صفحة جزء
باب ما ذكر في ذهاب موسى صلى الله عليه في البحر إلى الخضر
الكلام فيه على أنواع ; الأول : أن التقدير هذا باب في بيان ما ذكر - إلى آخره ، وارتفاع " باب " على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو مضاف إلى ما بعده ، والذهاب بالفتح مصدر ذهب ، قال الصغاني : وذهب مر ذاهبا ومذهبا وذهوبا وذهب مذهبا حسنا .

الثاني : وجه المناسبة بين البابين أن المذكور في الباب الأول هو الاغتباط في العلم ، وهذا الباب في الترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم ، وما يغتبط فيه يتحمل فيه المشقة ، ووجه آخر وهو أن المغتبط شأنه الاغتباط وإن بلغ المحل الأعلى من كل الفضائل ، وهذا الباب فيه أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى من طلب الفضيلة والكمال حتى قاسى تعب البر وركوب البحر .

الثالث : أن هذا التركيب يفيد أن موسى عليه الصلاة والسلام ركب البحر لما توجه في طلب الخضر مع أن الذي ثبت عند البخاري وغيره أنه خرج إلى البر ، وإنما ركب البحر في السفينة هو والخضر بعد أن التقيا ، ويمكن أن يوجه هذا بتوجيهين ; أحدهما أن المقصود من الذهاب إنما حصل بتمام القصة ، ومن تمامها أنه ركب مع الخضر البحر فأطلق على جميعها ذهابا مجازا من قبيل إطلاق اسم الكل على البعض أو من قبيل تسمية السبب باسم ما تسبب عنه ، والآخر أن الظرف - وهو قوله " في البحر " في قوله " وكان يتبع أثر الحوت في البحر " - يحتمل أن يكون لموسى ويحتمل أن يكون للحوت ، وإذا كان كذلك فلعله قوي عنده أحد الاحتمالين بما روى عبد بن حميد عن أبي العالية أن موسى عليه الصلاة والسلام التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر ، انتهى . والتوصل إلى جزيرة في البحر لا يقع إلا بسلوك البحر وبما رواه أيضا من طريق الربيع بن أنس قال : انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار طاقة مفتوحة فدخلها موسى عليه الصلاة والسلام على أثر الحوت حتى انتهى إلى الخضر - فهذان [ ص: 59 ] الأثران الموقوفان برجال ثقات يوضحان أنه ركب البحر إليه ، وعن هذا قال ابن رشيد : يحتمل أن يكون ثبت عند البخاري أن موسى عليه الصلاة والسلام توجه في البحر لما طلب الخضر ، وحمل ابن المنير كلمة " إلى " بمعنى مع ; يعني مع الخضر . وقال بعضهم : يحمل قوله " إلى الخضر " على أن فيه حذفا ; أي إلى قصد الخضر ، لأن موسى عليه السلام لم يركب البحر لحاجة نفسه ، وإنما ركبه تبعا للخضر . قلت : هذا لا يقع جوابا عن الإشكال المذكور ، وإنما هو كلام طائح ولا يخفى ذلك .

الرابع : أن موسى عليه السلام هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام ، ولد وعمر عمران سبعون سنة ، وعمر عمران مائة وسبعا وثلاثين سنة ، وعمر موسى عليه السلام مائة وعشرين سنة . وقال الفربري : مات موسى وعمره مائة وستون سنة ، وكانت وفاته في التيه في سابع آذار لمضي ألف سنة وستمائة وعشرين سنة من الطوفان في أيام منوجهر الملك ، وكان عمره لما خرج ببني إسرائيل من مصر ثمانين سنة ، وأقام بالتيه أربعين سنة ، ولما مات الريان بن الوليد الذي ولى يوسف على خزائن مصر وأسلم على يديه ملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى ، وكان جبارا ، وقبض الله يوسف عليه السلام ، وطال ملكه ثم هلك ، وملك بعده أخوه الوليد بن مصعب بن ريان بن إراشة بن شروان بن عمرو بن فاران بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام ، وكان أعتى من قابوس ، وامتدت أيام ملكه حتى كان فرعون موسى عليه السلام الذي بعثه الله إليه ، ولم يكن في الفراعنة أعتى منه ولا أطول عمرا في الملك منه ، عاش أربعمائة سنة ، وموسى معرب موشى بالشين المعجمة ، سمته به آسية بنت مزاحم امرأة فرعون لما وجدوه في التابوت ، وهو اسم اقتضاه حاله لأنه وجد بين الماء والشجر ، فمو بلغة القبط الماء وشى الشجر ، فعرب فقيل موسى . وقال الصغاني : هو عبراني عرب . وقال أبو عمرو بن العلاء : موسى اسم رجل وزنه مفعل فعلى ، هذا يكون مصروفا في النكرة . وقال الكسائي : وزنه فعلى ، وهو لا ينصرف بحال . قلت : إن كان عربيا يكون اشتقاقه من الموس وهو حلق الشعر ، فالميم أصلية ، ويقال من أوسيت رأسه إذا حلقته بالموسى ، فعلى هذا الميم زائدة . وقال ابن فارس : النسبة إليه موسي ; وذلك لأن الياء فيه زائدة - كذا قال الكسائي . وقال ابن السكيت في كتاب التصغير : تصغير اسم رجل مويسي ، كأن موسى فعلى ، وإن شئت قلت مويسي بكسر السين وإسكان الياء غير منونة ، ويقال في النكرة هذا مويسي ومويس آخر - فلم تصرف الأول لأنه أعجمي معرفة ، وصرفت الثاني لأنه نكرة ، وموسى في هذا التصغير مفعل . قال : فأما موسى الحديدة فتصغيرها مويسية ، فمن قال هذه موسى ومويس . قال : وهي تذكر وتؤنث ، وهي من الفعل مفعل والياء أصلية .

الخامس : البحر خلاف البر ، قيل سمي بذلك لعمقه واتساعه ، والجمع أبحر وبحار وبحور . وقال ابن السكيت : تصغير بحور وبحار أبيحر ، ولا يجوز أن تصغر بحار على لفظها فتقول بحير ; لأن ذلك مضارع الواحد فلا يكون بين تصغير الواحد وتصغير الجمع إلا التشديد ، والعرب تنزل المشدد منزلة المخفف ، والتركيب يدل على البسط والتوسع .

واختلفوا في البحرين في قوله تعالى : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين - فقيل : هو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق . وقيل : طنجة . وقيل : أفريقية . وذكر السهيلي أنها بحر الأردن وبحر القلزم ، وقيل : بحر المغرب وبحر الزقاق . قلت : بحر فارس ينبعث من بحر الهند شمالا بين مكران ، وهي على فم بحر فارس من شرقيه وبين عمان ، وهي على فم بحر فارس من غربيه ، وبحر الروم هو بحر أفريقية والشام يمتد من عند البحر الأخضر إلى المشرق ويتصل بطرسوس ، وبحر طنجة بينها وبين سبتة وغيرهما من بر العدوة من الأندلس ، وبحر أفريقية هو بحر طرابلس الغرب يمتد منها شرقا حتى يتجاوز حدود أفريقية ، وهو الذي يتصل بإسكندرية ، والكل يسمى بحر الروم ، وإنما يضاف إلى البلاد عند الاتصال إليها ، وبحر القلزم يأخذ من القلزم وهي بلدة للسودان على طرفه الشمال جنوبا بميله إلى المشرق حتى يصير عند القصير ، وهي فرصة قوص والأردن - بضم الهمزة وسكون الراء وضم الدال المهملتين وتشديد النون في آخرها ، بلدة من بلاد الغور من الشام ولا أعرف بحرا ينسب إليها ، وإنما نسب إليها نهر كبير يسمى نهر الأردن ، وهو نهر الغور ، ويسمى الشريعة أيضا ، وآخره ينتهي إلى البحيرة المنتنة وهي بحيرة زغر . وبحر الزقاق بين طنجة وبر الأندلس هناك يسمى بحر الزقاق ، وهو يضيق هناك ، وبحر الغرب هو البحر الأخضر الذي لا يعرف منه إلا ما يلي الغرب من أقاصي الحبشة إلى خلف بلاد الرومية ، وهي بحيث لا يدرك آخرها لأن المراكب لا تجري فيها ، وله خليج إلى الأندلس وطنجة .

السادس : الخضر والكلام فيه على [ ص: 60 ] أنواع ; الأول في اسمه ، فذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه أنه بليا - بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وبالياء آخر الحروف ، ويقال إبليا بزيادة الهمزة في أوله . وقيل : اسمه خضرون - ذكره أبو حاتم السجستاني . وقيل : أرميا ، وقيل : اسمه اليسع - قاله مقاتل ، ويسمى بذلك لأن علمه وسع ست سماوات وست أرضين ، ووهاه ابن الجوزي ، واليسع اسم أعجمي ليس بمشتق . وقيل اسمه أحمد - حكاه القشيري ووهاه ابن دحية ; فإنه لم يسم أحد قبل نبينا عليه السلام بذلك . وقيل : عامر - حكاه ابن دحية في كتابه مرج البحرين ، والأول هو المشهور . والخضر بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمة لقبه - ويجوز إسكان الضاد مع كسر الخاء وفتحها كما في نظائره .

الثاني في سبب تلقيبه بذلك ، وهو ما جاء في الصحيح في كتاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال : إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء - والفروة وجه الأرض ، وقيل النبات المجتمع اليابس ، وقيل سمي به لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله - قاله مجاهد . وقال الخطابي : إنما سمي به لحسنه وإشراق وجهه ، وكنيته أبو العباس .

الثالث في نسبه ، فقال ابن قتيبة هو بليا بن ملكان - بفتح الميم وسكون اللام - ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام . وقيل : خضرون بن عماييل بن الفتر بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام . وقيل : هو ابن حلقيا . وقيل : ابن قابيل بن آدم - ذكره أبو حاتم السجستاني . وقيل : إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر - وهذا غريب جدا ، قال ابن الجوزي : رواه محمد بن أيوب عن أبي لهيعة - وهما ضعيفان . وقيل : إنه ابن ملك ، وهو أخو إلياس - قاله السدي . وقيل : ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه . وروى الحافظ ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال : الخضر أمه رومية وأبوه فارسي . وروى أيضا بإسناده إلى الدارقطني : حدثنا محمد بن الفتح القلانسي ، حدثنا العباس بن عبد الله ، حدثنا داود بن الجراح ، حدثنا مقاتل بن سليمان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الخضر بن آدم لصلبه ، ونسئ له في أجله حتى يكذب الدجال - وهذا منقطع غريب . وقال الطبري : قيل إنه الرابع من أولاده ، وقيل إنه من ولد عيصوا - حكاه ابن دحية . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه من سبط هارون ، وكذا قال ابن إسحاق . وقال عبد الله بن مؤدب : إنه من ولد فارس . وقال بعض أهل الكتاب : إنه ابن خالة ذي القرنين .

الرابع في أي وقت كان ; قال الطبري : كان في أيام أفريدون . قال : وقيل كان مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان أيام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، وذو القرنين عند قوم هو أفريدون ، ويقال : إنه كان وزير ذي القرنين وإنه شرب من ماء الحياة . وذكر الثعلبي اختلافا أيضا هل كان في زمن إبراهيم عليه السلام أم بعده بقليل أم بكثير ؟ وذكر بعضهم أنه كان في زمن سليمان عليه السلام وأنه المراد بقوله " قال الذي عنده علم من الكتاب " - حكاه الداودي . ويقال : كان في زمن كستاسب بن لهراسب . قال ابن جرير : والصحيح أنه كان مقدما على زمن أفريدون حتى أدركه موسى عليه السلام .

الخامس هل كان وليا أم نبيا ؟ وبالأول جزم القشيري ، واختلف أيضا هل كان نبيا مرسلا أم لا على قولين ، وأغرب ما قيل أنه من الملائكة ، والصحيح أنه نبي ، وجزم به جماعة . وقال الثعلبي : هو نبي على جميع الأقوال معمر محجوب عن الأبصار - وصححه ابن الجوزي أيضا في كتابه لقوله تعالى حكاية عنه : وما فعلته عن أمري - فدل على أنه نبي أوحي إليه ، ولأنه كان أعلم من موسى في علم مخصوص ، ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي وإن كان يحتمل أن يكون أوحي إلى نبي في ذلك العصر يأمر الخضر بذلك ، ولأنه أقدم على قتل ذلك الغلام وما ذلك إلا للوحي إليه في ذلك ; لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفس بمجرد ما يلقى في خلده لأن خاطره ليس بواجب العصمة .

السادس في حياته ; فالجمهور على أنه باق إلى يوم القيامة ، قيل : لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة . وقيل : لأنه شرب من عين الحياة . وقال ابن الصلاح : هو حي عند جماهير العلماء والصالحين ، والعامة معهم في ذلك ، وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين . ونقله النووي عن الأكثرين ، وقيل : إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حتى يرتفع القرآن . وفي صحيح مسلم في حديث الدجال أنه يقتل رجلا ثم يحييه ، قال إبراهيم بن سفيان راوي كتاب مسلم : يقال له إنه الخضر - وكذلك قال معمر في مسنده ، وأنكر حياته جماعة منهم البخاري وإبراهيم الحربي وابن المناوي وابن الجوزي .

فإن قيل : خضر علم ، فكيف دخل عليه آلة التعريف ؟ قيل له : قد يتأول العلم بواحد من الأمة المساوية فيجري مجرى رجل وفرس ، فيجري على إضافته وعلى إدخال اللام [ ص: 61 ] عليه ، ثم بعض الأعلام دخول لام التعريف عليه لازم نحو النجم والثريا وبعضها غير لازم نحو الحارث ، والخضر من هذا القسم . قلت : العلم إذا لوحظ فيه معنى الوصف يجوز إدخال اللام عليه كالعباس والحسن وغيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية