صفحة جزء
116 57 - حدثنا سعيد بن عفير ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن سالم وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن عبد الله بن عمر قال : صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء في آخر حياته ، فلما سلم قام ، فقال : أرأيتكم ليلتكم هذه ؟ فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد .
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة ، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدث الصحابة بهذا الحديث بعد صلاة العشاء ، وهو سمر بالعلم .

بيان رجاله :

وهم سبعة :

الأول : سعيد بن عفير بضم العين المهملة وفتح الفاء ، وقد مر .

الثاني : الليث بن سعد .

الثالث : عبد الرحمن بن خالد بن مسافر أبو خالد ، ويقال : أبو الوليد الفهمي مولى الليث بن سعد أمير مصر لهشام بن عبد الملك ، قال ابن سعد : كانت ولايته على مصر سنة ثمان عشرة ومائة ، وقال يحيى بن معين : كان عنده من الزهري كتاب فيه مائتا حديث أو ثلاثمائة ، كان الليث يحدث بها عنه ، وكان جده شهد فتح بيت المقدس مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال أبو حاتم : صالح ، وقال ابن يونس : كان ثبتا في الحديث ، توفي سنة سبع وعشرين ومائة ، روى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي .

الرابع : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري .

الخامس : سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وقد تقدم .

السادس أبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة ، واسمه عبد الله بن حذيفة ، وقيل : عدي بن كعب بن حذيفة بن غانم بن عبد الله بن عويج [ ص: 176 ] ابن عدي بن كعب القريشي العدوي ، وقال ابن عبد البر : أبو بكر هذا ليس له اسم ، أخرج له البخاري هذا الحديث خاصة مقرونا بسالم كما ترى ومسلم غير مقرون ، وكان من علماء قريش ، روى عن سعيد بن زيد وأبي هريرة أيضا ، وروى عنه الزهري وغيره ، أخرجوا له خلا ابن ماجه ، وقال ابن حبان : ثقة ، وليس له حديث عند مسلم والترمذي أيضا سواه .

السابع : عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .

بيان لطائف إسناده

منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة ، ومنها أن فيه أربعة من التابعين وهم : عبد الرحمن ، وابن شهاب ، وسالم ، وأبو بكر .

ومنها : أن أبا بكر ليس له حديث عند البخاري غير هذا ، ومع هذا روى له مقرونا بسالم .

بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره :

أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد الله ، عن ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن سالم . وعن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن سالم وأبي بكر بن أبي حثمة . وأخرجه مسلم في الفضائل ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، وعن أبي رافع وعبد بن حميد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : ورواه الليث ، عن عبد الرحمن بن خالد .

بيان الإعراب والمعاني

قوله " حدثني الليث ، قال : حدثني عبد الرحمن " ، وفي رواية أبي ذر : " حدثني الليث ، حدثه عبد الرحمن " ، أي أنه حدثه عبد الرحمن .

قوله " صلى لنا عليه الصلاة والسلام " ، وفي رواية : " صلى بنا " ، ومعنى اللام صلى إماما لنا وإلا فالصلاة لله لا لهم .

قوله " العشاء " أي صلاة العشاء ، وهي الصلاة التي وقتها بعد غروب الشفق ، وهو بكسر العين وبالمد ، والعشاء بالفتح وبالمد الطعام .

قوله " في آخر حياته " وجاء في رواية جابر أن ذلك كان قبل موته صلى الله تعالى عليه وسلم بشهر ، قوله “ قام " جواب لما ، قوله “ أرأيتكم " بهمزة الاستفهام وفتح الراء وبالخطاب للجمع والكاف ضمير ثان ، ولا محل لها من الإعراب ، والرؤية بمعنى الإبصار و” ليلتكم " بالنصب مفعوله ، وليست الرؤية ها هنا بمعنى العلم ; لأنها إذا كانت بمعنى العلم تقتضي مفعولين وليس ها هنا إلا مفعول واحد وهو الليلة كما ذكرنا ، وكم لا تصلح أن تكون مفعولا آخر حتى تكون بمعنى العلم ; لأنه حرف لا محل لها من الإعراب كما ذكرنا ، ولو كان اسما لوجب أن يقال أرأيتموكم ; لأن الخطاب لجماعة فإذا كان لجماعة يجب أن يكون بالتاء والميم كما في علمتموكم رعاية للمطابقة ، فإن قلت : فهذا يلزمك أيضا في التاء ، فإن التاء اسم فينبغي أن يكون أرأيتموكم . قلت : لما كان الكاف والميم لمجرد الخطاب اختصرت عن التاء والميم بالتاء وحدها للعلم بأنه جمع ، تقول : كم ، والفرق بين حرف الخطاب واسم الخطاب أن الاسم يقع مسندا ومسندا إليه والحرف علامة تستعمل مع استقلال الكلام واستغنائه عنها باعتبار المسند والمسند إليه ، فوزانها وزان التنوين وياء النسبة وأيضا اسم الخطاب يدل على عين ، ومعنى الخطاب وحرفه لا يدل إلا على الثاني ، وقال بعضهم : الرؤية بمعنى العلم أو البصر ، والمعنى : أعلمتم أو أبصرتم ليلتكم ؟ قلت : قد بينا أنه لا يصح أن تكون من الرؤية بمعنى العلم ، وهذا تصرف من لا يد له في العربية ، ويقال : أرأيتكم كلمة تقولها العرب إذا أرادت الاستخبار ، وهو بفتح التاء للمذكر والمؤنث والجمع والمفرد .

تقول : أرأيتك أرأيتك وأرأيتكما وأرأيتكم ، والمعنى : أخبر وأخبري وأخبراني وأخبروني ، فإن أردت معنى الرؤية أنثت وجمعت ، وقال بعضهم : الجواب محذوف تقديره : قالوا نعم ، قال : فاضبطوه . قلت : كأن هذا القائل أخذ كلامه من الزركشي في حواشيه ، فإنه قال : والجواب محذوف تقديره أرأيتكم ليلتكم هذه احفظوها أو احفظوا تاريخها ، فإن بعد انقضاء مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد ، انتهى .

وهذا ليس بشيء ; لأن المعنى أبصرتم ليلتكم هذه ، ولا يحتاج فيه إلى جواب ; لأن هذا ليس باستفهام حقيقي .

قوله " فإن رأس " ، وفي رواية الأصيلي : " فإن على رأس مائة " ، فإن قلت : ما اسم إن ؟ قلت : فيه ضمير الشأن ، وقوله " لا يبقى " خبرها .

قوله " منها " أي من تلك الليلة ، وقد استدل بعض اللغويين بقوله " منها " أن من تكون لابتداء الغاية في الزمان كمنذ ، وهو قول الكوفيين ، وقال البصريون : لا تدخل من إلا على المكان ، ومنذ في الزمان نظيرة من في المكان ، وتأولوا ما جاء بخلافه ، واحتج من نصر قول الكوفيين بقوله تعالى : من أول يوم وبقول عائشة رضي الله عنها : " ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل " ، وقول أنس رضي الله عنه : " وما زلت أحب الدباء من يومئذ " ، وقول بعض الصحابة : " مطرنا من الجمعة إلى الجمعة " ، وأجاب أبو علي الفارسي عن قوله : من أول يوم بأن [ ص: 177 ] التقدير من تأسيس أول يوم ، وضعفه بعضهم بأن التأسيس ليس بمكان ، وقال الزمخشري : التقدير من أول يوم من أيام وجوده . قلت : هذا جنوح إلى مذهب الكوفيين .

وقال النووي : المراد أن كل من كان تلك الليلة على الأرض لا يعيش بعدها أكثر من مائة سنة سواء قل عمره قبل ذلك أم لا ، وليس فيه نفي عيش أحد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة ، ويقال : معنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم وعظهم بقصر أعمارهم بخلاف غيرهم من سالف الأمم ، وقد احتج به البخاري ومن قال بقوله على موت الخضر ، والجمهور على خلافه ، ومن قال به أجاب عن الحديث بأنه من ساكني البحر ، فلا يدخل في الحديث .

ومن قال : إن معنى الحديث لا يبقى ممن ترونه وتعرفونه ، فالحديث عام أريد به الخصوص ، وقيل : أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأرض البلدة التي هو فيها ، وقد قال تعالى : ألم تكن أرض الله واسعة يريد المدينة .

وقوله : ممن هو على وجه الأرض ، احتراز عن الملائكة .

قال الكرماني : فإن قلت : ما تقول في عيسى عليه السلام ؟ قلت : فهو ليس على وجه الأرض بل في السماء أو هو من النوادر ، فإن قلت : فما قولك في إبليس ؟ قلت : هو ليس على ظهر الأرض بل في الهواء أو في النار أو المراد من لفظ " من " هو الإنس ، والله أعلم . قلت : هذه كلها تعسفات ، ولا يرد على هذا لا بعيسى عليه الصلاة والسلام ولا بإبليس ، فإن مراده صلى الله عليه وسلم ممن هو على ظهر الأرض أمته ، والقرائن تدل على ذلك ، منها قوله “ أرأيتكم ليلتكم هذه " وكل من على وجه الأرض من المسلمين والكفار أمته ، أما المسلمون فإنهم أمة إجابة ، وأما الكفار فإنهم أمة دعوة ، وعيسى والخضر عليهما السلام ليسا داخلين في الأمة ، وأما الشيطان فإنه ليس من بني آدم .

وقال ابن بطال : إنما أراد عليه الصلاة والسلام أن هذه المدة تخترم الجيل الذي هم فيه ، فوعظهم بقصر أعمارهم وأعلمهم أن أعمارهم ليست كأعمار من تقدم من الأمم ليجتهدوا في العبادة ، وقد أخرج البخاري فيما انفرد به عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يكره النوم قبل العشاء ، والحديث بعدها ، فهذا يدل على المنع مطلقا ، والحديث المتقدم يدل على جواز السمر في العلم والخير ، فنخص العموم فيما عداهما وأما ما عدا ذلك فذهب الأكثر إلى كراهته ، منهم : أبو هريرة وابن عباس ، وكتب عمر رضي الله عنه أن لا ينام قبل أن يصليها ، فمن نام فلا نامت عينه ، وهو قول عطاء وطاوس وإبراهيم ، وقول مجاهد ومالك والكوفيين والشافعي ، ورخص طائفة فيه : روي ذلك عن علي رضي الله عنه أنه كان ربما غفى قبل العشاء ، وكان ابن عمر ينام ويوكل من يوقظه ، وعن أبي موسى مثله ، وعن عروة وابن سيرين أنهما كانا ينامان نومة قبل العشاء ، واحتج لهم بأن الكراهة إنما كرهت لمن خشي عليه تفويتها أو تفويت الجماعة فيها .

وقال ابن بطال : اختلف قول مالك ، فقال مرة : الصلاة أحب إلي من مذاكرة الفقه ، وقال في موضع آخر : العناية بالعلم إذا صحت النية أفضل ، وقال سحنون : يلتزم أثقلهما عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية