صفحة جزء
1284 105 - حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " حرم الله عز وجل مكة ، فلم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي ، أحلت لي ساعة من نهار لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف . فقال العباس رضي الله عنه : إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا ، فقال : إلا الإذخر " .
مطابقته للترجمة في قوله " إلا الإذخر " إلى آخره

( ذكر رجاله )

وهم خمسة ، كلهم ذكروا ، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، وخالد هو الحذاء .

وأخرجه البخاري أيضا في الحج عن أبي موسى ، عن عبد الوهاب ، وفي البيوع عن إسحاق ، عن خالد ، وفي اللقطة قال : قال خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس إلى آخره .

( ذكر معناه )

قوله : ( حرم الله مكة ) أي جعلها حراما ، وقد فسره بقوله : " فلم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي " ولفظه في الحج عن طاوس ، عن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله " الحديث ، وفي غزوة الفتح : " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرام الله تعالى إلى يوم القيامة " ، ولفظ مسلم : " إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة " ، وأخرجه البزار عن ابن عباس أيضا رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر " ، وأخرجه الطحاوي أيضا عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " إن الله عز وجل حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر ووضعها بين هذين الأخشبين " الحديث ، وقال البزار : وهذا الحديث قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من غير وجه ، وعن غير ابن عباس بألفاظ مختلفة ومعانيها قريبة .

قوله : ( الأخشبين ) أي الجبلين المطيفين بمكة ، وهما أبو قبيس والأحمر ، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان ، والأخشب كل جبل خشن غليظ ، وفي الحديث : " لا تزول مكة حتى يزول أخشباها " .

قوله : ( ساعة من نهار ) لم يرد بها الساعة من الاثني عشر ساعة ، والمراد بها القليل من الوقت والزمان ، وإنه كان بعض النهار ولم يكن يوما تاما ، ودليله : " وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس " ، وقيل : أراد به ساعة الفتح أبيحت له إراقة الدم فيها دون الصيد وقطع الشجر ونحوهما .

قوله : ( لا يختلى خلاها ) أي لا يقطع كلؤها ، والخلا بفتح الخاء المعجمة مقصورا الرطب من الكلأ ، كما أن الحشيش اسم اليابس منه ، والواحدة خلاة ، ولامه ياء لقولهم خليت البقل قطعته ، وفي ( المخصص ) : تقول خليت الخلا خليا جززته ، وفي ( المحكم ) : وقيل الخلا كل بقلة قطعتها ، وقد يجمع الخلا على أخلاء ، حكاه أبو حنيفة ، وأخلت الأرض كثر خلاها واختلاه جزه ، وقال اللحياني : نزعه ، وقال القاضي : ومعنى لا يختلى خلاها لا يحصد كلاها مقصور ومده بعض الرواة وهو خطأ ، والاختلاء القطع فعل مشتق من الخلا والمخلا مقصورة حديدة [ ص: 162 ] يختلى بها الخلا ، والمخلاة وعاء يختلى فيه للدابة ، ثم سمي كل ما يعتلف فيه مما يعلق في رأسها مخلاة ، والخلاء بالمد الموضع الخالي وأيضا مصدر من خلا يخلو .

قوله : ( ولا يعضد شجرها ) أي لا يقطع ، يقال : عضد واستعضد بمعنى كما يقال علا واستعلى . قال القاضي : وقع في رواية : " ولا يعضد شجراؤها " وهو الشجر ، وقال الطبري : معنى لا يعضد لا يفسد ، ويقطع من عضد الرجل إذا أصاب عضده بسوء ، وفي الموعب : عضدت الشجرا عضده عضدا مثل ضربته إذا قطعته ، وفي ( المحكم ) : الشيء معضود وعضيد .

قوله : ( إلا لمعرف ) بضم الميم وكسر الراء المشددة ، وهو الذي يعرفها حتى يجيء صاحبها ، وفي لفظ للبخاري : " ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها " ، وفي لفظ : " ولا يحل لقطتها إلا لمنشد " والمنشد هو المعرف والناشد هو الطالب ، يقال : نشدت الضالة إذا طلبتها ، فإذا عرفتها قلت : أنشدتها ، وأصل الإنشاد رفع الصوت ومنه إنشاد الشعر .

قوله : ( لصاغتنا ) أصله الصوغة جمع صائغ .

( ذكر ما يستفاد منه )

فيه أن مكة حرام يحرم فيها أشياء ما يحل في غيرها من بلاد الله تعالى ، ( فإن قلت ) : الحديث هنا " حرم الله مكة " وفي حديث صحيح : " إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم حرم مكة " ( قلت ) : يعني بلغ تحريم الله تعالى لها ، فكان التحريم على لسانه فنسب إليه ، وحكى الماوردي وغيره الخلاف بين العلماء في ابتداء تحريم مكة ، فذهب الأكثرون إلى أنها ما زالت محرمة ، وأنه خفي تحريمها فأظهره إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأشاعه ، وذهب آخرون إلى أن ابتداء تحريمها من زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأنها كانت قبل ذلك غير محرمة كغيرها من البلاد ، وإن معنى حرمها الله يوم خلق السماوات أنه قدر ذلك في الأزل أنه سيحرمها على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وقيل : معناه أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سيحرم مكة بأمر الله تعالى .

وفيه " أحلت لي ساعة من نهار " احتج به أبو حنيفة أن مكة فتحت عنوة لا صلحا ; لأنه عليه الصلاة والسلام فتحها بالقتال وبه قال الأكثرون ، وسيجيء في حديث أبي شريح العدوي ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فيها فقولوا له : إن الله أذن لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم يأذن لك وإنما أذن له ساعة من النهار ، وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها فتحت صلحا ، وتأولوا الحديث على أنه أبيح له القتال لو احتاج إليه ولو احتاج إليه لقاتل ، ولكنه لم يحتج إليه ، وقال ابن دقيق العيد : وهذا التأويل يبعده قوله لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني في حديث أبي شريح ، فإنه يقتضي وجود قتال ظاهر ، وقال شيخنا زين الدين : وفي المسألة قول ثالث إن بعضها فتح صلحا وبعضها عنوة ; لأن المكان الذي دخل منه النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقع فيه القتال ، وإنما وقع في غير المكان الذي دخل منه .

وفيه لا يجوز اختلاء خلا مكة هذا مما ينبت بنفسه بالإجماع ، وأما الذي يزرعه الناس نحو البقول والخضراوات والفصيل فإنها يجوز قطعها ، واختلف في الرعي فيما أنبته الله من خلاها ، فمنعه أبو حنيفة ومحمد ، وأجازه أبو يوسف ومالك والشافعي وأحمد ، وقال ابن المنذر : أجمع على تحريم قطع شجر الحرم ، وقال الإمام : اختلف الناس في قطع شجر الحرم هل فيه جزاء أم لا ؟ فعند مالك لا جزاء فيه ، وعند أبي حنيفة والشافعي فيه الجزاء .

( قلت ) : هذا فيما لم يغرسه الآدمي من الشجر ، وأما ما غرسه الآدمي فلا شيء فيه ، وحكى الخطابي أن مذهب الشافعي منع قطع ما غرسه الآدمي من شجر البوادي ونماه وأمه وغيره مما أنبته الله سواء ، واختلف قوله في جزاء الشجر ، فعند الشافعي في الدوحة بقرة وفيما دونها شاة ، وعند أبي حنيفة يؤخذ منه قيمة ما قطع يشترى به هدي ، فإن لم يبلغ ثمنه تصدق به بنصف صاع لكل مسكين ، وقال الشافعي في الخشب ونحوه : قيمتها بالغة ما بلغت ، وقال الكوفيون : فيها قيمتها والمحرم والحلال في ذلك سواء ، واختلفوا في أخذ السواك من شجر الحرم ، فعن مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنهم رخصوا في ذلك ، وحكى أبو ثور ذلك عن الشافعي ، وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السنا يستمشي به ولا ينزع من أصله ورخص فيه عمرو بن دينار .

وفيه دليل على أن الشجر المؤذي كالشوك لا يقطع من الحرم لإطلاق قوله : " ولا يعضد شجرها " وهو اختيار أبي سعيد المتولي من الشافعية ، وذهب جمهور أصحاب الشافعي [ ص: 163 ] إلى أنه لا يحرم قطع الشوك لأنه مؤذ فأشبه الفواسق الخمس ، وخصوا الحديث بالقياس ، قال النووي : والصحيح ما اختاره المتولي .

وفيه تصريح بتحريم إزعاج صيد مكة ونبه بالتنفير على الإتلاف ونحوه ; لأنه إذا حرم التنفير فالإتلاف أولى .

وفيه أن واجد لقطة الحرم ليس له غير التعريف أبدا ، ولا يملكها بحال ، ولا يستنفقها ، ولا يتصدق بها حتى يظفر بصاحبها ، بخلاف لقطة سائر البقاع ، وهو أظهر قولي الشافعي ، وبه قال أحمد ، وعندنا لقطة الحل والحرم سواء لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : " اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة " من غير فصل ، وروى الطحاوي عن معاذة العدوية : أن امرأة قد سألت عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت : إني قد أصبت ضالة في الحرم فإني قد عرفتها فلم أجد أحدا يعرفها ؟ فقالت لها عائشة : استنفقي بها .

وفيه جواز استعمال الإذخر في القبور والصاغة ، وأهل مكة يستعملون من الإذخر ذريرة ويطيبون بها أكفان الموتى ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إلا الإذخر " يجوز أن يكون أوحي إليه تلك الساعة أو من اجتهاده صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية