صفحة جزء
1412 (ولم ير عمر بن عبد العزيز في العسل شيئا)
مطابقته للترجمة من حيث إن العسل فيه جريان ومن طبعه الانحدار، فيناسب الماء من هذه الجهة.

وقيل: المناسبة فيه من جهة أن الحديث يدل على أن لا عشر فيه؛ لأنه خص العشر أو نصفه بما يسقى، فأفهم أن ما لا يسقى لا يعشر.

وفيه نظر؛ لأن ما لا يعشر مما لا يسقى كثير، فما وجه ذكر العسل.

وقيل: إدخاله العسل فيه للتنبيه على الخلاف فيه، وأنه لا يرى فيه زكاة، وإن كانت النحل تغتذي مما يسقى من السماء.

(قلت): هذا أبعد من الأول على ما لا يخفى على المتأمل.

وهذا الموضع يحتاج إلى بيان ما ورد فيه من الأخبار وما ذهب إليه الأئمة، فنقول بحول الله وقوته وتوفيقه:

قال الترمذي: "باب ما جاء في زكاة العسل" حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري، حدثنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن صدقة بن عبد الله، عن موسى بن يسار، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في العسل في كل عشرة أزق زق " ثم قال: وفي الباب عن أبي هريرة وأبي سيارة المنعي وعبد الله بن عمرو. قال أبو عيسى : حديث ابن عمر في إسناده مقال، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثير شيء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق.

وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء. انتهى.

(قلت): انفرد الترمذي بحديث ابن عمر هذا، وروى البيهقي من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة قال: " كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر " وفي إسناده عبد الله بن المحرر بتشديد الراء المفتوحة وتكرارها وهو متروك، قال ابن معين: ليس بثقة.

وقال أحمد: ترك الناس حديثه.

وقال الجوزجاني: هالك.

وقال ابن حبان: من خيار عباد الله إلا أنه كان يكذب ولا يعلم، ويقلب الأخبار ولا يفهم. وروى أبو داود الطيالسي حديث أبي سيارة المنعي قال: " قلت: يا رسول الله إن لي نحلا، قال: إذن تعشر. قلت: احم لي جبله، فحماه لي " ورواه البيهقي وقال: وهذا أصح ما روي في وجوب العشر فيه وهو منقطع. قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا فقال: حديث مرسل، وإنما قال: مرسل لأن فيه سليمان بن موسى يروي عن أبي سيارة، وسليمان لم يدركه ولا أحدا من الصحابة، وأبو سيارة المنعي اسمه عميرة بن الأعلم. وقيل: عمير بن الأعلم، ذكره أبو عمر في (كتاب الأنساب).

وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاء أحد بني منعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي واديا يقال له: سلبة، فحمى له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ذلك الوادي، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما يسأله عن ذلك، فكتب عمر رضي الله [ ص: 71 ] تعالى عنه: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من عشور نحله فاحم له سلبة، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء، وسلبة بفتح السين المهملة واللام والباء الموحدة، كذا قيده البكري.

وقال شيخنا زين الدين: ووقع في سماعنا من السنن بسكون اللام.

وقال شيخنا أيضا: حكى الترمذي عن أكثر أهل العلم وجوب الزكاة في العسل، وسمى منهم أحمد وإسحاق.

وفيه نظر فإن الذين لم يقولوا بالوجوب مالك والشافعي وسفيان الثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والحسن بن صالح بن حي وأبو بكر بن المنذر وداود، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر، ومن التابعين المغيرة بن حكيم وعمر بن عبد العزيز.

وقال: وفرق أبو حنيفة بين أن يكون النحل في أرض العشر وبين أن يكون في أرض الخراج، فإن كان في أرض العشر ففيه الزكاة، وإن كان في أرض الخراج فلا زكاة فيه قل أو كثر.

وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه إذا كان في أرض العشر ففي قليل العسل وكثيره العشر، وحكى عن أبي يوسف ومحمد أنه ليس فيما دون خمسة أوسق من العسل عشر، وحكى ابن حزم عن أبي يوسف أنه إذا بلغ العسل عشرة أرطال ففيه رطل واحد، وكذا ما زاد ففيه العشر، والرطل هو الفلفلي. قال: وقال محمد بن الحسن: إذا بلغ العسل خمسة أفراق ففيه العشر وإلا فلا، قال: والفرق ستة وثلاثون رطلا فلفلية، وحكى صاحب (الهداية) عن أبي يوسف أنه يعتبر فيه القيمة كما هو أصله، وعنه أنه لا شيء فيه حتى يبلغ عشر قرب، وعنه: خمسة أمناء.

(قلت): تحقيق مذهبنا فيه أن عند أبي حنيفة يجب في قليله وكثيره؛ لأنه لا يشترط النصاب في العشر.

وعن أبي يوسف إذا بلغت قيمته خمسة أوساق، وعنه أنه قدره بعشرة أرطال. قال في (المبسوط): وهي رواية الأمالي، وهي خمسة أمناء، وعنه أنه اعتبر فيه عشر قرب.

وعن محمد ثلاث روايات: إحداها: خمس قرب، والقربة خمسون منا ذكره في (الينابيع)، وفي (المغني): القربة مائة رطل، والثانية خمسة أمناء، والثالثة خمسة أواق.

وقال السرخسي: وهي تسعون منا.

واحتجت أصحابنا بما رواه ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من العسل العشر، وبرواية أبي داود أيضا عن عمرو بن شعيب وقد ذكرناه، وبما رواه القرطبي أيضا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها ، قال: هو حديث حسن. وبما رواه الترمذي أيضا عن ابن عمر وقد ذكرناه، وبما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ عن العسل العشر، ذكره في (الإمام).

(فإن قلت): ذكروا عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن العسل في اليمن قال: لم أؤمر فيه بشيء.

(قلت): لا يلزم من عدم أمر معاذ أن لا يجب فيه العشر، وإثبات أبي هريرة مقدم على نفي أمر معاذ، وبما رواه عبد الرحمن بن أبي ذئاب، عن أبيه أن عمر رضي الله تعالى عنه "أمره في العسل بالعشر" رواه الأثرم، ورواه الشافعي في (مسنده) والبزار والطبراني والبيهقي، قال الشافعي: أخبرنا أنس بن عياض عن الحارث بن عبد الرحمن ابن أبي ذئاب، عن أبيه "عن سعد بن أبي ذئاب قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم قلت: يا رسول الله اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعملني عليهم، ثم استعملني أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، قال: وكان سعد من أهل السراة، قال: تكلمت قومي في العسل، فقلت: زكاة، فإنه لا خير في ثمرة لا تزكى، فقالوا: كم؟ قال: قلت: العشر، فأخذت منهم العشر، وأتيت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأخبرته بما كان، قال: فقبضه عمر فباعه، ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين".

وبما رواه عطاء الخراساني، عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال لعمر: إن عندنا واديا فيه عسل كثير، فقال: عليهم في كل عشرة أفراق فرق، ذكره حميد بن زنجويه في (كتاب الأموال).

وقال الأثرم: قلت لأحمد: أخذ عمر العشر من العسل كان على أنهم تطوعوا به، قال: لا بل أخذه منهم حقا.

(فإن قلت): فقد روي عن عبد الله بن عمر العمري، عن نافع ، عن ابن عمر قال: ليس في الخيل ولا في الرقيق ولا في العسل صدقة .

(قلت): العمري ضعيف لا يحتج به.

(فإن قلت): قال البخاري : ليس في زكاة العسل حديث يصح.

(قلت): هذا لا يقدح ما لم يبين علة الحديث والقادح فيه، وقد رواه جماعة منهم أبو داود ولم يتكلم عليه، فأقل حاله أن يكون حسنا وهو حجة، ولا يلزمنا قول البخاري؛ لأن الصحيح ليس موقوفا عليه، وكم من حديث صحيح [ ص: 72 ] لم يصححه البخاري، ولأنه لا يلزم من كونه غير صحيح أن لا يحتج به، فإن الحسن وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو يحتج به، ولأن النحل تتناول من الأنوار والثمار، وفيها العشر.

التالي السابق


الخدمات العلمية