صفحة جزء
1337 وقول الله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
" وقول الله " بالجر عطفا على ما قبله ، والتقدير : وفي بيان قول الله عز وجل .

والمطابقة بين الترجمة والآية أن الآية أيضا في بيان إثم مانع الزكاة ، نزلت هذه الآية في عامة أهل الكتاب والمسلمين ، وقيل : بل خاصة بأهل الكتاب . وقيل : بل هو كلام مستأنف في حق من لا يزكي من هذه الأمة ، قاله ابن عباس والسدي وأكثر المفسرين . وسيجيء في تفسير هذه عن البخاري ، حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن حصين ، عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالربذة فقلت : ما أنزلك هذه الأرض ؟ فقال : كنا بالشام فقرأت " والذين يكنزون الذهب والفضة " الآية ، فقال معاوية : ما هذا فينا ، ما هذا إلا في أهل الكتاب . قال : قلت : إنها لفينا وفيهم . ورواه ابن جرير ، وزاد : فارتفع في ذلك القول بيني وبينه ، فكتب إلى عثمان رضي الله تعالى عنه يشكوني ، فكتب إلي عثمان أن أقبل إليه ، قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي : تنح قريبا . فقلت : والله لن أدع ما كنت أقول ، وكان من مذهب أبي ذر تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي الناس بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية رضي الله تعالى عنه فلم ينته ، فخشي أن يضره الناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان رضي الله تعالى عنه إلى المدينة وأنزله بالربذة وحده وبها مات في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه .

قوله والذين يكنزون قال ابن سيده : الكنز اسم للمال ولما يحرز فيه ، وجمعه كنوز ، كنزه يكنزه كنزا واكتنزه ، وكنز الشيء في الوعاء أو الأرض يكنزه كنزا غمزه في يده . وفي المغيث : الكنز اسم للمال المدفون ، وقيل : هو الذي لا يدرى من كنزه . وقال الطبري : هو كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو ظهرها . وقال القرطبي : أصله الضم والجمع ، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة ، ألا يرى إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم " ألا أخبركم بخير ما يكنزه المرء ؟ المرأة الصالحة " ; أي يضمه لنفسه ويجمعه .

واعلم أن الكنز [ ص: 249 ] المستحق عليه الوعيد كل مال لم تؤد زكاته ، وكل مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، رواه نافع عن ابن عمر ، وروى نحوه عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا . وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : أي مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأي مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض . وقال الثوري عن أبي حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله تعالى عنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، فما كان أكثر من ذلك فهو كنز . وهذا غريب ، وقيل : هو ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه .

قوله ( الذهب والفضة ) ، سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى ، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض أي تنصرف ، وحسبك دلالة على فنائهما .

قوله ( ولا ينفقونها ) ، قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل " ولا ينفقونها " وقد ذكر شيئان ؟ قلت : ذهابا بالضمير إلى المعنى دون اللفظ ; لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم ، وقيل : ذهب به إلى الكنوز ، وقيل إلى الأموال . وقيل : معناه ولا ينفقونها والذهب . فإن قلت : لم خصا بالذكر من بين سائر الأموال ؟ قلت : لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء ، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته .

قوله يوم يحمى عليها أي اذكر وقت تدخل النار فيوقد عليها ، يعني أن النار تحمى عليها ، فلما حذفت النار قيل " يحمى " لانتقال إسناد الفعل إلى " عليها " .

قوله فتكوى بها الكي إلصاق الحار من الحديد أو النار بالعضو حتى يحترق الجلد .

قوله جباههم جمع جبهة ، وهي ما بين الحاجبين إلى الناصية ، والجنوب جمع جنب ، والظهور جمع ظهر ، وخصت هذه المواضع دون غيرها من البدن لأنها مجوفة يصل الحر إليها بسرعة ، ويقال : لأن الغني إذا أقبل عليه الفقير قبض جبهته وزوى ما بين عينيه وطوى كشحه ، ولأن الكي في الوجه أبشع وأشهر وفي الظهر والجنب آلم وأوجع ، وقيل : إنما خص هذه المواضع ليقع ذلك على الجهات الأربع .

ويقال : إذا جاء الفقير إلى الغني يواجهه بوجهه فيولي عنه وجهه ويلتفت إلى جنبه ، ثم يدور الفقير فيجيء إلى ناحية جنبه ويلتفت الغني ويولي إلى ظهره ، فيجازى على هذا الوجه .

وذكر مكي عن عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة وفي الاستذكار : روى الثوري عن ابن أنعم عن عمارة بن راشد قرأ عمر رضي الله تعالى عنه والذين يكنزون فقال : ما أراها إلا منسوخة بقوله : خذ من أموالهم

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حميد بن مالك ، حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي ، حدثنا أبي ، حدثنا غيلان بن جامع المحاربي ، عن عثمان بن أبي اليقظان ، عن جعفر بن إياس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية " والذين يكنزون الذهب والفضة " الآية كبر ذلك على المسلمين وقالوا : ما يستطيع أحد منا لولده مالا يبقى بعده ! فقال عمر رضي الله تعالى عنه : أنا أفرج عنكم . فانطلق عمر واتبعه ثوبان ، فأتى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال : يا نبي الله ، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية ! فقال نبي الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم . قال : فكبر عمر رضي الله تعالى عنه ، ثم قال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة ; التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته . ورواه أبو داود وابن مردويه من حديث يعلى بن يعلى به ، وأخرجه الحاكم وقال : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه . وقال أبو الحسن بن الحصار في كتابه الناسخ والمنسوخ : أراد من قال بالنسخ أن جمع المال كان محرما في أول الإسلام ، فلما فرضت الزكاة جاز جمعه . واستدل أبو بكر الرازي من هذه الآية على إيجاب الزكاة في سائر الذهب والفضة مصوغا أو مضروبا أو تبرا أو غير ذلك لعموم اللفظ . قال : ويدل عليه أيضا على ضم الذهب إلى الفضة لإيجابه الحق فيهما مجموعين فيدخل تحته الحلي أيضا وهو قول أصحابنا ، قال أبو حنيفة بضم القيمة كالعروض وعندهما بالأجزاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية