صفحة جزء
( باب لا يقبل الله صدقة من غلول ، ولا يقبل إلا من كسب طيب ، لقوله : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم
أي هذا باب ترجمته لا يقبل الله صدقة من غلول ، هكذا وقع في رواية المستملي .

وفي رواية الأكثرين : باب لا تقبل صدقة من غلول ، فقوله : " لا تقبل " على صيغة المجهول ، وهذا قطعة من حديث أخرجه مسلم من حديث مصعب بن سعد قال : دخل عبد الله بن عمر ، على ابن عامر يعوده ، وهو مريض ، فقال : ألا تدعو الله لي يا ابن عمر ، فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تقبل صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول ، وكنت على البصرة .

( قلت ) : كأنه قاس الدعاء على الصلاة ، فكما أن الصلاة لا تكون إلا عن مصون من الأقذار ، فكذلك الدعاء للمصون من تبعات الناس ، وكنت على البصرة ، وتعلقت بك حقوق الناس ، وكأنه - رضي الله تعالى عنه - قصد بهذا الزجر عليه والحث على التوبة ، وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده ، عن أبي كامل ، أحد مشايخ مسلم فيه بلفظ : " لا يقبل الله صلاة إلا بطهور ، ولا صدقة من غلول " وروى أبو داود في سننه : حدثنا [ ص: 268 ] مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقبل الله تعالى صدقة من غلول ، ولا صلاة بغير طهور " . الغلول بضم الغين : الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة ، يقال : غل في المغنم يغل من باب ضرب يضرب غلولا ، فهو غال : كل من خان في شيء خفية فقد غل ، وسميت غلولا ; لأن الأيدي فيها مغلولة ، أي : ممنوعة مجعول فيها غل ، وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ، ويقال لها : جامعة أيضا ، وذكر ابن سيده أنه يقال : غل يغل غلولا ، وأغل : خان ، وخص بعضهم به الخون في الفيء ، وأغله خونه ، والإغلال السرقة ، قال ابن السكيت : لم يسمع في المغنم إلا غل غلولا .

وفي الصحاح يقال : من الخيانة أغل يغل ، ومن الحقد غل يغل ، ومن الغلول غل يغل بالضم ، قوله : " ولا صلاة " نكرة في سياق النفي ، فتعم وتشمل سائر الصلوات من الفرض والنفل ، والطهور بضم الطاء ، والمراد به الفعل ، وهو قول الأكثرين ، وقد قيل : يجوز فتحها ، وهو بعمومه يتناول الماء والتراب ، قوله : " ولا يقبل إلا من كسب طيب " هذا في رواية المستملي وحده ، وهو قطعة من حديث أبي هريرة الآتي بعد هذا ، قوله : " لقوله " ، أي : لقول الله تعالى ، قال الكرماني : ( فإن قلت ) : ما وجه تعليله بقوله تعالى : ومغفرة خير من صدقة

( قلت ) : تلك الصدقة يتبعها الأذى يوم القيامة بسبب الخيانة ، ونقل عن بعضهم وجه مطابقة الترجمة للآية : أن الأذى بعد الصدقة يبطلها ، فكيف بالأذى المقارن لها ، وذلك أن الغال متصدق بمال مغصوب ، والغاصب مؤذ لصاحب المال ، عاص بتصرفه فيه ، فكان أولى بالإبطال ، وقال ابن المنير : ( فإن قلت ) : ما وجه الجمع بين الترجمة والآية ، وهلا ذكر قوله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم قال ( قلت ) : جرى على عادته في إيثار الاستنباط الخفي والاتكال في الاستدلال الجلي على سبق الأفهام له ، ووجه الاستنباط له يحتمل أن الآية لها إثبات الصدقة غير أن الصدقة لما تبعها سيئة الأذى بطلت ، فالغلول غصب إذا ، فيقارن الصدقة فتبطل بطريق الأولى ، قوله : قول معروف أي : كلام حسن ورد جميل على السائل . وقيل : دعاء صالح يدعو له ، وارتفاع قول على الابتداء ، وإن كان نكرة ; لأنه يخصص بالصفة ، وقوله : خير خبره ، وقوله : ومغفرة ، أي : ستر ، وتجاوز من السائل إذا استطال عليه خير من صدقة يتبعها أذى بمنة . وقيل : مغفرة ، أي : عفو عن ظلم قولي أو فعلي خير من صدقة يتبعها أذى ، وقال الضحاك : يقول أن تمسك مالك خير من أن تنفقه ثم تتبعه منا وأذى ، ويقال : لما علم الله أن الفقير إذا رد بغير نوال يشق عليه ، وربما يدعو عليه ببسط اللسان وإظهار الشكوى ، حث على الصفح والعفو ، ثم قال : والله غني عن صدقة العباد ، ولو شاء لأغنى جميع الخلق ولكنه أعطى الأغنياء لينظر كيف شكرهم وابتلى الفقراء لينظر كيف صبرهم حليم لا يعجل بالعقوبة ، وقال الزمخشري : غني لا حاجة به إلى منفق يمن ويؤذي ، حليم عن معالجته بالعقوبة ، وهذا سخط منه ووعيد له ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية