صفحة جزء
852 17 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو عامر العقدي ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان عن أبي جمرة الضبعي ، عن ابن عباس أنه قال : إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين .


مطابقته للجزء الأول من الترجمة إنما تتجه إذا كان المراد من جواثى أنها تكون اسم قرية من قرى البحرين ، وأما إذا كان جواثى اسم مدينة فالتطابق يكون للجزء الثاني من الترجمة ، وسنحقق الكلام فيما يتعلق بجواثى .

ذكر رجاله ، وهم خمسة ; الأول : محمد بن المثنى بلفظ المفعول من التثنية بالثاء المثلثة ، وقد مر في باب حلاوة الإيمان . الثاني : أبو عامر العقدي ، واسمه عبد الملك بن عمرو ، والعقدي بفتح العين المهملة وفتح القاف ، نسبة إلى العقد قوم من قيس ، وهم صنف من الأزد مر في باب أمور الإيمان . الثالث : إبراهيم بن طهمان ، بفتح الطاء المهملة مر في باب القسمة وتعليق القنو في المسجد . الرابع : أبو جمرة ، بفتح الجيم ، واسمه نصر بن عمران ، والضبعي ، بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة وبالعين المهملة ، نسبة إلى ضبيعة ، أبو حي من بكر بن وائل . الخامس : عبد الله بن عباس .

( ذكر لطائف إسناده )

فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع . وفيه العنعنة في موضعين . وفيه القول في ثلاثة مواضع . وفيه أن الأولين من الرواة بصريان . والثالث هروي . والرابع بصري . وفيه " عن ابن عباس " هكذا رواه الحفاظ من أصحاب إبراهيم بن طهمان عنه ، وخالفهم المعافى بن عمران فقال : " عن ابن طهمان عن محمد بن زياد عن أبي هريرة " ، أخرجه النسائي قالوا : إنه خطأ من المعافى على أنه يحتمل أن يكون لإبراهيم فيه إسنادان .

والحديث من أفراد البخاري ، وأخرج أبو داود وقال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله المخرمي ، لفظه ، قالا : حدثنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان عن أبي جمرة عن ابن عباس قال : إن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة [ ص: 187 ] لجمعة جمعت بجواثى ، قرية من قرى البحرين ، قال عثمان : قرية من قرى عبد القيس .

ذكر معناه ، قوله : “ جمعت " بضم الجيم وتشديد الميم المكسورة ، يقال : جمع القوم تجميعا ، أي : شهدوا الجمعة وقضوا الصلاة فيها ، وفي رواية أبي داود " جمعت في الإسلام " كما ذكرنا الآن . قوله : " بعد جمعة " وفي رواية للبخاري في أواخر المغازي " بعد جمعة جمعت " . قوله : في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية وكيع بالمدينة ووقع في رواية المعافى " بمكة " ، وهو خطأ بلا نزاع . قوله : " في مسجد عبد القيس " هو علم لقبيلة كانوا ينزلون بالبحرين ، وهو موضع قريب من بحر عمان بقرب القطيف والأحساء . قوله : " بجواثى " بضم الجيم وتخفيف الواو وبالثاء المثلثة وبالقصر ، ومنهم من يهمزها ، وهي قرية من قرى البحرين ، وهكذا وقع في رواية وكيع كما ذكرناه عن أبي داود . وفي رواية عثمان شيخ أبي داود : قرية من قرى عبد القيس ، وكذا وقع في رواية الإسماعيلي من رواية محمد بن أبي حفصة عن ابن طهمان . وحكى ابن التين عن الشيخ أبي الحسن : أنها مدينة ، وفي الصحاح للجوهري والبلدان للزمخشري : جواثى حصن بالبحرين . وقال أبو عبيد البكري : هي مدينة بالبحرين لعبد القيس ، قال امرؤ القيس :


ورحنا كأنا من جواثى عشية نعالي النعاج بين عدل ومحقب

يريد كأنا من تجار جواثى لكثرة ما معهم من الصيد ، وأراد كثرة أمتعة تجار جواثى ، قلت : كثرة الأمتعة تدل غالبا على كثرة التجار وكثرة التجار تدل على أن جواثى مدينة قطعا ، لأن القرية لا يكون فيها تجار كثيرون غالبا عادة ، ( فإن قلت ) : قد يطلق على المدينة اسم قرية كما في قوله تعالى : لولا نـزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يعني مكة والطائف ، ( قلت ) : إطلاق لفظ القرية على المدينة باعتبار المعنى اللغوي ولا يخرج ذلك عن كونه مدينة فلا يتم استدلال من يجيز الجمعة في القرى بهذا الوجه كما سنذكره مستوفى عن قريب إن شاء الله تعالى .

( ذكر ما يستفاد منه )

استدلت الشافعية بهذا الحديث على أن الجمعة تقام في القرية إذا كان فيها أربعون رجلا أحرارا مقيمين ، حتى قال البيهقي : باب العدد الذين إذا حضروا في قرية وجبت عليهم ، ثم ذكر فيه إقامة الجمعة بجواثى ، قلنا : لا نسلم أنها قرية ، بل هي مدينة ، كما حكينا عن البكري وغيره ، حتى قيل كان يسكن فيها فوق أربعة آلاف نفس ، والقرية لا تكون كذلك ، وإطلاق القرية عليها من الوجه الذي ذكرناه ، ولئن سلمنا أنها قرية فليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقرهم عليه ، واختلف العلماء في الموضع الذي تقام فيه الجمعة ، فقال مالك : كل قرية فيها مسجد أو سوق ، فالجمعة واجبة على أهلها ، ولا يجب على أهل العمود وإن كثروا ، لأنهم في حكم المسافرين . وقال الشافعي وأحمد : كل قرية فيها أربعون رجلا أحرارا بالغين عقلاء مقيمين بها لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء ، إلا ظعن حاجة ، فالجمعة واجبة عليهم ، وسواء كان البناء من حجر أو خشب أو طين أو قصب أو غيرها بشرط أن تكون الأبنية مجتمعة ، فإن كانت متفرقة لم تصح ، وأما أهل الخيام فإن كانوا ينتقلون من موضعهم شتاء أو صيفا لم تصح الجمعة بلا خلاف ، وإن كانوا دائمين فيها شتاء وصيفا وهي مجتمعة بعضها إلى بعض ففيه قولان ، أصحهما : لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم ، وبه قال مالك ، والثاني : تجب عليهم وتصح منهم ، وبه قال أحمد وداود ، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع ، أو في مصلى المصر ، ولا تجوز في القرى وتجوز في منى إذا كان الأمير أمير الحاج أو كان الخليفة مسافرا . وقال محمد : لا جمعة بمنى ولا تصح بعرفات في قولهم جميعا . وقال أبو بكر الرازي في كتابه الأحكام : اتفق فقهاء الأمصار على أن الجمعة مخصوصة بموضع لا يجوز فعلها في غيره ، لأنهم مجتمعون على أنها لا تجوز في البوادي ومناهل الأعراب ، وذكر ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان يرى على أهل المناهل والمياه أنهم يجمعون .

ثم اختلف أصحابنا في المصر الذي تجوز فيه الجمعة فعن أبي يوسف : هو كل موضع يكون فيه كل محترف ويوجد فيه جميع ما يحتاج إليه الناس من معايشهم عادة ، وبه قاض يقيم الحدود ، وقيل : إذا بلغ سكانه عشرة آلاف . وقيل : عشرة آلاف مقاتل . وقيل : بحيث أن لو قصدهم عدو لأمكنهم دفعه . وقيل : كل موضع فيه أمير وقاض يقيم الحدود . وقيل : أن لو اجتمعوا إلى أكبر مساجدهم لم يسعهم . وقيل : أن يكون بحال يعيش كل محترف بحرفته من سنة إلى سنة من غير أن يشتغل بحرفة أخرى . وعن محمد موضع مصره الإمام فهو مصر حتى إنه لو بعث إلى قرية نائبا لإقامة الحدود والقصاص تصير مصرا فإذا عزله ودعاه يلحق بالقرى .

[ ص: 188 ] ثم استدل أبو حنيفة على أنها لا تجوز في القرى بما رواه عبد الرزاق في مصنفه : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضي الله تعالى عنه ، قال : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع . ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه : حدثنا عباد بن العوام ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي رضي الله تعالى عنه ، قال : لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع ، أو مدينة عظيمة ، وروى أيضا بسند صحيح : حدثنا جرير عن منصور عن طلحة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن أنه قال : قال علي رضي الله تعالى عنه : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع . ( فإن قلت ) : قال النووي حديث علي ضعيف متفق على ضعفه ، وهو موقوف عليه بسند ضعيف منقطع . ( قلت ) : كأنه لم يطلع إلا على الأثر الذي فيه الحجاج بن أرطاة ، ولم يطلع على طريق جرير عن منصور فإنه سند صحيح ، ولو اطلع لم يقل بما قاله ، وأما قوله : متفق على ضعفه ، فزيادة من عنده ولا يدرى من سلفه في ذلك ، على أن أبا زيد زعم في الأسرار أن محمد بن الحسن قال : رواه مرفوعا معاذ وسراقة بن مالك رضي الله تعالى عنهما . ( فإن قلت ) : في سنن سعيد بن منصور عن أبي هريرة أنهم كتبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه من البحرين يسألونه عن الجمعة ، فيكتب إليهم : أجمعوا حيث ما كنتم . وذكره ابن أبي شيبة بسند صحيح بلفظ : جمعوا ، وفي المعرفة أن أبا هريرة هو السائل ، وحسن سنده . وروى الدارقطني عن الزهري عن أم عبد الله الدوسية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجمعة واجبة على أهل كل قرية فيها إمام ، وإن لم يكونوا إلا أربعة " . وزاد أبو أحمد الجرجاني حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة ، وفي المصنف عن مالك : " كان أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمعون " . وروى أبو داود : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك - وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره - عن أبيه ، عن كعب بن مالك ، أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة ، فقلت له : إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة ؟ قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات . ( قلت ) : كم أنتم يومئذ ؟ قال : أربعون . وأخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي وزاد " قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم " . وفي المعرفة قال الزهري : " لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة ليقرئهم القرآن جمع بهم ، وهم اثنا عشر رجلا ، فكان مصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة بالمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم " . قال البيهقي : يريد الاثنا عشر النقباء الذين خرجوا به إلى المدينة وكانوا له ظهيرا . وفي حديث كعب : " جمع بهم أسعد وهم أربعون " وهو يريد جميع من صلى معه ممن أسلم من أهل المدينة مع النقباء . وعن جعفر بن برقان قال : كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه إلى عدي بن عدي : أما أهل قرية ليسوا بأهل عمود فأمر عليهم أميرا يجمع بهم ، رواه البيهقي .

قلت : الجواب عن الأول معناه : جمعوا حيث ما كنتم من الأمصار ، ألا ترى أنها لا تجوز في البراري . وعن الثاني أن رواته كلهم عن الزهري متروكون ، ولا يصح سماع الزهري من الدوسية . وعن الثالث : أنه ليس فيه دليل على وجوب الجمعة على أهل القرى . وعن الرابع : أن فيه محمد بن إسحاق ، فقال البيهقي : الحفاظ يتوقون ما ينفرد به ابن إسحاق وهنا قد تفرد به ، والعجب منه تصحيحه هذا الحديث والحال أنه كان يتكلم في ابن إسحاق بأنواع الكلام . ( فإن قلت ) : قال الحاكم : إنه على شرط مسلم . ( قلت ) : ليس كما قال ، لأن مداره على ابن إسحاق ، ولم يخرج له مسلم إلا متابعة .

وعن الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بذلك ولا أقرهم عليه . وعن السادس : أنه رأي عمر بن عبد العزيز ليس بحجة ، ولئن سلمنا فليس فيه ذكر عدد ، وقال عبد الحق في أحكامه : لا يصح في عدد الجمعة شيء . ( فإن قلت ) : قال ابن حزم في معرض الاستدلال لمذهبه : ومن أعظم البرهان أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المدينة وإنما هي قرى صغار متفرقة فبنى مسجده في بني مالك بن النجار وجمع فيه في قرية ليست بالكبيرة ولا مصر هناك . ( قلت ) : هذا ليس بشيء من وجوه ; الأول : قد صحح قول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الذي هو أعلم الناس بأمر المدينة : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع . الثاني أن الإمام أي موضع حل جمع . الثالث التمصير للإمام فأي موضع مصره مصر . وأما معنى حديث أبي داود فقوله : “ في هزم النبيت " الهزم بفتح الهاء وسكون الزاي بعدها ميم موضع بالمدينة ، والنبيت بفتح النون وكسر الباء الموحدة بعدها ياء آخر الحروف وفي آخره تاء مثناة من فوق وهي حي من اليمن . قوله : " من حرة بني بياضة " الحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد [ ص: 189 ] الراء قرية على ميل من المدينة ، وبنو بياضة بطن من الأنصار منهم سلمة بن صخر البياضي له صحبة ، قوله : “ في نقيع " بفتح النون وكسر القاف وسكون الياء آخر الحروف ، وفي آخره عين مهملة ، بطن من الأرض يستنقع فيه الماء مدة فإذا نضب الماء أنبت الكلأ ، ومنه حديث عمر رضي الله عنه أنه حمى النقيع لخيل المسلمين ، وقد يصحفه بعض الناس فيرويه بالباء الموحدة ، والبقيع بالباء موضع القبور وهو بقيع الغرقد . قوله : " يقال له نقيع الخضمات " بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين ، قال ابن الأثير : نقيع الخضمات موضع بنواحي المدينة .

التالي السابق


الخدمات العلمية