صفحة جزء
1489 157 - حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، حدثنا ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر. قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: حل كله.
مطابقته للترجمة في قوله: (فأمرهم أن يجعلوها عمرة) وهي فسخ الحج إلى العمرة، ورجال الحديث قد تقدموا غير مرة، ووهيب - مصغر وهب - ابن خالد، وابن طاوس هو عبد الله يروي عن أبيه طاوس.

وأخرجه البخاري أيضا في أيام الجاهلية عن مسلم بن إبراهيم.

وأخرجه مسلم في الحج عن محمد بن حاتم.

وأخرجه النسائي فيه عن عبد الأعلى.

(ذكر معناه):

قوله: (كانوا) أي أهل الجاهلية.

قوله: (يرون) أي يعتقدون أن العمرة إلى آخره، وروى داود، عن ابن عباس قال: (والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الأثر وبرأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر، وكان يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم) ورواه ابن حبان أيضا، ففي هذا تعيين القائلين المذكورين في قوله: "ويقولون".

قوله: (من أفجر الفجور) أي من أعظم الذنوب، وهذا من تحكماتهم الباطلة المأخوذة من غير أصل، والفجور الانبعاث في المعاصي، يقال: فجر يفجر فجورا من باب نصر ينصر.

قوله: (ويجعلون المحرم صفرا) أي يجعلون الصفر من الأشهر الحرم، ولا يجعلون المحرم منها.

قوله: (صفر) قال بعضهم: كذا هو في جميع الأصول من الصحيحين.

وقال صاحب التلويح: قوله صفرا هو الصحيح؛ لأنه مصروف بلا خلاف، ووقع في مسلم رحمه الله تعالى: (صفر) بغير ألف.

قلت: هذا يرد ما قاله بعضهم.

وقال صاحب التوضيح: قوله "صفر" كذا هو بغير ألف في أصل الدمياطي رحمه الله تعالى، وفي مسلم: الصواب "صفرا" بالألف.

وقال النووي: كان ينبغي أن يكتب بالألف، ولكن على تقدير حذفها لا بد من قراءته منصوبا لأنه منصرف.

وقال الكرماني: اللغة الربيعية أنهم يكتبون المنصوب بلا ألف، وقال: وتقرأ هذه الألفاظ كلها ساكنة الآخر موقوفا عليها؛ لأن مرادهم السجع، وفي المحكم: وكان أبو عبيدة لا يصرفه، فقيل له: لم لم تصرفه لأن النحويين قد أجمعوا على صرفه، وقالوا: لا يمنع الحرف من الصرف إلا العلتان فأخبرنا بالعلتين فيه؟ فقال: نعم، العلتان المعرفة والساعة.

وقال أبو عمر المطرز: يرى أن الأزمنة كلها ساعات، والساعات مؤنثة. وقال عياض: قيل "صفر داء يكون في البطن كالحيات إذا اشتد جوع الإنسان عضه". وقال رؤبة: "هي حية تلتوي في البطن وهي أعدى من الجرب عند العرب".

قلت: هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صفر) وهاهنا غير مناسب.

وقال النووي: قالت العلماء: المراد الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه ويؤخرون تحريم المحرم إلى نفس صفر؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة فيضيق عليهم فيها ما اعتادوه من المقاتلة والغارة والنهب، فضللهم الله في ذلك فقال: إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا وقال الزمخشري: النسيء هو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وربما زادوا في عدد الشهر فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر؛ ليتسع لهم الوقت.

وقال الطيبي: إن العرب كانوا يؤخرون المحرم إلى صفر وهو النسيء المذكور في القرآن، قال تعالى: إنما النسيء زيادة في الكفر وقال الكلبي: أول من نسأ القلمس واسمه حذيفة [ ص: 200 ] ابن عبيد الكناني، ثم ابنه عباد، ثم ابنه قلع بن عباد ثم أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن أمية، وعليه قام الإسلام.

وقيل: أول من نسأ نعيم بن ثعلبة، ثم جنادة، وهو الذي أدركه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقيل: مالك بن كنانة.

وقيل: عمرو بن طيئ.

وقال ابن دريد: الصفران شهران من السنة سمي أحدهما في الإسلام المحرم، وفي المحكم قال بعضهم: سمي صفرا لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع.

وقال بعضهم: سمي بذلك لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا، وروي عن رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرا؛ لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفرا من المتاع، وذلك إذا كان صفر بعد المحرم، فقالوا: صفر الناس منا صفرا، فإذا جمعوه مع المحرم قالوا صفران والجمع أصفار.

وقال القزاز: قالوا إنما سموا الشهر صفرا؛ لأنهم كانوا يخلون البيوت فيه لخروجهم إلى البلاد، يقال لها الصفرية يمتارون منها.

وقيل: لأنهم كانوا يخرجون إلى الغارة فتبقى بيوتهم صفرا، وفي (العلم المشهور) لأبي الخطاب: العرب تقول: صفر وصفران وصفارين وأصفار، قال وقيل: إن العرب كانوا يزيدون في كل أربع سنين شهرا يسمونه صفرا الثاني، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (السنة اثنا عشر شهرا) وكانوا يتطيرون به ويقولون: إن الأمور فيه منغلقة والآفات فيه واقعة.

قوله: (إذا برأ الدبر) برأ بفتح الباء الموحدة معناه إذا أفاق، و"الدبر" بفتح الدال والباء الموحدة ثم الراء، وهو ما يتأثر في ظهر الإبل بسبب اصطكاك القتب والحمل عليها في السفر.

وقال الخطابي: يحتمل أن يكونوا أرادوا برء الدبر في ظهر الإبل إذا انصرفت من الحج.

وقال ابن سيده: الجمع أدبار، ودبر دبرا فهو دبر، وأدبر، والأنثى دبرة ودبراء، وإبل دبراء، وقد أدبرها الحمل، قال عياض: وقيل هو أن يقرح خف البعير.

قوله: (وعفا الأثر) أي ذهب أثر الدبر، يقال: عفا الشيء بمعنى درس، ووقع في سنن أبي داود: (وعفا الوبر) يعني كثر وبر الإبل الذي حلقته رحال الحاج، وعفى من الأضداد.

وقال الكرماني: المعروف في عامة الروايات: (عفا الوبر) يعني بالواو كما في رواية أبي داود، قال تعالى: حتى عفوا وقالوا أي كثروا.

قوله: (حلت العمرة) أي صار الإحرام بالعمرة لمن أراد أن يحرم بها جائزا.

وقال الكرماني: ما وجه تعلق انسلاخ صفر بالاعتمار في أشهر الحج الذي هو المقصود من الحديث، والمحرم وصفر ليسا من أشهر الحج؟

فأجاب بقوله: لما سموا المحرم صفرا وكان من جملة تصرفاتهم فعل السنة ثلاثة عشر شهرا صار صفر على هذا التقدير آخر السنة وآخر أشهر الحج؛ إذ لا برء في أقل من هذه المدة غالبا، وأما ذكر انسلاخ صفر الذي من الأشهر الحرم بزعمهم فلأجل أنه لو وقع قتال في الطريق وفي مكة لقدروا على المقاتلة، فكأنه قال: إذا انقضى شهر الحج وأثره والشهر الحرام جاز الاعتمار، أو يراد بالصفر المحرم، ويكون "إذا انسلخ صفر" كالبيان والبدل لقوله: "إذا برأ الدبر" فإن الغالب أن البرء لا يحصل من أثر سفر الحج إلا في هذه المدة، وهي ما بين أربعين يوما إلى خمسين ونحوه.

قوله: (قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) كذا وقع في هذه الرواية، ووقع في رواية عن مسلم بن إبراهيم، عن وهيب في أيام الجاهلية بلفظ: (فقدم) بزيادة فاء العطف، وكذا في رواية مسلم من طريق بهز بن أسد، والإسماعيلي من طريق إبراهيم بن الحجاج، كلاهما عن وهيب، وهو الوجه.

قوله: (صبيحة رابعة) أي ليلة رابعة من ذي الحجة وهي يوم الأحد.

قوله: (مهلين) نصب على الحال، أي حال كونهم مهلين بالحج، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: (وهم يلبون بالحج) وهذه الرواية تفسر قوله: (مهلين).

قوله: (فتعاظم ذلك) أي الاعتمار في أشهر الحج، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: (فكبر ذلك عندهم) أراد أنه تعاظم عندهم مخالفة العبادة التي كانوا عليها من تأخير العمرة عن أشهر الحج.

قوله: (أي الحل) معناه أي شيء من الأشياء يحل علينا؛ لأنه قال: (اعتمروا وأحلوا) فقال: (حل كله) يعني جميع ما يحرم على المحرم حتى الجماع، وذلك تمام الحل، كأنهم كانوا يعرفون أن للحج تحليلين فأرادوا بيان ذلك بقولهم: (أي الحل) فبين لهم صلى الله عليه وسلم (الحل كله) لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد، ووقع في رواية الطحاوي: (أي الحل نحل؟ قال: الحل كله).

ذكر ما يستفاد منه:

فيه فسخ الحج إلى العمرة الذي بوب عليه.

وفيه: استحباب دخول مكة نهارا وهو المروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وبه قال عطاء والنخعي وإسحاق وابن المنذر، وهو أصح الوجهين لأصحاب الشافعي، والوجه الثاني دخولها ليلا ونهارا سواء، لا فضيلة لأحدهما على الآخر، وهو قول طاوس والثوري.

وعن عائشة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز: دخولها ليلا أفضل من النهار.

وقال مالك: يستحب دخولها نهارا فمن جاءها ليلا فلا بأس به، قال: وكان عمر بن [ ص: 201 ] عبد العزيز يدخلها لطواف الزيارة ليلا.

وفيه حجة لمن قال: كان حج النبي صلى الله عليه وسلم مفردا، ومن قال: "كان قارنا" لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية