1. الرئيسية
  2. عمدة القاري شرح صحيح البخاري
  3. كتاب الحج
  4. باب قول الله تعالى الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج
صفحة جزء
1485 (باب قول الله تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج
أي: هذا باب في بيان تفسير قول الله تعالى: الحج أشهر معلومات الكلام فيه على أنواع:

الأول: في إعرابها فقوله: (الحج) مبتدأ، وقوله: (أشهر) خبره، وقوله: (معلومات) صفة الأشهر، ومن شرط الخبر أن يصح به الإخبار عن المبتدأ، فلا يصح أن يخبر بالأشهر عن الحج؛ فلذلك قدر فيه حذف، تقديره: وقت الحج أشهر معلومات، ويقال: تقديره: الحج حج أشهر معلومات، فعلى الأول المقدر قبل المبتدأ، وعلى الثاني قبل الخبر، وإن كان يصلح فيه تقدير كلمة "في" فلا يقال إلا بالرفع، وكذلك كلام العرب يقولون: البرد شهران، فلا ينصبونه.

وقال الواحدي: يمكن حمله على غير إضمار، وهو أن الأشهر جعلت نفس الحج؛ اتساعا، لكون الحج يقع فيها، كقولهم: ليل نائم.

قوله: (أشهر) جمع شهر، وليس المراد منه ثلاثة أشهر كوامل، ولكن المراد [ ص: 190 ] شهران وبعض الثالث، ووجهه أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى: فقد صغت قلوبكما ولو قال: "الحج ثلاثة أشهر" كان يتوجه السؤال.

وقيل: نزل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان، ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر، وإنما رآه في ساعة منها.

قوله: (معلومات) يعني: معروفات عند الناس لا تشكل عليهم، قال الزمخشري: وفيه أن الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه، وإنما جاء مقررا له.

قوله: فمن فرض فيهن الحج أي: فمن ألزم نفسه بالتلبية، أو بتقليد الهدي وسوقه.

وقوله: (فلا رفث) هو جواب "من" الشرطية.

وقال القتبي: الفرض هو وجوب الشيء، يقال فرضت عليكم، أي: أوجبت، قال الله تعالى: فنصف ما فرضتم أي: ألزمتم أنفسكم.

وقال ابن عباس: الفرض التلبية.

وقال الضحاك: هو الإحرام، قال عطاء: فمن فرض فيهن، فمن أهل فيهن بالحج.

قوله: فلا رفث نفي، ومعناه النهي، أي: فلا ترفثوا، وقرأ ابن كثير وأبو عمر: (فلا رفث ولا فسوق) بالرفع مع التنوين، وقرأ الباقون بالنصب بغير تنوين، واتفقوا في قوله: ولا جدال بالنصب غير أبي جعفر المدني، فإنه قرأه بالرفع، وهذا يقال له "لا التبرئة" ففي كل موضع يدخل فيه لا التبرئة فصاحبه بالخيار إن شاء نصبه بغير تنوين، وإن شاء ضمه بالتنوين.

وقال الزمخشري: والمراد بالنفي وجوب انتفائها، وأنها حقيقة بأن لا تكون، وقرئ المنفيات الثلاث بالنصب والرفع، وقرأ أبو عمرو وابن كثير رضي الله عنهما الأولين بالرفع والآخر بالنصب; لأنهما حملا الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال، كأنه قال: ولا شك ولا خلاف في الحج.

النوع الثاني: في معناها.

قوله: (الحج) في اللغة القصد، من حججت الشيء أحجه حجا إذا قصدته.

وقال الأزهري: وأصل الحج من قولك: حججت فلانا أحجه حجا إذا عدت إليه مرة بعد أخرى، فقيل: حج البيت; لأن الناس يأتونه كل سنة.

والحج في اصطلاح الشرع قصد إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم بأفعال مخصوصة.

قوله: (أشهر) جمع شهر جمع قلة; لأنه على وزن أفعل بضم العين، والشهر عبارة عن الزمان الذي بين الهلالين، واشتقاقه من الشهرة، والهلال أول ليلة من الشهر والثانية والثالثة، ثم هو قمر بعد ذلك إلى آخر الشهر، وفي الليلة الرابعة عشرة يقال له: "بدر" لتمامه.

وقال الجوهري: إنما سمي بدرا لمبادرته الشمس بالطلوع.

وقال الفراء: هو في أول ليلة هلال، ثم قمير، ثم قمر، ثم بدر.

قوله: (فلا رفث) الرفث الجماع، كما في قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم وهو حرام على المحرم، وكذلك دواعيه من المباشرة والتقبيل، ونحو ذلك، وكذا التكلم بحضرة النساء.

وقال ابن جرير: حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه كان يقول: الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك بين الرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.

وقال ابن وهب: وحدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب، مثله.

وقال عبد الله بن طاوس، عن أبيه: سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج قال: الرفث التعرض بذكر الجماع، وهي العرابة في كلام العرب، وهو أدنى الرفث.

وقال عطاء بن أبي رباح: الرفث الجماع، وما دونه من قول الفحش، وكذا قال عمرو بن دينار. وقال: وكانوا يكرهون العرابة، وهو التعريض بذكر الجماع وهو محرم.

وقال طاوس هو أن يقول للمرأة: "إذا حللت أصبتك" وكذا قال أبو العالية.

وقال ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم: الرفث غشيان النساء، وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم، وأبو العالية، ومكحول، وعطاء الخراساني، وعطاء بن يسار، وعطية، والربيع، والزهري، والسدي، ومالك بن أنس، ومقاتل بن حيان، وعبد الكريم بن مالك، والحسن، وقتادة، والضحاك، وآخرون.

قوله: (ولا فسوق) قال مقسم وغير واحد عن ابن عباس: هي المعاصي، وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وسعيد بن جبير، والحسن، والنخعي، وقتادة، والزهري، ومكحول، وعطاء الخراساني، وعطاء بن يسار، ومقاتل بن حيان.

وقال محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيدا أو غيره، وروى ابن وهب، عن يونس، عن نافع أن عبد الله ابن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله تعالى في الحرم.

وقال آخرون: الفسوق هاهنا السباب، قاله ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومجاهد، والسدي، وإبراهيم، والحسن، وقد تمسك هؤلاء بما في (الصحيحين) "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" وروى [ ص: 191 ] ابن أبي حاتم من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "الفسوق" هاهنا الذبح للأصنام.

وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب.

قوله: ولا جدال في الحج فيه قولان:

أحدهما: ولا مجادلة في وقت الحج، وفي مناسكه.

والثاني: أن المراد بالجدال هاهنا المخاصمة، وعن ابن مسعود في قوله: ولا جدال في الحج قال أن تماري صاحبك حتى تغضبه، وعن ابن عباس الجدال المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك، وعن ابن عمر الجدال المراء والسباب والخصومات.

النوع الثالث: في الأحكام المتعلقة بأشهر الحج، قال الله تعالى أشهر معلومات وهي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، وهو قول أكثر العلماء، وهو المنقول عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، ومكحول، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، وأبي ثور، واختاره ابن جرير، ويحكى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم.

وقال مالك والشافعي في القديم: هي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة بكماله، وهو رواية عن ابن عمر أيضا.

وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، قال: قلت لنافع: سمعت عبد الله بن عمر يسمي شهور الحج؟ قال: نعم، كان عبد الله يسمي شوالا، وذا القعدة، وذا الحجة قال ابن جريج: وقال ذلك ابن شهاب ، وعطاء ، وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج، وحكي هذا أيضا عن مجاهد، وطاوس، وعروة بن الزبير، والربيع بن أنس، وقتادة.

قال ابن كثير في (تفسيره) وجاء فيه حديث مرفوع، ولكنه موضوع، رواه الحافظ ابن مردويه من طريق حصين بن المخارق، وهو متهم بالوضع عن يونس بن عبيد، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أشهر معلومات: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة ) وهذا كما رأيت لا يصح رفعه، واحتج الجمهور بما علقه البخاري على ما يجيء، قال ابن عمر: "هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة" ورواه ابن جرير، حدثني أحمد بن حازم بن أبي عزرة، حدثنا أبو نعيم، حدثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر ( أشهر الحج معلومات، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة ) إسناده صحيح، ورواه الحاكم أيضا في (مستدركه) عن الأصم، عن الحسن بن علي بن عفان، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره. وقال: على شرط الشيخين.

وعن الحاكم رواه البيهقي في (المعرفة) بإسناده ومتنه، ومما احتج به مالك ما رواه الدارقطني في (سننه) عن شريك، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: (أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وذو الحجة) ورواه أيضا عن ابن مسعود نحوه. وعن عبد الله بن الزبير نحوه.

وقال الطبري: إنما أراد من قال: "أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة" أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة إنما هي للحج، وإن كان الحج ينقضي بانقضاء أيام منى.

(قلت): الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها، وإن كان صحيحا، والقول بصحة الإحرام في جميع السنة مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وهو مذهب إبراهيم النخعي، والثوري، والليث بن سعد، ومذهب الشافعي أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عمرة؟ فيه قولان عنه، والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج مروي عن ابن عباس، وجابر، وبه يقول طاوس، وعطاء، ومجاهد.

(فإن قلت): هل يدخل يوم النحر في عشر ذي الحجة أم لا؟

(قلت): قال أبو حنيفة، وأحمد: يدخل.

وقال الشافعي: لا يدخل، وهو المشهور المصحح عنه.

وقال بعض الشافعية: تسع من ذي الحجة، ولا يصح في يوم النحر ولا ليلته، وهو شاذ.

التالي السابق


الخدمات العلمية