صفحة جزء
1132 212 - حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني عبد الملك ، عن قزعة قال: سمعت أبا سعيد رضي الله عنه أربعا قال: سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وكان غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، ح حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى.


هذان إسنادان; الأول لحديث أبي سعيد الخدري ، والثاني لحديث أبي هريرة ، ولكنه لم يتم متن حديث أبي سعيد ، واقتصر على قوله: " كان غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة "، وسيذكر تمامه بعد أربعة أبواب في "باب مسجد بيت المقدس " وتمامه مشتمل على أربعة أحكام; الأول: في منع المرأة عن السفر بدون الزوج أو المحرم.

والثاني: في منع صوم يومي العيدين.

والثالث: في منع الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.

والرابع: في منع شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.

وحديث أبي هريرة مشتمل على الحكم الرابع فقط، ولما كان الحديثان مشتركين في هذا، اقتصر في حديث أبي سعيد على ما ذكره طلبا للاختصار، وقيل كأنه قصد بذلك الإغماض لينبه غير الحافظ على فائدة الحفظ، وظن الداودي أنه ساق الإسنادين لمتن حديث أبي هريرة ، وليس كذلك لاشتمال حديث أبي سعيد على الأشياء المذكورة، ثم وجه مطابقة حديث أبي هريرة للترجمة ظاهرة لا يقال: ليس فيه لفظ الصلاة; لأنا قد ذكرنا عن قريب أن المراد من الرحلة إلى المساجد المذكورة قصد الصلاة، وأما وجه مطابقة حديث أبي سعيد للترجمة من حيث إنه مشترك لحديث أبي هريرة في الحكم الرابع كما ذكرناه، وإن لم يذكره هاهنا مع أنه ما أخلاه عن الذكر على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(ذكر رجال الإسنادين): وهم عشرة:

الأول: حفص بن عمر بن الحارث النمري .

الثاني: شعبة بن الحجاج .

الثالث: عبد الملك بن عمير بضم العين مصغر عمر، المعروف بالقبطي، مر في "باب أهل العلم أولى بالإمامة" وإنما قيل له القبطي; لأنه كان له فرس سابق يعرف بالقبطي، فنسب إليه، وكان على قضاء الكوفة بعد الشعبي ، مات سنة ست وثلاثين ومائة، وله من العمر يوم مات مائة سنة وثلاث سنين.

الرابع: قزعة بالقاف والزاي والعين المهملة كلها مفتوحة، وقيل: بسكون الزاي ابن يحيى، وقيل ابن الأسود، مولى زياد يكنى أبا العادية .

الخامس: أبو سعيد الخدري ، واسمه سعيد بن مالك الأنصاري .

السادس: علي بن المديني ، وقد تكرر ذكره.

السابع: سفيان بن عيينة .

الثامن: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري .

التاسع: سعيد بن المسيب .

العاشر: أبو هريرة .

(ذكر لطائف الإسناد الأول): فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه الإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد، وفيه السماع في موضعين، وفيه القول في أربعة مواضع، وفيه أن شيخه بصري، وهو من أفراده، وشعبة واسطي، وعبد الملك كوفي، وروايته عن قزعة من رواية الأقران; لأنهما من طبقة واحدة، وقزعة بصري، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.

(ذكر لطائف الإسناد الثاني): فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في أربعة مواضع، وفيه القول في موضعين، وفيه أن السفيان مكي ، والزهري وسعيد بن المسيب مدنيان، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.

[ ص: 252 ] (ذكر تعدد موضع الحديث الأول ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في "الصلاة ببيت المقدس " عن أبي الوليد ، وفي "الحج" عن سليمان بن حرب ، وفي "الصوم" عن حجاج بن منهال ، ثلاثتهم عن شعبة ، عن عبد الملك ، وأخرجه مسلم في "المناسك" عن أبي غسان ومحمد بن بشار ، كلاهما عن معاذ بن هشام ، وعن محمد بن المثنى ، وعن عثمان بن أبي شيبة ، وعن قتيبة وعثمان ، كلاهما عن جرير ، وأخرجه الترمذي في "الصلاة" عن ابن أبي عمر ، وأخرجه النسائي في "الصوم" عن محمد بن المثنى ، وعن عبيد الله بن سعيد ، وعن عمران بن موسى ، وعن محمد بن قدامة ، وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة في "الصوم" بالقصة الثانية، وفي "الصلاة" بالقصة الثالثة، وأخرج القصة الرابعة عن أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم.

(ذكر من أخرج الحديث الثاني غيره) أخرجه مسلم في "الحج" عن عمرو الناقد وزهير بن حرب ، وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد ، وأخرجه النسائي في "الصلاة" عن محمد بن منصور المكي .

(ذكر من روى عنه في هذا الباب) فيه عن بصرة بن أبي بصرة ، رواه ابن حبان عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام ، ومسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس " يشك أيهما قال ، وعن أبي بصرة أيضا رواه أحمد والبزار في مسنديهما، والطبراني في "الكبير والأوسط" من رواية عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه قال: لقي أبو بصرة الغفاري أبا هريرة ، وهو جاء من الطور فقال: من أين أقبلت ؟ قال: من الطور صليت فيه. قال: لو أدركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت; إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... " الحديث، ورجال إسناده ثقات.

قال الذهبي : بصرة بن أبي بصرة الغفاري هو وأبوه صحابيان نزلا مصر ، واسم أبي بصرة حميل ، وقيل حميل بن بصرة . (قلت): حميل بضم الحاء المهملة وقيل بفتحها، والأول هو الأصح، وعن عبد الله بن عمرو مثله، رواه ابن ماجه ، وعن أبي هريرة أيضا رواه الطبراني في "الأوسط" عنه يرفعه: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الخيف ، ومسجد الحرام ، ومسجدي هذا "، وقال: لم يذكر مسجد الخيف في شد الرحال إلا في هذا الحديث، قال صاحب التلويح : وهو لعمري سند جيد لولا قول البخاري : لا يتابع خيثم في ذكر مسجد الخيف ، ولا يعرف له سماع من أبي هريرة .

(قلت): خيثم هو ابن مروان ، ذكره ابن حبان في "الثقات" وهو الذي روى هذا الحديث عن أبي هريرة ، وعن جابر رضي الله تعالى عنه، رواه أحمد عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق " ، وعن أبي الجعد الضمري روى حديثه البزار والطبراني في "الكبير والأوسط" من رواية أبي عبيدة بن سفيان ، عن أبي الجعد الضمري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " الحديث، وإسناده صحيح. وقال الذهبي : أبو الجعد الضمري اسمه الأذرع، ويقال: عمرو . وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أخرج حديثه البزار من رواية أبي العالية ، عن ابن عمر ، عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " الحديث.

وفي "كتاب العلم" المشهور لأبي الخطاب ، روي حديث موضوع، رواه محمد بن خالد الجندي ، عن المثنى بن الصباح مجهول، عن متروك، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده يرفعه: " لا تعمل الرحال إلا إلى أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ، وإلى مسجد الجند ".

(ذكر معنى حديث أبي هريرة )

قوله: " لا تشد الرحال " على صيغة المجهول بلفظ النفي بمعنى النهي، بمعنى: لا تشدوا الرحال، ونكتة العدول عن النهي إلى النفي لإظهار الرغبة في وقوعه أو لحمل السامع على الترك أبلغ حمل بألطف وجه، وقال الطبري : النفي أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به، ووقع في رواية لمسلم : " تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد " فذكره من غير حصر، وليس في هذه الرواية منع شد الرحل لغيرها إلا على القول بحجية مفهوم العدد، والجمهور على أنه ليس بحجة، ثم التعبير بشد الرحال خرج مخرج الغالب في ركوب المسافر، وكذلك قوله في بعض الروايات: " لا يعمل المطي " وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في هذا المعنى، ويدل عليه قوله في بعض طرقه في الصحيح: " إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد " والرحال بالحاء المهملة جمع رحل، وهو للبعير كالسرج للفرس، وهو أصغر من القتب، وشد الرحل كناية عن السفر; لأنه لازم للسفر، والاستثناء مفرغ [ ص: 253 ] فتقدير الكلام: لا تشد الرحال إلى موضع أو مكان، فإن قيل فعلى هذا يلزم أن لا يجوز السفر إلى مكان غير المستثنى حتى لا يجوز السفر لزيارة إبراهيم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه ونحوه; لأن المستثنى منه في المفرغ لا بد أن يقدر أعم العام، وأجيب: بأن المراد بأعم العام ما يناسب المستثنى نوعا ووصفا كما إذا قلت: ما رأيت إلا زيدا كان تقديره: ما رأيت رجلا أو أحدا إلا زيدا، لا ما رأيت شيئا أو حيوانا إلا زيدا، فهاهنا تقديره: لا تشد إلى مسجد إلا إلى ثلاثة.

قوله: " المسجد الحرام " أي المحرم، وقال بعضهم: هو كقولهم: الكتاب بمعنى المكتوب. (قلت): هذا القياس غير صحيح; لأن الكتاب على وزن فعال بكسر الفاء، والحرام فعال بالفتح، فكيف يقاس عليه، وإنما الحرام اسم للشيء المحرم، وفي إعراب المسجد وجهان: الأول بالجر على أنه بدل من الثلاثة، والثاني بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الأقصى .

وقال بعضهم: ويجوز الرفع على الاستئناف. (قلت): الاستئناف في الحقيقة جواب سؤال مقدر، ولئن سلمنا له ذلك فيؤول الأمر في الحقيقة إلى أن يكون الرفع فيه على أنه خبر مبتدأ محذوف كما ذكرناه.

قوله: " ومسجد الرسول " الألف واللام فيه للعهد عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، (فإن قلت): ما نكتة العدول عن قوله: " ومسجدي " بالإضافة إليه. (قلت): الإشارة إلى التعظيم على أنه يجوز أن يكون هذا من تصرف بعض الرواة، والدليل عليه قوله في حديث أبي سعيد : " ومسجدي " وسيأتي عن قريب.

قوله: " ومسجد الأقصى " بإضافة الموصوف إلى الصفة، وفيه خلاف، فجوزه الكوفيون كما في قوله تعالى: وما كنت بجانب الغربي وأوله البصريون بإضمار المكان، أي بجانب المكان الغربي، ومسجد البلد الحرام، ومسجد المكان الأقصى، وسمي المسجد الأقصى لبعده عن المسجد الحرام إما في المسافة أو في الزمان، وقد ورد في الحديث أنه كان بينهما أربعون سنة، (وقد استشكل) من حيث إن بين آدم وداود عليهما الصلاة والسلام أضعاف ذلك من الزمن. (وأجيب) بأن الملائكة وضعتهما أولا وبينهما في الوضع أربعون سنة، وأن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام جددا بنيان المسجد الأقصى كما جدد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بناء البيت الحرام ، وقال الزمخشري : المسجد الأقصى بيت المقدس ; لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وقيل: هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة ; لأنه بعيد من مكة وبيت المقدس أبعد منه، وقيل: لأنه أقصى موضع من الأرض ارتفاعا وقربا إلى السماء، يقال قصى المكان يقصو قصوا بعد فهو قصي ، ويقال: فلان بالمكان الأقصى، والناحية القصوى.

(ذكر ما يستفاد منه):

فيه فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ; لأن المسجد الحرام قبلة الناس، وإليه حجهم، ومسجد الرسول أسس على التقوى، والمسجد الأقصى كان قبلة الأمم السالفة، وفيه أن الرحال لا تشد إلى غير هذه الثلاثة، لكن اختلفوا على أي وجه فقال النووي : معناه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد ما غير هذه الثلاثة، ونقله عن جمهور العلماء، وقال ابن بطال : هذا الحديث إنما هو عند العلماء فيمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة المذكورة، قال مالك رحمه الله: من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا براحلة، فإنه يصلي في بلده إلا أن ينذر ذلك في مسجد مكة أو المدينة أو بيت المقدس ، فعليه السير إليها، وقال ابن بطال : وأما من أراد الصلاة في مساجد الصالحين والتبرك بها متطوعا بذلك فمباح إن قصدها بأعمال المطي وغيره، ولا يتوجه إليه الذي في هذا الحديث، وقيل: من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة للصلاة أو غيرها لم يلزمه ذلك; لأنها لا فضل لبعضها على بعض، فيكفي صلاته في أي مسجد كان. قال النووي : لا اختلاف في ذلك إلا ما روي عن الليث أنه قال: يجب الوفاء به، وعن الحنابلة رواية يلزمه كفارة يمين، ولا ينعقد نذره، وعن المالكية رواية إن تعلقت به عبادة تختص به كرباط لزم وإلا فلا، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه في مسجد قباء ; لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأتيه كل سبت، واستدل قوم بهذا الحديث، أعني حديث الباب على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك، وبه قال مالك وأحمد والشافعي في البويطي ، واختاره أبو إسحاق المروزي ، وقال أبو حنيفة : لا يجب مطلقا، وقال الشافعي في الأم: يجب في المسجد الحرام لتعلق النسك به بخلاف المسجدين الآخرين، وقال ابن المنذر : يجب إلى الحرمين ، وأما الأقصى فلا، واستأنس بحديث جابر : " أن رجلا قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ، قال: صل هاهنا " .

وقال ابن التين : الحجة على الشافعي [ ص: 254 ] أن إعمال المطي إلى مسجد المدينة والمسجد الأقصى والصلاة فيهما قربة، فوجب أن يلزم بالنذر كالمسجد الحرام ، وقال الغزالي عند ذكر إتيان المساجد، فلو قال: آتي مسجد الخيف فهو كمسجد الحرام ; لأنه من الحرم، وكذلك أجزاء سائر الحرم، قال: ولو قال: آتي مكة لم يلزمه شيء إلا إذا قصد الحج، وقال شيخنا زين الدين : لا وجه لتفرقته بين مكة وسائر أجزاء الحرم ، فإنها من أجزاء الحرم ، لا جرم أن الرافعي تعقبه فقال: ولو قال: أمشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام ، أو إلى مكة ، أو ذكر بقعة أخرى من بقاع الحرم كالصفا والمروة ، ومسجد الخيف ومنى والمزدلفة ، ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقبة زمزم وغيرها، فهو كما لو قال: إلى بيت الله الحرام حتى لو قال: آتي دار أبي جهل ، أو دار الخيزران كان الحكم كذلك; لشمول حرمة الحرم له بتنفير الصيد وغيره، وعن أبي حنيفة أنه لا يلزم المشي إلا أن يقول: إلى بيت الله الحرام أو قال مكة ، أو إلى الكعبة ، أو إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وحكى الرافعي عن القاضي ابن كج أنه قال: إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فعندي أنه يلزمه الوفاء وجها واحدا، قال: ولو نذر أن يزور قبر غيره ففيه وجهان عندي، وقال القاضي عياض وأبو محمد الجويني من الشافعية أنه يحرم شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة لمقتضى النهي، وقال النووي : وهو غلط، والصحيح عند أصحابنا، وهو الذي اختاره إمام الحرمين ، والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره، وقال الخطابي : لا تشد لفظه خبر، ومعناه الإيجاب فيما نذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها، أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك حتى يشد الرحل له، ويقطع المسافة إليه، غير هذه الثلاثة التي هي مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فأما إذا نذر الصلاة في غيرها من البقاع، فإن له الخيار في أن يأتيها أو يصليها في موضعه لا يرحل إليها، قال: والشد إلى المسجد الحرام فرض للحج والعمرة، وكان تشد الرحال إلى مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حياته للهجرة، وكانت واجبة على الكفاية، وأما إلى بيت المقدس فإنما هو فضيلة واستحباب، وأول بعضهم معنى الحديث على وجه آخر، وهو أن لا يرحل في الاعتكاف إلا إلى هذه الثلاثة، فقد ذهب بعض السلف إلى أن الاعتكاف لا يصح إلا فيها دون سائر المساجد ، وقال شيخنا زين الدين : من أحسن محامل هذا الحديث أن المراد منه حكم المساجد فقط، وأنه لا يشد الرحل إلى مسجد من المساجد غير هذه الثلاثة، فأما قصد غير المساجد من الرحلة في طلب العلم، وفي التجارة والتنزه وزيارة الصالحين والمشاهد وزيارة الإخوان، ونحو ذلك فليس داخلا في النهي، وقد ورد ذلك مصرحا به في بعض طرق الحديث في مسند أحمد ، حدثنا هاشم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثني شهر سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، وذكر عنده صلاة في الطور فقال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لا ينبغي للمطي أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا " وإسناده حسن، وشهر بن حوشب وثقه جماعة من الأئمة، وفيه المذكور المسجد الحرام ، ولكن المراد جميع الحرم، وقيل: يختص بالموضع الذي يصلى فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم ، وقال الطبري ويتأيد بقوله: " مسجدي هذا " لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة فينبغي أن يكون المستثنى كذلك، وقيل: المراد به الكعبة ويتأيد بما رواه النسائي بلفظ: " إلا الكعبة " ورد بأن الذي عند النسائي " إلا مسجد الكعبة " حتى لو كانت لفظة مسجد غير مذكورة لكانت مرادة.

التالي السابق


الخدمات العلمية