صفحة جزء
1505 174 - حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، فقال: أرني إزاري، فشده عليه.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: "لما بنيت الكعبة".

فإن قلت: الترجمة بنيان مكة وفي الحديث بنيان الكعبة.

قلت: قد ذكرت في أول الباب أن بنيان الكعبة كان سببا لبنيان مكة وبين السبب والمسبب ملائمة، فيستأنس بهذا وجه المطابقة.

ذكر رجاله: وهم خمسة:

الأول: عبد الله بن محمد الجعفي المعروف بالمسندي.

الثاني: أبو عاصم النبيل واسمه الضحاك [ ص: 214 ] ابن مخلد.

الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.

الرابع: عمرو -بفتح العين- ابن دينار.

الخامس: جابر بن عبد الله الأنصاري.

ذكر لطائف إسناده:

فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ويروى بصيغة الإفراد في التحديث عن شيخه.

وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضعين.

وفيه: السماع.

وفيه: القول في أربعة مواضع.

وفيه: أن شيخه من أفراده، وأنه بخاري، وأبو عاصم بصري، وابن جريج وعمرو مكيان.

وفيه: أن أحدهم مذكور بكنيته والآخر بنسبته إلى جده من غير ذكر اسمه.

ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره:

أخرجه البخاري أيضا في بنيان الكعبة عن محمود، عن عبد الرزاق.

وأخرجه مسلم في الطهارة، عن إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن حاتم، كلاهما عن محمد بن بكر. وعن إسحاق بن منصور، ومحمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق، وهذا الحديث من مراسيل جابر؛ لأنه لم يدرك هذه القصة، ولكن يحتمل أن يكون سمعها من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أو ممن حضرها من الصحابة.

وفي التوضيح: ومرسله حجة، وقد ذكرنا ذلك في أوائل كتاب الصلاة في (باب كراهية التعري في الصلاة) فإن البخاري أخرجه هناك عن مطر بن الفضل، عن روح، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، قال: "سمعت جابر بن عبد الله يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره" الحديث.

(ذكر معناه): قوله: (لما بنيت الكعبة) اشتقاق الكعبة من الكعب وكل شيء علا وارتفع فهو كعب ومنه سميت الكعبة للبيت الحرام؛ لارتفاعه وعلوه.

وقيل: سميت به لتكعبها أي تربيعها.

وقال الجوهري: الكعبة البيت الحرام، سمي بذلك لتربيعه.

وعن مقاتل: سميت كعبة لانفرادها من البناء، وسمي البيت الحرام؛ لأن الله تعالى حرمه وعظمه، وأما مكة فهو اسم بلدة في واد بين جبال غير ذي زرع.

وقال السهيلي: أما مكة فمن تمككت العظم أي اجتذبت ما فيه من المخ، وتمكك الفصيل ما في ضرع الناقة فكأنها تجتذب ما في نفسها من البلاد والأقوات التي تأتيها في المواسم.

وقيل: لما كانت في بطن واد فهي تمكك الماء من جبالها وأخشابها عند نزول المطر وتنجذب إليها السيول.

وقال الصغاني: مكة البلد الحرام، واشتقاقها من مك الصبي ثدي أمه يمكه مكا إذا استقصى مصه، وسميت مكة؛ لقلة الماء بها، ولأنهم يمتكون الماء، أي يستخرجونه باستقصاء. ويقال: سميت مكة؛ لأنها كانت تبك من ظلم بها أي تهلكه، ويقال أيضا: بكة بالباء الموحدة.

وقيل: بكة اسم موضع الطواف.

وقيل: بكة مكان البيت ومكة سائر البلد، وسميت بكة؛ لأن الناس يبك بعضهم بعضا في الطواف، أي يدفع.

وقيل: لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم.

وقيل: من التباك وهو الازدحام، قال الراجز:


إذا الفصيل أخذته أكة فحله حتى يبك بكة



الأكة بفتح الهمزة وتشديد الكاف: الشدة.

وقال العتبي: مكة وبكة شيء واحد، والباء تبدل من الميم كثيرا. ولمكة أسامي منها: الناسة بالنون والسين المهملة من النس؛ سميت لقلة مائها، وفي المنتخب: الكراع النساسة، وعن الأعرابي: النباسة، وعند الخطابي: الباسة بالباء الموحدة، ويروى الناشة بالنون والشين المعجمة تنش من ألحد فيها أي تطرده وتنفيه. ومنها: الراس، وصلاح، وأم صبح، وأم رحم بضم الحاء وسكونها، وأم رحم، وأم زحم بالزاي من الازدحام فيها، وطيبة، ونادر، وأم القرى، والحاطمة، والعرش، والقادس، والمقدسة، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته البلدة، وفي أمالي ثعلب: عن ابن الأعرابي سأل رجل عليا رضي الله تعالى عنه: من أهلكم يا أمير المؤمنين؟ فقال علي: نحن قوم من كوثى، فقالت طائفة: أراد كوثى وهي المدينة التي ولد بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقالت طائفة: أراد بكوثى مكة؛ وذلك لأن محلة بني عبد الدار يقال لها كوثى مشهورة عند العرب، فأراد بقوله كوثى أنا مكيون من أم القرى، وقد ذكرنا الاختلاف في أول من بناها.

قوله: (اجعل إزارك على رقبتك) وفي صحيح الإسماعيلي من حديث عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، سمع جابرا: لما بنت قريش الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتي من الحجارة، ففعل فخر إلى الأرض وطمحت" قال الإسماعيلي: قد جعل عبد الرزاق وضع الإزار [ ص: 215 ] على رقبة العباس.

قوله: (فخر إلى الأرض) من الخرور وهو الوقوع، وفي رواية زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار الذي مضى في باب كراهية التعري في أوائل كتاب الصلاة: (فحله فجعله على منكبيه فسقط مغشيا عليه) وفي طبقات ابن سعد من حديث الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم، دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا: (بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينقل معهم الحجارة، يعني للبيت وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، وكانوا يضعون أزرهم على عواتقهم ويحملون الحجارة، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبط، أي سقط من قيام، ونودي: عورتك، فكان ذلك أول ما نودي، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي اجعل إزارك على رأسك، فقال: "ما أصابني ما أصابني إلا في تعري".

وقال ابن إسحاق: حدثني والدي عمن حدثه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال فيما يذكر من حفظ الله تعالى إياه: "إني لمع غلمان وهم أسناني قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة، ثم قال: اشدد عليك إزارك" وعند السهيلي في خبر آخر: لما سقط ضمه العباس إلى نفسه وسأله عن شأنه فأخبره أنه نودي من السماء أن اشدد عليك إزارك يا محمد، قال: وإنه أول ما نودي.

وروى البيهقي في الدلائل من حديث سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، حدثني العباس بن عبد المطلب قال: لما بنت قريش الكعبة انفردنا رجلين رجلين ينقلون الحجارة، وكنت أنا وابن أخي، فجعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا، ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء قال: فقلت يا ابن أخي ما شأنك؟ قال: "نهيت أن أمشي عريانا". قال: فكتمته حتى أظهر الله نبوته.

ورواه أبو نعيم من طريق النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، وليس فيه العباس.

وقال في آخره: فكان أول شيء رأى من النبوة.

وقال صاحب التلويح: وكأن ابن عباس أراد بقوله "أول شيء رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النبوة أن قيل له استتر وهو غلام" هذه القصة، ورواه الطبراني عن ابن لهيعة عن أبي الزبير، قال: سألت جابرا هل يقوم الرجل عريانا؟ فقال: أخبرني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لما انهدمت الكعبة نقل كل بطن من قريش، وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نقل مع العباس رضي الله تعالى عنه، فكانوا يضعون ثيابهم على العواتق فيتقوون بها، أي على حمل الحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فاعتقلت رجلي فخررت وسقط ثوبي" فقلت للعباس: هلم ثوبي فلست أتعرى بعدها إلا لغسل ". وابن لهيعة فيه مقال، وفي رواية أن الملك نزل فشد عليه إزاره.

قوله: (فطمحت عيناه) أي شخصتا وارتفعتا.

وقال ابن سيده: طمح ببصره يطمح طمحا: شخص.

وقيل: رمى به إلى الشيء، ورجل طماح: بعيد الطرف، وفي رواية عبد الرزاق عن أبي جريج في أوائل السيرة النبوية: ثم أفاق.

قوله: (أرني إزاري) قال ابن التين: ضبطه بإسكان الراء وبكسرها، قال: والكسر أحسن عند بعض أهل اللغة، لأن معناه: أعطني وليس معناه من الرؤية، ووقع في شرح ابن بطال: "إزاري إزاري" مكررا، ومعناه صحيح إن ساعدته الرواية.

قوله: (فشده عليه) زاد زكريا بن إسحاق: (فما رئي بعد ذلك عريانا).

التالي السابق


الخدمات العلمية