صفحة جزء
1506 175 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم. فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت. فقال عبد الله رضي الله عنه: لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم.
حديث عائشة هذا رواه من أربعة طرق على ما يأتي.

فإن قلت: ما وجه إيراده في باب فضل مكة والحديث في شأن الكعبة؟

قلت: قد ذكرنا في أول الباب أن بنيان الكعبة لما كان سببا لبنيان مكة اكتفى به، وما كان من فضل الكعبة فمكة داخلة فيه، والله تعالى ذكر فضل مكة في غير موضع من كتابه، ومن أعظم فضلها أنه عز وجل فرض على عباده حجها، وألزمهم قصدها ولم [ ص: 216 ] يقبل من أحد صلاة إلا باستقبالها وهي قبلة أهل دينه أحياء وأمواتا.

ورجال هذا الطريق قد ذكروا غير مرة، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.

ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره:

أخرجه البخاري أيضا في أحاديث الأنبياء عليهم السلام، عن عبد الله بن يوسف، وفي التفسير عن إسماعيل.

وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى، عن مالك به.

وعن هارون بن سعيد الأيلي وأبي الطاهر بن السرح، كلاهما عن ابن وهب.

وأخرجه النسائي فيه، وفي العلم، وفي التفسير عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، كلاهما عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك به.

(ذكر معناه):

قوله: (أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر) ووقع في رواية مسلم "أبي بكر بن قحافة".

قوله: (أخبر عبد الله بن عمر) بنصب "عبد الله" على المفعولية والفاعل مضمر.

قوله: (عن عائشة) متعلق بقوله: (أخبر) وظاهر هذا الكلام يقتضي حضور سالم لذلك، فيكون من روايته عن عبد الله بن محمد.

قوله: (ألم تري) أي ألم تعرفي.

قوله: (أن قومك) هم قريش.

قوله: (اقتصروا عن قواعد إبراهيم عليه السلام) والقواعد جمع قاعدة، وهي الأساس، أصل ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر قال: "لما أهبط الله تعالى آدم من الجنة قال: إني مهبط معك، أو منزل معك بيتا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي" فلما كان زمن الطوفان رفع فكانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأعلمه مكانه، فبناه من خمسة أجبل كما ذكرناه.

وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله تعالى لما بوأ لإبراهيم عليه الصلاة والسلام مكان البيت خرج إليه من الشام ومعه إسماعيل وأمه وهو طفل يرضع وحملوا على البراق، ومعه جبريل عليه السلام يدله على مواضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال: بهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: أمضه، حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر، وبها أناس ويقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل عليهما السلام: أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا، ثم رجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أهله، والقصة طويلة عرفت في موضعها، ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له، فقال: يا إسماعيل، إن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتا، فقال: أطع ربك عز وجل، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، قال: إذا أفعل، أو كما قال، قال: فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة.

وعن السدي: أخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحا يقال لها الحجوج لها جناحان ورأس في صورة حية، فدلت لهما ما حول البيت على أساس البيت الأول واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، فلما بنيا القواعد وبلغا مكان الركن قال: يا إسماعيل اطلب لي حجرا حسنا أضعه هنا، قال: يا أبه إني لغب، قال: علي ذلك، فانطلق يتطلب حجرا وجاء جبريل عليه الصلاة والسلام بالحجر الأسود من الهند وكان ياقوتة بيضاء مثل النعامة، وكان آدم عليه الصلاة والسلام هبط به من الجنة، فلما جاء إسماعيل الحجر قال: يا أبه من جاءك بهذا؟ قال: من هو أنشط منك.

وفي الدلائل للبيهقي: عن عبد الله بن عمرو، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث الله عز وجل جبريل عليه الصلاة والسلام إلى آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام، فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل عليه الصلاة والسلام، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل حتى أصابه الماء نودي من تحت: حسبك يا آدم، فلما بناه أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح عليه السلام، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه.

وفي كتاب التيجان: لما عبث قوم نوح عليه السلام وهدموا الكعبة قال الله تعالى له: "انتظر الآن هلاكهم إذا فار التنور". وفي كتاب الأزرقي: جعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام طول بناء الكعبة في السماء تسعة أذرع وطولها في الأرض ثلاثين ذراعا، وعرضها في الأرض اثنين وعشرين ذراعا، وكانت بغير سقف، ولما بنتها قريش جعلوا طولها ثماني عشر ذراعا في السماء ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وشبر، وتركوها في الحجر، ولما بناها ابن الزبير جعل طولها في السماء عشرين ذراعا، ولم يغير الحجاج طولها حين هدمها وهو إلى الآن على ذلك.

وقيل: إنه بني في أيام جرهم مرة أو مرتين؛ لأن السيل كان قد صدع حائطه.

وقيل: لم يكن بنيانا إنما كان إصلاحا لما وهي منه، وجدار بني [ ص: 217 ] بينه وبين السيل بناه عامر الجادر.

وعن علي لما بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام مر عليه الدهر فانهدم فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يومئذ شاب ، وصحح الحاكم أصل هذا الحديث.

وقال ابن شهاب: لما بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة، فطارت شرارة من مجمرتها في باب الكعبة فاحترقت فهدموها، فلما اختلفوا في وضع الركن دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة فحكموه فأمر بثوب، الحديث.

وفيه: فوضعه هو في مكانه، ثم طفق لا يزداد على ألسن الأرض حتى دعوه الأمين. وعند موسى بن عقبة: كان بنيانها قبل البعثة بخمس عشرة سنة، وكذا روي عن مجاهد وعروة ومحمد بن جبير بن مطعم وغيرهم.

وقال محمد بن إسحاق في السيرة: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة أجمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهمون لذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويكا مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده، ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتشرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون ذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا أخزلت وكشطت وفتحت فاها، وكانوا يهابونها، فبينما هي يوم تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب وكفانا الله الحية، ثم اجتمعت القبائل من قريش فجمعوا الحجارة لبنائها، كل قبيلة على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، يعني الحجر الأسود، فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، فآخر الأمر أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمران بن مخزوم كان عامئذ أسن قريش كلهم، فقال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، فقالوا: وكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبا، فأتي به فأخذ الركن، يعني الحجر الأسود، فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم.

قوله: (لولا حدثان قومك) الحدثان بكسر الحاء المهملة وبالثاء المثلثة بمعنى الحدوث، معناه قرب عهدهم بالكفر، وخبر المبتدأ محذوف.

قوله: (لفعلت) أي لرددتها على قواعد إبراهيم.

قوله: (قال) أي عبد الله بالإسناد المذكور، ويروى: فقال وقال، بالفاء والواو، ويروى: قال عبد الله.

قوله: (لئن كانت عائشة) ليس هذا اللفظ منه على سبيل التضعيف لروايتها والتشكيك في صدقها؛ لأنها كانت صديقة حافظة ضابطة غاية ما يمكن، بحيث لا تستراب في حديثها، ولكن كثيرا يقع في كلام العرب صورة التشكيك والمراد به التقرير واليقين، كقوله تعالى: وإن أدري لعله فتنة لكم و: قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي

قوله: (ما أرى) بضم الهمزة أي: ما أظن، وهي رواية معمر، وزاد في آخر الحديث: (ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك).

قوله: (استلام الركنين) الاستلام افتعال من السلام يقال: استلم الحجر إذا لمسه، والمراد لمس الركنين بالقبلة أو باليد.

قوله: (يليان الحجر) أي يقربان من الحجر بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم، وهو معروف، على صفة نصف الدائرة، وقدرها تسع وثلاثون ذراعا، وقالوا: ستة أذرع منه محسوب من البيت بلا خلاف، وفي الزائد خلاف.

قوله: (إلا أن البيت) أي الكعبة (لم يتمم على قواعد إبراهيم التي رفعها) يريد إن كان عبد الله بن محمد بن أبي بكر سلم من السهو في نقله عن عائشة، وكانت عائشة رضي الله عنها سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك إلى آخره، فأخبر ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم ترك استلامهما، ومقتضاه أنه قصد تركهما وإلا فلا يسمى تاركا في العرف من أراد من الكعبة شيئا فمنعه منه مانع، فكأن ابن عمر علم ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستلام ولم يعلم علته، فلما أخبره عبد الله بن محمد بخبر عائشة هذا عرف علة ذلك، وهو كونهما ليس على القواعد، بل أخرج منه بعض الحجر، ولم يبلغ به ركن البيت الذي من تلك الجهة، والركنان اللذان اليوم [ ص: 218 ] من جهة الحجر لا يستلمان كما لا يستلم سائر الجدر؛ لأنه حكم مختص بالأركان.

وعن عروة ومعاوية: استلام الكل، وأنه ليس من البيت شيء مهجور، وذكر عن ابن الزبير أيضا، وكذا عن جابر وابن عباس والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم.

وقال أبو حنيفة: لا يستلم إلا الركن الأسود خاصة، ولا يستلم اليماني؛ لأنه ليس بسنة، فإن استلمه فلا بأس.

التالي السابق


الخدمات العلمية