممات " المحيا والممات كلاهما مصدران ميميان بمعنى الحياة والموت ، ويحتمل زمان ذلك ; لأن ما كان معتلا من الثلاثي فقد يأتي منه المصدر والزمان والمكان بلفظ واحد ، أما فتنة الحياة ، فهي التي تعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات ، وأشدها وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت . وأما فتنة الموت فاختلفوا فيها ، فقيل : فتنة القبر ، وقيل : يحتمل أن يراد بالفتنة عند الاحتضار ، أضيفت إلى الموت لقربها منه . ( فإن قلت ) : إذا كان المراد من قوله : " وفتنة الممات " فتنة القبر يكون هذا مكررا ; لأن قوله : " من عذاب القبر " يدل على هذا . ( قلت ) : لا تكرار ; لأن العذاب يزيد على الفتنة ، والفتنة سبب له ، والسبب غير المسبب .

قوله : “ من المأثم “ أي الإثم الذي يجر إلى الذم والعقوبة ، أو المراد هو الإثم نفسه وضعا للمصدر موضع الاسم .

قوله : “ والمغرم “ أي الدين ، يقال : غرم الرجل بالكسر إذا ادان ، وقيل : الغرم والمغرم ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية منه ، وكذلك ما يلزمه أداؤه ، ومنه الغرامة ، والغريم الذي عليه الدين والأصل فيه الغرام ، وهو الشر الدائم والعذاب .

قوله : “ فقال له قائل " أي قال للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قائل سائلا عن وجه الحكمة في كثرة استعاذته من المغرم ، فقال - صلى الله تعالى عليه وسلم - : إن الرجل إذا غرم - يعني إذا لحقه دين - حدث فكذب ; بأن يحتج بشيء في وفاء ما عليه ، ولم يقم به ، فيصير كاذبا ، ووعد فأخلف ; بأن قال لصاحب الدين : أوفيك دينك في يوم كذا أو في شهر كذا أو في وقت كذا ، ولم يوف فيه ، فيصير مخالفا لوعده ، والكذب وخلف الوعد من صفات المنافقين ، كما ورد في الحديث المشهور ، فلولا هذا الدين عليه لما ارتكب هذا الإثم العظيم ، ولما اتصف بصفات المنافقين . وكلمة " ما " في قوله : " ما أكثر ما تستعيذ " للتعجب و " ما " الثانية مصدرية ، يعني ما أكثر استعاذتك من المغرم ، و " ما تستعيذ " في محل النصب .

قوله : “ حدث " بالتشديد جزاء الشرط . قوله : " وكذب " بالتخفيف عطف عليه . قوله : " ووعد " عطف على " حدث " . قوله : " أخلف " كذا هو في رواية الحموي ، وفي رواية الأكثرين " فأخلف " بالفاء .

فإن قلت : قوله : " فتنة المحيا والممات " يشمل جميع ما ذكر ، فلأي شيء خصصت هذه الأشياء الأربعة بالذكر ؟ ( قلت ) : لعظم شأنها وكثرة شرها ، ولا شك أن تخصيص بعض ما يشمله العام من باب الاعتناء بأمره لشدة حكمه . وفيه أيضا عطف العام على الخاص ، وذلك لفخامة أمر المعطوف عليه وعظم شأنه ، وفيه اللف والنشر الغير المرتب ; لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات ، وفتنة الدجال تحت فتنة المحيا . ( فإن قلت ) : ما فائدة تعوذه - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور التي قد عصم منها ؟ ( قلت ) : إنما ذلك ليلتزم خوف الله تعالى ، ولتقتدي به الأمة ، وليبين لهم صفة الدعاء . ( فإن قلت ) : سلمنا ذلك ، ولكن ما فائدة تعوذه من فتنة المسيح الدجال مع علمه بأنه متأخر عن ذلك الزمان بكثير ؟ ( قلت ) : فائدته أن ينتشر خبره بين الأمة من جيل إلى جيل وجماعة إلى جماعة بأنه كذاب ، مبطل ، مفتر ، ساع على وجه الأرض بالفساد ، مموه ، ساحر ; حتى لا يلتبس على المؤمنين أمره عند خروجه - عليه اللعنة - ويتحققوا أمره ، ويعرفوا أن جميع دعاويه باطلة ، كما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يكون هذا تعليما منه لأمته ، أو تعوذا منه لهم . ( فإن قلت ) : يعارض التعوذ بالله عن المغرم ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر يرفعه " إن الله تعالى مع الدائن حتى يقضي دينه ، ما لم يكن فيما يكرهه الله تعالى " ، وكان ابن جعفر يقول لخادمه : " اذهب فخذ لي بدين ; فإني أكره أن أبيت الليلة إلا والله معي " قال الطبراني : وكلا الحديثين صحيح . ( قلت ) : المغرم الذي استعاذ منه إما أن يكون في مباح ، ولكن لا وجه عنده لقضائه ، فهو متعرض لهلاك مال أخيه ، أو يستدين وله إلى القضاء سبيل ، غير أنه يرى ترك القضاء ، وهذا لا يصح إلا إذا نزل كلامه - صلى الله عليه وسلم - على التعليم لأمته ; أو يستدين من غير حاجة طمعا في مال أخيه ونحو ذلك ، وحديث جعفر فيمن يستدين لاحتياجه احتياجا شرعيا ونيته القضاء ، وإن لم يكن له سبيل إلى القضاء [ ص: 118 ] في ذلك الوقت ; لأن الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله .

قوله : “ قال محمد بن يوسف " هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطرف الفربري ، أحد الرواة عن البخاري ، يحكي البخاري عنه أنه قال : سمعت خلف بن عامر - يعني الهمداني ، أحد الحفاظ - أنه لم يفرق بين المسيح بالتخفيف والمسيح بالتشديد . وذكرنا عن أبي الهيثم أنه فرق بينهما ، وقد مر الكلام فيه مستوفى .

( ذكر ما يستفاد منه ) :

فيه إثبات عذاب القبر ردا على المعتزلة ، ومن أنكره من غيرهم ، وفيه إثبات وجود الدجال وإثبات خروجه ، وفيه الاستعاذة من الفتن والشرور والسؤال من الله تعالى دفعها عنه ، وفيه بشاعة الدين وشدته وتأديته الدائن إلى ارتكاب الكذب والخلف في الوعد اللذين هما من صفات المنافقين ، وفيه وجوب الاستعاذة من الدين ; لأنه يشين في الدنيا والآخرة . وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الدين راية الله في الأرض ، فإذا أراد الله أن يذل عبدا وضعه في عنقه " . رواه الحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية