صفحة جزء
90 32 - حدثنا محمد بن كثير ، قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن أبي مسعود الأنصاري ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان ، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا من يومئذ ، فقال : أيها الناس ، إنكم منفرون ، فمن صلى بالناس فليخفف ، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة .
مطابقة الحديث للترجمة : في قوله " في موعظة أشد غضبا من يومئذ " .

بيان رجاله : وهم خمسة ، الأول : محمد بن كثير بفتح الكاف وبالمثلثة العبدي بسكون الباء الموحدة البصري ، أخو سليمان بن كثير ، وسليمان أكبر منه بخمس سنين ، روى عن أخيه سليمان وشعبة والثوري ، وروى عنه البخاري وأبو داود وغيرهما ، وروى مسلم والترمذي والنسائي عن [ ص: 106 ] رجل عنه ، قال أبو حاتم : صدوق ، وقال يحيى بن معين : لا تكتبوا عنه ، لم يكن بالثقة ، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين عن تسعين سنة ، أخرج له مسلم حديثا واحدا في الرؤيا أنه عليه السلام كان يقول لأصحابه : " من رأى منكم رؤيا " عن الدارمي عنه عن أخيه سليمان ، وليس في الصحيحين محمد بن كثير غير هذا ، وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي : محمد بن كثير الصغاني روى عن الدارمي وهو ثقة اختلط بآخرة .

الثاني : سفيان الثوري .

الثالث : إسماعيل بن أبي خالد البجلي الكوفي الأحمسي التابعي الطحان ، المسمى بالميزان .

الرابع : قيس بن أبي حازم بالمهملة والزاي أبو عبد الله الأحمسي الكوفي البجلي المخضرم ، روى عن العشرة ، وقد تقدم .

الخامس : أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري الخزرجي البدري ، وقد تقدم .

بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث والإخبار بصيغة المفرد والعنعنة ، ومنها أن رواته ما بين بصري وكوفي ; بل ثلاثة منهم كوفيون ، ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي ، ومنها أن فيه راويا وهو ابن كثير العبدي ليس في البخاري غيره .

بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن محمد بن يوسف عن الثوري ، وفيه عن أحمد بن يونس عن زهير ، وفي الأدب عن مسدد عن يحيى ، وفي الأحكام عن محمد بن مقاتل عن عبد الله عن ابن أبي خالد ، وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى عن هيثم ، وعن أبي بكر عن هيثم ووكيع ، وعن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه ، وعن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة ، أربعتهم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس به ، وأخرجه النسائي في العلم عن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى القطان به ، وأخرجه ابن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير به .

بيان اللغات والإعراب والمعاني : قوله " لا أكاد أدرك الصلاة " قد علم أن كاد معناه قرب ولهذا عدوه من أفعال المقاربة ، وهو لمقاربة الشيء فعل أو لم يفعل ، فمجرده ينبئ عن نفي الفعل ومقرونه ينبئ عن وقوع الفعل ، وقال ابن الحاجب : إذا دخل النفي على كاد فهو كالأفعال على الأصح ، وقيل يكون في الماضي للإثبات وفي المستقبل كالأفعال ، وهو يرفع الاسم وخبره فعل مضارع بغير أن متأول باسم الفاعل ، نحو كاد زيد يخرج أي خارجا إلا أنهم تركوا استعماله لأن كاد موضوع للتقريب من الحال فالتزم بعده ما يدل بصيغته على الحال ، أعني المضارع ليكون أدل على مقتضاه ، وهاهنا اسمه الضمير المستتر فيه ، وخبره قوله “ أدرك الصلاة " وقال القاضي عياض : ظاهر هذا مشكل لأن التطويل يقتضي الإدراك لا عدمه ، قال : فكأن الألف زيدت بعد لا وكأن أدرك كانت أترك ، وأجيب عنه بما قال أبو الزناد : معناه أنه كان به ضعف فكان إذا طول به الإمام في القيام لا يبلغ الركوع إلا وقد ازداد ضعفه فلا يكاد يتم معه الصلاة ، ورد بأن البخاري روى عن الفريابي عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ لا تأخر عن الصلاة ، وجاء في غير البخاري " إني لا أدع الصلاة " والأحاديث يفسر بعضها بعضا فيكون المعنى إني لا أكاد أدرك الصلاة في الجماعة وأتأخر عنها أحيانا من أجل التطويل ، قلت هذا ليس فيه إشكال والمعنى صحيح ، وقد قلنا إن الأحاديث يفسر بعضها بعضا ، وهاتان الروايتان تنبئان أن معنى هذا أني أتأخر عن الصلاة مع الجماعة ولا أكاد أدركها لأجل تطويل فلان ، وقوله لأن التطويل يقتضي الإدراك إنما يسلم إذا طلب الإدراك ، وأما إذا تأخر خوفا من التطويل لا يكاد يدرك مع التطويل فافهم ، قوله “ مما يطول " كلمة من للتعليل وما مصدرية ، وفي بعض الروايات " مما يطول لنا " باللام ، وفي رواية أخرى " مما يطيل " فالأولى من التطويل وهذه من الإطالة ، قوله “ فلان " فاعله وهو كناية عن اسم سمي به المحدث عنه ، ويقال في غير الآدمي الفلان معرفا باللام ، قوله “ أشد غضبا من يومئذ " وفي بعض النسخ " أشد غضبا منه من يومئذ " ولفظة " منه " صلة أشد ، فإن قلت : الضمير راجع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فيلزم أن يكون المفضل والمفضل عليه شيئا واحدا ، قلت : جاز ذلك باعتبارين فهو مفضل باعتبار يومئذ ومفضل عليه باعتبار سائر الأيام ، و " غضبا " نصب على التمييز ، قوله “ فقال " أي النبي عليه الصلاة والسلام " أيها الناس " أي يا أيها الناس ، فحذف حرف النداء ، والمقصود بالنداء هو الناس وإنما جاؤوا بأي ليمكن وصله إلى نداء ما فيه الألف واللام لأنهم كرهوا الجمع بين التخصيص بالنداء ولام التعريف فكان المنادى هو الصفة والهاء مقحمة للتنبيه ، قوله “ منفرون " خبر إن أي منفرون عن الجماعات ، وفي بعض الروايات " إن منكم منفرين " فإن قلت : كان المقتضى أن يخاطب المطول ؟ قلت : إنما خاطب الكل ولم يعين المطول كرما ولطفا عليه وكانت هذه عادته حيثما كان ، يخصص العتاب والتأديب بمن يستحقه حتى لا يحصل له الخجل ونحوه على رؤوس الأشهاد ، قوله “ فمن صلى بالناس " كلمة من شرطية ، قوله “ فليخفف " جوابها [ ص: 107 ] فلذلك دخلها الفاء ، قوله “ فإن فيهم " الفاء فيه تصلح للتعليل ، " والمريض " نصب لأنه اسم إن وما بعده عطف عليه ، وخبرها هو قوله “ فيهم " مقدما ، قوله “ بالناس " أي ملتبسا بهم إماما لهم ، قوله “ وذا الحاجة " كذا في رواية الأكثرين ، وفي رواية القابسي " وذو الحاجة " وجهه أن يكون معطوفا على محل اسم إن وهو رفع مع الخلاف فيه ، وقال بعضهم : أو هو استئناف ، قلت : لا يصح أن يكون استئنافا لأنه في الحقيقة جواب سؤال وليس هذا محله ، ويجوز أن يكون المبتدأ محذوف الخبر وتكون الجملة معطوفة على الجملة الأولى والتقدير وذو الحاجة كذلك ، والفرق بين الضعف والمرض أن الضعف أعم من المرض فالمرض ضد الصحة ، يقال : مرض يمرض مرضا ومرضا فهو مريض ومارض ويقال المرض بالإسكان مرض القلب خاصة ، قال الصغاني : وأصل المرض الضعف وكلما ضعف فقد مرض ، وقال ابن الأعرابي : أصل المرض النقصان ، يقال بدن مريض أي ناقص القوة وقلب مريض أي ناقص الدين ، وقيل المرض اختلال الطبيعة واضطرابها بعد صفائها واعتدالها ، والضعف خلاف القوة ، وقد ضعف وضعف ، والفتح عن يونس فهو ضعيف ، وقوم ضعاف وضعفة ، وفرق بعضهم بين الضعف والضعف فقال : الضعف بالفتح في العقل والرأي والضعف بالضم في الجسد ، ورجل ضعوف أي ضعيف ، فإن قيل : لم ذكر هذه الثلاثة ؟ قلت : لأنه متناول لجميع الأنواع المقتضية للتخفيف ، فإن المقتضى له إما في نفسه أو لا ، والأول إما بحسب ذاته وهو الضعف أو بحسب العارض وهو المرض .

بيان استنباط الأحكام : الأول : قال النووي : فيه جواز التأخر عن صلاة الجماعة إذا علم من عادة الإمام التطويل الكثير .

الثاني : فيه جواز ذكر الإنسان بفلان ونحوه في معرض الشكوى .

الثالث : فيه جواز الغضب لما ينكر من أمور الدين .

الرابع : فيه جواز الإنكار على من ارتكب ما ينهى عنه وإن كان مكروها غير محرم .

الخامس : فيه التعزير على إطالة الصلاة إذا لم يرض المأموم به وجواز التعزير بالكلام .

السادس : فيه الأمر بتخفيف الصلاة ، وقال ابن بطال : وإنما غضب رسول الله عليه الصلاة والسلام لأنه كره التطويل في الصلاة من أجل أن فيهم المريض ونحوه فأراد الرفق والتيسير بأمته ، ولم يكن نهيه عليه الصلاة والسلام من التطويل لحرمته لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي في مسجده ويقرأ بالسور الطوال مثل سورة يوسف ; وذلك لأنه كان يصلي معه أجلة أصحابه ومن أكثر همه طلب العلم والصلاة ، أقول : ولهذا خفف في بعض الأوقات كما فيما سمع صوت بكاء الصبي ونحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية