صفحة جزء
1021 ( وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسجد على غير وضوء )


هكذا وقع في رواية الأكثرين. وفي رواية الأصيلي بحذف غير، وهذا هو اللائق بحاله ; لأنه لم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بغير وضوء إلا الشعبي ، ولكن الأصح على غير وضوء، لما روى ابن أبي شيبة من طريق عبيد بن الحسن ، عن رجل زعم أنه كنفسه، عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء، ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد، وما يتوضأ . وذكر ابن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن زكريا ، عن الشعبي في الرجل يقرأ السجدة، وهو على غير وضوء، فكان يسجد .

وروى أيضا : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن الأعمش ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن قال : كان يقرأ السجدة وهو على غير وضوء، وهو على غير القبلة، وهو يمشي فيومئ برأسه إيماء ثم يسلم .

فإن قلت : روى البيهقي بإسناد صحيح، عن الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر .

قلت : وفق بينهما بأن حمل قوله " طاهر " على الطهارة الكبرى، أو يكون هذا على حالة الاختيار، وذلك على حالة الضرورة.

وقال ابن بطال معترضا على البخاري في هذه الترجمة : إن أراد الاحتجاج على قول ابن عمر بسجود المشركين، فلا حجة فيه ; لأن سجودهم لم يكن على وجه العبادة لله تعالى، وإنما كان لما ألقى الشيطان على لسانه صلى الله عليه وسلم "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم ترتجى" بعد قوله تعالى : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فسجدوا لما سمعوا من تعظيم آلهتهم، فلما علم صلى الله عليه وسلم ما ألقي على لسانه حزن له، فأنزل الله تسلية عما عرض له وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، فلا يستنبط من سجودهم جواز السجود على غير الوضوء ; لأن المشرك نجس لا يصح له الوضوء ولا السجود إلا بعد عقد الإسلام، وإن أراد الرد على ابن عمر بقوله " والمشرك نجس ليس له وضوء " فهو أشبه بالصواب، وأجاب ابن رشيد بأن مقصود البخاري تأكيد مشروعية السجود بأن المشرك قد أقر على السجود، وسمى الصحابي فعله [ ص: 100 ] سجودا مع عدم أهليته، فالمتأهل لذلك أحرى بأن يسجد على كل حالة، ويؤيده ما في حديث ابن مسعود أن الذي ما سجد عوقب بأن قتل كافرا، فلعل جميع من وفق للسجود يومئذ ختم له بالحسنى، فأسلم ببركة السجود. انتهى.

قلت : فيه بحث من وجوه :

الأول :أن تقريرهم على السجود لم يكن لاعتبار سجودهم، وإنما كان طمعا لإسلامهم.

الثاني : أن تسمية الصحابي فعلهم سجودا بالنظر إلى الصورة مع علمه بأن سجودهم كلا سجود ; لأن السجود طاعة، والطاعة موقوفة على الإيمان.

الثالث : أن قوله " ولعل جميع من وفق. . " إلى آخره - ظن وتخمين، فلا يبتنى عليه حكم.

ثم الذي قاله ابن بطال : إنما كان لما ألقى الشيطان على لسانه صلى الله عليه وسلم. . إلى آخره - موجود في كثير من التفاسير، ذكروا أنه لما قرأ سورة النجم، ووقع في السورة ذكر آلهتهم في قوله تعالى : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وسمعوا ذكر آلهتهم في القرآن، فربما ظنوه أو بعضهم أن ذلك مدح لها، وقيل : إنهم سمعوا بعد ذكر آلهتهم تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى، فقيل : إن بعضهم هو القائل لها، أي بعض المشركين لما ذكر آلهتهم خشوا أن يذمها، فبدر بعضهم فقال ذلك، سمعه من سمعه، وظنوا أو بعضهم أن ذلك من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل : إن إبليس لعنه الله هو الذي قال ذلك حين وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الآية، فظنوا أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي قال ذلك، وقيل : إن إبليس أجرى ذلك على لسانه صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل قطعا، وما كان الله ليسلطه على نبيه، وقد عصمه منه ومن غيره، وكذلك كون إبليس قالها، وشبه صوته بصوت النبي صلى الله عليه وسلم باطل أيضا، وإذا كان لا يستطيع أن يتشبه به في النوم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الصحيح، وهو قوله " من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتشبه بي ولا يتمثل بي " فإذا كان لا يقدر على التشبه به في المنام من الرائي له، والنائم ليس في محل التكليف والضبط، فكيف يتشبه به في حالة استيقاظ من يسمع قراءته هذا من المحال الذي لا يقبله قلب مؤمن، وهذا الحديث الذي ذكر فيه ذكر ذلك أكثر طرقه منقطعة معلولة، ولم يوجد لها إسناد صحيح، ولا متصل إلا من ثلاثة طرق :

أحدها: ما رواه البزار في مسنده قال : حدثنا يوسف بن حماد حدثنا أمية بن خالد حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فيما أحسب أشك في الحديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان بمكة ، فقرأ سورة النجم حتى انتهى إلى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فجرى على لسانه : تلك الغرانيق العلى الشفاعة منهم ترتجى، قال : فسمع ذلك مشركو أهل مكة ، فسروا بذلك، فاشتد على رسول الله، فأنزل الله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ، ثم قال البزار : ولا نعلمه يروى بإسناد متصل يجوز ذكره، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، وغيره يرسله، عن سعيد بن جبير قال : وإنما يعرف هذا من حديث الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وفي تفسير أبي بكر بن مردويه ، عن سعيد بن جبير لا أعلمه إلا عن ابن عباس : أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ النجم، فلما بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وشفاعتها ترتجى، فلما بلغ آخرها سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون، فأنزل الله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إلى قوله : عذاب يوم عقيم قال يوم بدر .

والطريق الثاني : رواية محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس .

والطريق الثالث : ما رواه ابن مردويه في " تفسيره " قال : حدثنا أحمد بن كامل حدثنا محمد بن سعيد ، حدثني أبي، حدثنا عمي، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس : قوله أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أنزلت عليه آلهة العرب، فسمع المشركون يتلوها، وقالوا : إنه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا، فبينما هو يتلوها ألقى الشيطان : تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى، فعلق يتلوها، فنزل جبريل عليه السلام فنسخها، ثم قال : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا الآية، وظاهر هذه الرواية الثالثة أن الآية أنزلت عليه في الصلاة، وأنه تلا ما أنزل عليه، وأن الشيطان ألقى عليه هذه الزيادة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم علق يتلوها يظن أنها أنزلت، وأنه اشتبه عليه ما ألقاه الشيطان بوحي الملك إليه، وهذا أيضا ممتنع في حقه أن يدخل عليه فيما حقه البلاغ، وكيف يشتبه عليه مزج الذم بالمدح، فآخر الكلام وهو قوله تعالى : ألكم الذكر وله الأنثى الآيات - رد لما ألقاه الشيطان على زعمهم، وجميع هذه المسانيد الثلاثة لا يحتج بشيء منها، أما الإسناد الأول وإن كان رجاله ثقات، فإن الراوي شك فيه كما أخبر عن نفسه، فإما شك [ ص: 101 ] في رفعه فيكون موقوفا أو في وصله فيكون مرسلا، وكلاهما ليس بحجة خصوصا فيما فيه قدح في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل لو جزم الثقة برفعه ووصله حملناه على الغلط والوهم.

وأما الإسناد الثاني فإن محمد بن السائب الكلبي ضعيف بالاتفاق منسوب إلى الكذب، وقد فسر الكلبي في روايته الغرانقة العلى بالملائكة لا بآلهة المشركين كما يقولون إن الملائكة بنات الله، وكذبوا على الله، فرد الله ذلك عليهم بقوله : ألكم الذكر وله الأنثى فعلى هذا فلعله كان قرآنا، ثم نسخ لتوهم المشركين بذلك مدح آلهتهم.

وأما الإسناد الثالث فإن محمد بن سعد هو العوفي، وهو ابن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية العوفي تكلم فيه الخطيب فقال : كان لينا في الحديث، وأبوه سعد بن محمد بن الحسن بن عطية قال فيه أحمد : لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعا لذلك، وعم أبيه هو الحسين بن الحسن بن عطية . ضعفه ابن معين ، والنسائي ، وابن حبان ، وغيرهم، والحسن بن عطية ضعفه البخاري ، وأبو حاتم ، وهذه سلسلة ضعفاء، ولعل عطية العوفي سمعه من الكلبي ، فإنه كان يروي عنه، ويكنيه بأبي سعيد لضعفه، ويوهم أنه أبو سعيد الخدري ، وقال عياض : هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل قريب، المتلقنون من الصحف كل صحيح وسقيم.

قلت : الأمر كذلك، فإن غالب هؤلاء مثل الطرقية، والقصاص، وليس عندهم تمييز يخبطون خبط عشواء، ويمشون في ظلمة ظلماء، وكيف يقال مثل هذا، والإجماع منعقد على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، ونزاهته ، عن مثل هذه الرذيلة، ولو وقعت هذه القصة لوجدت قريش على المسلمين بها الصولة، ولأقامت عليهم اليهود بها الحجة كما علم من عادة المنافقين، وعناد المشركين كما وقع في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة.

التالي السابق


الخدمات العلمية