صفحة جزء
1185 5 - ( حدثنا بشر بن محمد ، قال : أخبرنا عبد الله ، قال : أخبرني معمر ويونس ، عن الزهري قال : أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته قالت : أقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله تعالى عنها ، فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه ، فقبله ثم بكى ، فقال : بأبي أنت يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين ; أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها . قال أبو سلمة : فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا بكر رضي الله عنه خرج وعمر رضي الله عنه يكلم الناس ، فقال : اجلس فأبى ، فقال : اجلس ، فأبى ، فتشهد أبو بكر رضي الله عنه فمال إليه الناس ، وتركوا عمر ، فقال : أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت . قال الله تعالى : وما محمد إلا رسول إلى الشاكرين والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه ، فتلقاها منه الناس فما يسمع بشر إلا يتلوها ).
مطابقته للترجمة ظاهرة قيل : لا نسلم الظهور ; لأن الترجمة في الدخول على الميت إذا أدرج في الكفن ، ومتن الحديث وهو مسجى ببرد حبرة ، ولم يكن حينئذ غسل ، فضلا عن أن يكون مدرجا في الكفن ، وأجيب بأن كشف الميت بعد تسجيته [ ص: 14 ] مساو لحاله بعد تكفينه ، وذلك لأن منهم من منع عن الاطلاع على الميت إلا الغاسل ومن يليه ; وذلك لأن الموت سبب لتغير محاسن الحي ; لأنه يكون كريها في المنظر ، فلذلك أمر بتغميضه وتسجيته ، وأشار البخاري إلى جواز ذلك بالترجمة المذكورة ، ولما كان حاله بعد التسجية مثل حاله بعد التكفين وقع التطابق بين الترجمة والحديث من هذه الحيثية .

ذكر رجاله .

وهم سبعة الأول بشر بكسر الباء الموحدة ، وسكون الشين المعجمة ابن محمد أبو محمد السختياني المروزي ، مات سنة أربع وعشرين ومائتين . الثاني : عبد الله بن المبارك . الثالث : معمر بفتح الميمين ابن راشد . الرابع : يونس بن يزيد . الخامس محمد بن مسلم الزهري السادس أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف . السابع أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها .

ذكر لطائف إسناده :

فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد ، وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضع ، وبصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع ، وفيه القول في أربعة مواضع ، وفيه أن شيخه من أفراده ، وهو وعبد الله مروزيان ، ومعمر بصري ، ويونس أيلي ، والزهري وأبو سلمة مدنيان ، وفيه أربعة منهم بلا نسبة ، وواحد بالكنية ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية .

( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) :

أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن يحيى بن بكير ، عن ليث عن عقيل ، وفي فضل أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، عن إسماعيل بن أبي أويس . وأخرجه النسائي في الجنائز ، عن سويد بن نصر ، عن ابن المبارك به . وأخرجه ابن ماجه فيه ، عن علي بن محمد عن أبي معاوية .

ذكر معناه : قوله : " بالسنح " بضم السين المهملة والنون والحاء المهملة ، وهو منازل بني الحارث بن الخزرج ، بينها وبين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميل ، وزعم صاحب المطالع أن أبا ذر كان يقوله بإسكان النون . قوله : " فتيمم " ، أي قصد النبي صلى الله عليه وسلم قوله " وهو مسجى " جملة اسمية وقعت حالا ، ومسجى اسم مفعول من سجى يسجي تسجية ، يقال : سجيت الميت تسجية إذا مددت عليه ثوبا ، ومعنى مسجى هنا مغطى . قوله " ببرد حبرة " بالوصف والإضافة ، والبرد بضم الباء الموحدة وسكون الراء وهو نوع من الثياب معروف ، والجمع أبراد ، وبرود ، والبردة الشملة المخططة ، وحبرة على وزن عنبة : ثوب يماني يكون من قطن ، أو كتان مخطط ، وقال الداودي : هو ثوب أخضر . قوله " ثم أكب عليه " هذا اللفظ من النوادر ; حيث هو لازم وثلاثيه : كب متعد ، عكس ما هو المشهور في القواعد التصريفية . قوله " فقبله " ، أي بين عينيه ، وقد ترجم عليه النسائي ، وأورده صريحا حيث قال : تقبيل الميت وأين يقبل منه . قال : أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة " عن عائشة أن أبا بكر قبل بين عيني النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت " . قوله : " بأبي أنت " ، أي أنت مفدى بأبي ، فالباء متعلقة بمحذوف ، فيكون مرفوعا ; لأنه يكون مبتدأ وخبرا ، وقيل : فعل ، فيكون ما بعده منصوبا تقديره : فديتك بأبي . قوله : " لا يجمع الله عليك موتتين " قال الداودي : لم يجمع الله عليك شدة بعد هذا الموت ; لأن الله تعالى قد عصمك من أهوال القيامة ، قال : وقيل لا يموت موتة أخرى في قبره كما يحيى غيره في القبر ، فيسأل ثم يقبض ، وقال ابن التين : أراد بذلك موته وموت شريعته ، يدل عليه قوله : " من كان يعبد محمدا " ، وقيل : إنما قال ذلك ردا لمن قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت وسيبعث ويقطع أيدي رجال وأرجلهم . قيل : إنه معارض لقوله تعالى أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وأجيب بأن الأولى الخلقة من التراب ، ومن نطفة ; لأنهما موات ، والثانية التي بموت الخلق وإحدى الحياتين في الدنيا ، والأخرى بعد الموت في الآخرة ، وعن الضحاك أن الأولى الموت في الدنيا والثانية الموت في القبر بعد الفتنة والمساءلة واحتج بأنه لا يجوز أن يقال للنطفة والتراب : ميت ، وإنما الميت من تقدمت له حياة ، ورد عليه بقوله تعالى : وآية لهم الأرض الميتة أحييناها لم يتقدم لها حياة قط ، وإنما خلقها الله جمادا ومواتا ، وهذا من سعة كلام العرب . قوله " التي كتب الله " ، أي قدر الله ، وفي رواية الكشميهني : " التي كتبت " على صيغة المجهول ، أي قدرت . قوله متها بضم الميم وكسرها ، من مات يموت ، ومات يمات ، والضمير فيه يرجع إلى الموتة .

قوله : " وعمر يكلم الناس " الواو فيه للحال . قوله " فما يسمع بشر " يسمع على صيغة المجهول ، تقديره ما يسمع بشر يتلو شيئا إلا يتلو هذه الآية .

ذكر ما يستفاد منه: فيه استحباب تسجية الميت ، وفيه جواز تقبيل الميت لفعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وكأن [ ص: 15 ] أبا بكر في تقبيله النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا قدوة به عليه الصلاة والسلام، لما روى الترمذي " مصححا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت فأكب عليه وقبله، ثم بكى حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه " ، وفي التمهيد : لما توفي عثمان كشف النبي صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه وبكى بكاء طويلا ، وقبل بين عينيه ، فلما رفع على السرير قال : طوبى لك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها ، وفيه جواز البكاء على الميت من غير نوح ، وفيه أن الصديق أعلم من عمر ، وهذه إحدى المسائل التي ظهر فيها ثاقب علمه وفضل معرفته ورجاحة رأيه وبارع فهمه وحسن إسراعه بالقرآن وثبات نفسه ، وكذلك مكانته عند الإمرة لا يساويه فيها أحد إلا يرى أنه حين تشهد بدأ بالكلام مال إليه الناس وتركوا عمر ، ولم يكن ذلك إلا لعظيم منزلته في النفوس على عمر وسمو محله عندهم ، وقد أقر بذلك عمر حين مات الصديق ، فقال : والله ما أحب أن ألقى الله بمثل عمل أحد إلا بمثل عمل أبي بكر ولوددت أني شعرة في صدره ، وذكر الطبري عن ابن عباس قال: إني والله لأمشي مع عمر في خلافته وبيده الدرة ، وهو يحدث نفسه ويضرب قدمه بدرته ما معه غيري إذ قال لي : يا ابن عباس هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : لا أدري والله يا أمير المؤمنين قال : فإنه ما حملني على ذلك إلا قوله عز وجل : وكذلك جعلناكم أمة وسطا إلى قوله : شهيدا فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بأجزاء أعمالها ، وفيه حجة مالك في قوله في الصحابة مخطئ ومصيب في التأويل ، وفيه اهتمام عائشة رضي الله تعالى عنها بأمر الشريعة ، وأنها لم يشغلها ذلك عن حفظها ما كان من أمر الناس في ذلك اليوم ، وفيه غيبة الصديق عن وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم ; لأنه كان في ذلك اليوم بالسنح وكان متزوجا هناك ، وفيه الدخول على الميت بغير استئذان ، ويجوز أن يكون عند عائشة غيرها ، فصار كالمحفل لا يحتاج الداخل إلى إذن ، وروي أنه استأذن ، فلما دخل أذن للناس ، وفيه قول أبي بكر لعمر : اجلس فأبى إنما ذلك لما دخل عمر من الدهشة والحزن ، وقد قالت أم سلمة : " ما صدقت بموت النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعت وقع الكرازين " . قال الهروي هي الفئوس وقيل : تريد وقع المساحي تحثو التراب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويحتمل أن عمر رضي الله تعالى عنه ظن أن أجله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأت ، وأن الله تعالى من على العباد بطول حياته ويحتمل أن يكون أنسي قوله تعالى إنك ميت وقوله : وما محمد إلا رسول إلى أفإن مات وكان يقول مع ذلك ذهب محمد لميعاد ربه كما ذهب موسى لمناجاة ربه ، وكان في ذلك ردعا للمنافقين واليهود حين اجتمع الناس ، وأما أبو بكر رضي الله تعالى عنه فرأى إظهار الأمر تجلدا ، ولما تلا الآية كانت تعزيا وتصبرا ، وفيه جواز التفدية بالآباء والأمهات ، وفيه ترك تقليد المفضول عند وجود الفاضل .

التالي السابق


الخدمات العلمية