صفحة جزء
1195 ( وحنط ابن عمر رضي الله عنهما ابنا لسعيد بن زيد وحمله وصلى ، ولم يتوضأ )
مطابقته للترجمة تؤخذ من موضعين : الأول من قوله : " حنط " ; لأن التحنيط يستلزم الغسل ، فكأنه قال : " غسله وحنطه " وهو مطابق لقوله : " باب غسل الميت " والثاني من قوله : " ولم يتوضأ " ; لأنا قد ذكرنا أن الضمير في قوله : " ووضوئه " يرجع إلى الميت . وقوله " لم [ ص: 37 ] يتوضأ " يدل على أن الغاسل ليس عليه وضوء ، فوقع التطابق من هذه الحيثية ، وقال بعضهم : وقيل تعلق هذا الأثر وما بعده بالترجمة من جهة أن المصنف يرى أن المؤمن لا ينجس بالموت ، وأن غسله إنما هو للتعبد ; لأنه لو كان نجسا لم يطهره الماء والسدر ، ولا الماء وحده ، ولو كان نجسا ما مسه ابن عمر ، ولغسل ما مسه من أعضائه . قلت : ليس بين هذا الأثر وبين الترجمة تعلق أصلا من هذه الجهة البعيدة ، والذي ذكرناه هو الأوجه .

نعم هذا الذي ذكره يصلح أن يكون وجه التطابق بين الترجمة وبين أثر ابن عباس الآتي ; لأن إيراده أثر ابن عباس في هذا الباب يدل على أنه يرى فيه رأي ابن عباس ، ويفهم منه أن غسل الميت عنده أمر تعبدي ، وإن كان قوله: " باب غسل الميت " أعم من ذلك ، لكن إيراده أثر ابن عباس وأثر سعد والحديث المعلق يدل على ذلك فافهم .

وقال هذا القائل أيضا وكأنه أشار إلى تضعيف ما أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن عمير عن أبي هريرة مرفوعا : " من غسل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ " ، رواته ثقات إلا عمرو بن عمير ، فليس بمعروف ، وروى الترمذي وابن حبان من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحوه ، وهو معلول ; لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة ، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : الصواب عن أبي هريرة موقوف ، وقال أبو داود بعد تخريجه : هذا منسوخ ، ولم يبين ناسخه ، وقال الذهلي فيما حكاه الحاكم في تاريخه : ليس فيمن غسل ميتا فليتغسل حديث ثابت. انتهى .

. قلت : أيش وجه إشارة البخاري بهذه الترجمة إلى تضعيف الحديث المذكور ، فأي عبارة تدل على هذا بدلالة من أنواع الدلالات ، وهذا كلام واه .

قلت : أما حديث أبي داود فقد قال في سننه : حدثنا أحمد بن صالح ، أخبرنا ابن أبي فديك، حدثني ابن أبي ذئب عن القاسم ابن عباس ، عن عمرو بن عمير عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من غسل الميت " ، الحديث وابن أبي فديك هو محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، وابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث ابن أبي ذئب ، وعمرو بن عمير بفتح العين في الابن وضمها في الأب . قلت : قوله : عمرو بن عمير ليس بمعروف إشارة إلى تضعيف الحديث ، فهذا أبو داود قد روى له وسكت عليه ، فدل على أنه قد رضي به ، ولكنه قال : " هذا منسوخ " ، فرده هذا الحديث لم يكن إلا من جهة كونه منسوخا ، ثم قال هذا القائل ولم يبين ناسخه. قلت : بتركه بيان الناسخ لا يلزم تضعيف الحديث ، والنسخ يعلم بأمور منها : ترك العمل بالحديث ، فإنه يدل على وجود ناسخ وإن لم يطلع عليه .

وأما حديث الترمذي فقد قال : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من غسله الغسل ومن حمله الوضوء " يعني الميت ، وقال : حديث أبي هريرة حديث حسن ، وقد روي عن أبي هريرة موقوفا ثم قال : وقد اختلف أهل العلم في الذي يغسل الميت ، فقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم : إذا غسل ميتا فعليه الغسل ، وقال بعضهم : عليه الوضوء ، وقال مالك بن أنس : استحب الغسل من غسل الميت ، ولا أرى ذلك واجبا ، وهكذا قال الشافعي ، وقال أحمد : من غسل ميتا أرجو أن لا يجب عليه الغسل، فأما الوضوء فأقل ما فيه ، وقال إسحاق : لا بد من الوضوء ، وقد روي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : لا يغتسل ولا يتوضأ من غسل الميت ، وقال الترمذي ، وفي الباب عن علي وعائشة. قلت : كلاهما عند أبي داود ، وفي الباب عن حذيفة عند البيهقي بإسناد ساقط ، وقال مالك في العتبية : أدركت الناس على أن غاسل الميت يغتسل ، واستحسنه ابن القاسم وأشهب ، وقال ابن حبيب : لا غسل عليه ولا وضوء ، وفي التوضيح وللشافعي قولان الجديد هذا ، والقديم الوجوب ، وبالغسل قال ابن المسيب وابن سيرين والزهري قاله ابن المنذر ، وقال الخطابي : لا أعلم أحدا قال بوجوب الغسل منه ، وأوجب أحمد وإسحاق الوضوء منه .

وأما التعليق المذكور فقد وصله مالك في موطئه عن نافع أن ابن عمر حنط ابنا لسعيد بن زيد وحمله ثم دخل المسجد فصلى ، ولم يتوضأ ، وروى ابن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه أن ابن عمر كفن ميتا وحنطه ، ولم يمس ماء ، وعن أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عمر : أغتسل من غسل الميت ؟ قال : لا ، وحدثنا عباد بن العوام عن حجاج عن سليمان بن ربيع ،عن سعيد بن جبير قال : غسلت أمي ميتة ، فقالت لي : سل - علي غسل؟ فأتيت ابن عمر فسألته ، فقال : أنجسا غسلت ثم أتيت ابن عباس فسألته ، فقال مثل ذلك أنجسا غسلت ؟ وحدثنا عباد عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا : ليس على غاسل الميت غسل.

قوله : " حنط " بفتح الحاء المهملة وتشديد النون ، أي استعمل الحنوط ، وهو كل شيء خلط من الطيب [ ص: 38 ] للميت خاصة قاله الكرماني، وتبعه بعضهم على هذا ، وفي الصحاح : الحنوط ذريرة ، وهو طيب الميت . قلت : الحنوط عطر مركب من أنواع الطيب يجعل على رأس الميت ولحيته ولبقية جسده إن تيسر ، وفي الحديث " أن ثمود لما استيقنوا بالعذاب تكفنوا بالأنطاع ، وتحنطوا بالصبر لئلا يجيفوا وينتنوا " ، وفي المحيط : لا بأس بسائر الطيب في الحنوط غير الزعفران والورس في حق الرجال ، ولا بأس بهما في حق النساء ، فيدخل فيه المسك ، وأجازه أكثر العلماء ، وأمر به علي رضي الله تعالى عنه ، واستعمله أنس وابن عمر وابن المسيب ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق ، وكرهه عطاء والحسن ومجاهد ، وقالوا : إنه ميتة ، واستعماله في حنوط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حجة عليهم ، وفي الروضة : ولا بأس بجعل المسك في الحنوط ، وقال النخعي : يوضع الحنوط على الجبهة والراحتين والركبتين والقدمين ، وفي المفيد : وإن لم يفعل فلا يضر ، وقال ابن الجوزي والقرافي : يستحب في المرة الثالثة شيء من الكافور قالا : وقال أبو حنيفة : لا يستحب . قلت : نقلهما ذلك عنه خطأ .

قوله : " ابنا لسعيد " ، واسم الابن عبد الرحمن ، روى عن الليث عن نافع أنه رأى عبد الله بن عمر حنط عبد الرحمن بن سعيد بن زيد وسعيد بن زيد هذا أحد العشرة المبشرة بالجنة ، أسلم قديما ومات بالعقيق ، ونقل إلى المدينة فدفن بها سنة إحدى وخمسين رضي الله تعالى عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية