صفحة جزء
843 8 - حدثنا آدم ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، قال : أخبرني أبي ، عن ابن وديعة ، عن سلمان الفارسي ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ، ويدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام ، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى .


مطابقته للترجمة في قوله : " ويدهن من دهنه " .

ذكر رجاله ، وهم ستة ; الأول : آدم ابن أبي إياس . الثاني : محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب ، واسمه هشام القرشي العامري أبو الحارث المدني . الثالث : سعيد ابن أبي سعيد ، واسمه كيسان المقبري ، أبو سعيد المدني ، والمقبري نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاورا بها . الرابع : أبو سعيد المقبري . الخامس : عبد الله بن وديعة بن حرام ، أبو وديعة الأنصاري المدني قتل بالحرة . السادس : سلمان الفارسي ، رضي الله تعالى عنه .

( ذكر لطائف إسناده )

فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين . وفيه الإخبار بصيغة الإفراد في موضع . وفيه العنعنة في ثلاثة [ ص: 175 ] مواضع . وفيه القول في أربعة مواضع . وفيه أن رواته كلهم مدنيون . وفيه ثلاثة من التابعين متوالية وهم سعيد وأبوه وابن وديعة ، وقد ذكر ابن سعد ابن وديعة من الصحابة ، وكذا ذكره ابن منده ، وعزاه لأبي حاتم ، وقال الذهبي في تجريد الصحابة : عبد الله بن وديعة بن حرام الأنصاري له صحبة ، وروى عنه أبو سعيد المقبري . فعلى هذا يكون فيه رواية تابعيين عن صحابيين . وفيه رواية الابن عن الأب . وفيه أن ابن وديعة ليس له في البخاري إلا هذا الحديث . وفيه غمز الدارقطني على البخاري حيث قال : إنه اختلف فيه على سعيد المقبري ، فرواه ابن أبي ذئب عنه هكذا ، ورواه ابن عجلان عنه فقال : عن أبي ذر بدل سلمان ، وأرسله أبو معشر عنه فلم يذكر سلمان ولا أبا ذر ، ورواه عبيد الله العمري عنه فقال عن أبي هريرة ، انتهى . قلت : رواية ابن عجلان من حديث أبي ذر أخرجها ابن ماجه فقال : أخبرنا سهل بن أبي سهل وحوثرة بن محمد ، قالا : أخبرنا يحيى بن سعيد القطان ، عن ابن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن عبد الله بن وديعة ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله وتطهر فأحسن طهوره ، ولبس من أحسن ثيابه ، ومس ما كتب الله له من طيب أهله ، ثم أتى الجمعة ولم يلغ ولم يفرق بين اثنين ، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " ، ورواية أبي معشر عن سعيد بن منصور ، ورواية عبيد الله العمري عن أبي يعلى ، ولا يرد كلام الدارقطني لأن رواية البخاري والطريقة التي فيها من أتقن الروايات وأحكمها ، وغيرها لا يلحقها .

ذكر معناه

قوله : “ لا يغتسل رجل " إلى آخره ، مشتمل على شروط سبعة لحصول المغفرة وجاء في غيره من الأحاديث شروط أخرى ، على ما نذكرها إن شاء الله تعالى ; الأول : الاغتسال يوم الجمعة ، وفيه دليل على أنه يدخل وقت غسل الجمعة بطلوع الفجر من يومه ، وهو قول جمهور العلماء . الثاني : التطهر ، وهو معنى " ويتطهر ما استطاع من الطهر " ، وفي رواية الكشميهني " من طهر " بالتنكير ، ويراد به المبالغة في التنظيف ، فلذلك ذكره في باب التفعل ، وهو للتكلف ، والمراد به التنظيف بأخذ الشارب وقص الظفر وحلق العانة ، أو المراد بالاغتسال غسل الجسد وبالتطهر غسل الرأس ، أو المراد به تنظيف الثياب ، وورد ذلك في حديث أبي سعيد وأبي أيوب ، فحديث أبي سعيد عند أبي داود ولفظه : " من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه " وحديث أبي أيوب عند أحمد والطبراني ولفظه " من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه " . الثالث : الادهان وهو معنى قوله " ويدهن من دهنه " والمراد به إزالة شعث الرأس واللحية به ، ويدهن بتشديد الدال من باب الافتعال ، لأن أصله يتدهن ، فقلبت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال . الرابع : مس الطيب ، وهو معنى قوله " أو يمس من طيب بيته " قيل : معناه إن لم يجد دهنا يمس من طيب بيته ، وقيل : أو بمعنى الواو ، وقال الكرماني : وأو في " أو يمس " لا ينافي الجمع بينهما ، وقيل : " بطيب بيته " ليؤذن بأن السنة أن يتخذ الطيب لنفسه ويجعل استعماله عادة له فيدخر في البيت بناء على أن المراد بالبيت حقيقته ، ولكن في حديث عبد الله بن عمرو عند داود " أو يمس من طيب امرأته " والمعنى على هذا : إن لم يتخذ لنفسه طيبا فليستعمل من طيب امرأته ، وفي حديث سلمان عند البخاري ولفظه " أو يمس من طيب بيته " . وقال شيخنا زين الدين في شرح الترمذي : الظاهر أن تقييد ذلك بطيب المرأة والأهل غير مقصود ، وإنما خرج مخرج الغالب ، وإنما المراد بما سهل عليه مما هو موجود في بيته ، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد وأبي هريرة " ويمس من طيب إن كان عنده " أي : في البيت سواء كان فيه طيب أهله أو طيب امرأته .

قوله : “ ثم يخرج " زاد في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة " إلى المسجد " . الخامس : أن لا يفرق بين اثنين وهو معنى قوله " فلا يفرق بين اثنين " وهو كناية عن التبكير أي عليه أن يبكر فلا يتخطى رقاب الناس كذا قاله الكرماني ، ويقال : معناه لا يزاحم رجلين فيدخل بينهما لأنه ربما ضيق عليهما خصوصا في شدة الحر واجتماع الأنفاس . السادس يصلي ما شاء وهو معنى قوله " ثم يصلي ما كتب له " وفي حديث أبي الدرداء عند أحمد والطبراني " وركع ما قضي له " وفي حديث أبي أيوب عند أحمد والطبراني أيضا " فيركع إن بدا له " . السابع : الإنصات ، وهو معنى قوله " ثم ينصت " بضم الياء من الإنصات ، يقال : أنصت إذا سكت وأنصته إذا أسكته ، فهو لازم ومتعد ، والأول المراد هنا ، ويروى ثم أنصت ، وفي أصول مسلم " انتصت " ، بزيادة التاء المثناة من فوق ، قال عياض : وهو وهم . وذكر صاحب الموعب والأزهري وغيرهما : أنصت ونصت وانتصت ، ثلاث لغات بمعنى واحد ، فلا وهم [ ص: 176 ] حينئذ . قوله : " إذا تكلم الإمام " أي : إذا شرع في الخطبة ، وفي حديث قرثع الضبي " حتى يقضي صلاته " ، ونحوه في حديث أبي أيوب .

وأما الزيادة على الشروط السبعة المذكورة ، فمنها : المشي وترك الركوب ، وفي حديث أبي الدرداء عند أحمد ، والطبراني في الكبير " من اغتسل يوم الجمعة " الحديث ، وفيه " ثم مشى إلى الجمعة " ، ولا شك أن المشي في السعي إليها أفضل إلا أن يكون بعيدا عن مكان إقامتها وخشي فوتها فالركوب أفضل ، وهل المراد بالمشي في الذهاب إليها فقط أو الذهاب والرجوع ؟ أما في الذهاب إليها فهو آكد ، وأما في الرجوع فهو مندوب إليه أيضا .

ومنها ترك الأذى ، ففي حديث أبي أيوب : " ولم يؤذ أحدا " ( فإن قلت ) : قوله " فلا يفرق بين اثنين " ، يغني عن هذا . ( قلت ) : الأذى أعم من التفريق بين الاثنين ، فيحتمل أن يكون الأذى في المسجد وفي طريق المسجد ، ويدل عليه ما في حديث أبي الدرداء " ولم يتخط أحدا ولم يؤذ " ، والعطف يقتضي المغايرة ، فهو من ذكر العام بعد الخاص .

ومنها المشي إلى المسجد وعليه السكينة ، وفي حديث أبي أيوب " ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد " ، والمراد به التؤدة في مشيه إلى الجمعة وتقصير الخطا .

ومنها الدنو من الإمام ، كما جاء في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه ، ثم المراد بالدنو من الإمام هل هو حالة الخطبة أو حالة الصلاة إذا تباعد ما بين المنبر والمصلى مثلا ؟ الظاهر أن المراد حينئذ الدنو منه في حالة الخطبة لسماعها ، وفي حديث ابن عباس عند البزار والطبراني في الأوسط " ثم دنا حيث يسمع خطبة الإمام " والحديث ضعيف .

ومنها ترك اللغو ، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود " ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة ، كانت كفارة لما بينهما ، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا " ، وفي حديث أبي طلحة عند الطبراني في الكبير " وأنصت ولم يلغ في يوم الجمعة " ، الحديث ، واللغو قد يكون بغير الكلام كمس الحصى وتقليبه بحيث يشغل سمعه وفكره ، وفي بعض الأحاديث " ومن مس الحصى فقد لغا " .

ومنها الاستماع ، وهو إلقاء السمع لما يقوله الخطيب ، ( فإن قلت ) : الإنصات يغني عنه . ( قلت ) : لا ، لأن الإنصات ترك الكلام والاستماع ما ذكرناه ، وقد يستمع ولا ينصت بأن يلقي سمعه لما يقوله وهو يتكلم بكلام يسير ، أو يكون قوي الحواس بحيث لا يشتغل بالاستماع عن الكلام ولا بالكلام عن الاستماع ، فالكمال الجمع بين الإنصات والاستماع .

قوله : “ ما بينه وبين الجمعة الأخرى " أي : ما بين يوم الجمعة هذا وبين يوم الجمعة الأخرى ، قوله : “ الأخرى " يحتمل الماضية قبلها والمستقبلة بعدها ، لأن الأخرى تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بكسرها .

( ذكر ما يستفاد منه )

فيه استحباب الغسل يوم الجمعة . وقوله : " لا يغتسل " إلى آخره ، هو محمول على الغسل الشرعي عند جمهور العلماء ، وحكي عن المالكية تجويزه بماء الورد ، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة " . وفيه استحباب تنظيف ثيابه يوم الجمعة . وفيه استحباب الادهان والتطيب . وفيه كراهة التخطي يوم الجمعة ، وقال الشافعي : أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك . وكان مالك لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر . وفيه مشروعية التنفل قبل صلاة الجمعة بما شاء لقوله صلى الله عليه وسلم : " صلى ما كتب له " . وفيه وجوب الإنصات لورود الأمر بذلك .

واختلف العلماء في الكلام : هل هو حرام أم مكروه كراهة تنزيه ؟ وهما قولان للشافعي قديم وجديد ، قال القاضي : قال مالك وأبو حنيفة وعامة الفقهاء : يجب الإنصات للخطبة . وحكي عن الشعبي والنخعي أنه لا يجب إلا إذا تلي فيها القرآن . واختلفوا إذا لم يسمع الإمام ، هل يلزمه الإنصات كما لو سمعه ؟ فقال الجمهور : يلزمه . وقال النخعي وأحمد والشافعي في أحد قوليه : لا يلزمه . ولو لغا الإمام هل يلزمه الإنصات أم لا ؟ فيه قولان .

وفيه أن المغفرة ما بينه وبين الجمعة الأخرى مشروطة بوجود ما تقدم من الأمور السبعة المذكورة في الحديث ، ( فإن قلت ) : في حديث نبيشة " يكون كفارة للجمعة التي تليها " فما وجه الجمع بين الحديثين ؟ ( قلت ) : يحتمل أن يحمل الحديثان على حالين ، فإن كانت له ذنوب في الجمعة التي قبلها كفرت ما قبلها ، فإن لم تكن له ذنوب فيها بأن حفظ فيها أو كفرت بأمر آخر إما بالأيام الثلاثة الزائدة على الأسبوع التي عينها في الحديث " وزيادة ثلاثة أيام " فتكفر عنه ذنوب الجمعة المستقبلة . ( فإن قلت ) : تكفير الذنوب الماضية بالحسنات وبالتوبة وبتجاوز الله تعالى ، فكيف يعقل تكفير الذنب قبل وقوعه ؟ ( قلت ) : المراد عدم المؤاخذة به إذا وقع ، ومنه ما ورد في مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر ، ومنه حديث أبي قتادة في صحيح مسلم " صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده " .

التالي السابق


الخدمات العلمية