صفحة جزء
142 8 - حدثنا آدم قال : حدثنا شعبة ، عن عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنسا يقول : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال : اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث .
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

( بيان رجاله ) وهم أربعة تقدم ذكرهم وآدم ابن أبي إياس وصهيب ، بضم الصاد المهملة .

( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ، ومنها أنه من رباعيات البخاري ، ومنها أن رواته ما بين بغدادي وواسطي وبصري .

( بيان تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الدعوات عن محمد بن عروة عن شعبة ، وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب كلاهما عن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد العزيز به ، وأخرجه أبو داود أيضا في الطهارة عن الحسن بن عمرو عن وكيع عن شعبة ، وأخرجه الترمذي فيه أيضا عن قتيبة وهناد كلاهما عن وكيع به ، وأخرجه النسائي في الطهارة ، وفي البعوث عن إسحاق بن إبراهيم عن إسماعيل بن إبراهيم عنه به ، وأخرجه ابن ماجه عن عمرو بن رافع عن إسماعيل عنه به .

( بيان اللغات ) قوله : « أعوذ بك " أي : ألوذ وألتجئ من العوذ ، وهو عود إليه يلجأ الحشيش في مهب الريح ، وقال ابن الأثير : يقال عذت به عوذا وعياذا ومعاذا ، أي : لجأت إليه والمعاذ المصدر والمكان والزمان ، أي : لقد لجأت إلى ملجأ ولذت بملاذ .

قوله : « من الخبث " قال الخطابي : بضم الخاء والباء جماعة الخبيث ، والخبائث جمع الخبيثة ، يريد ذكران الشياطين وإناثهم ، وعامة أصحاب الحديث يقولون : الخبث مسكنة الباء ، وهو غلط ، والصواب مضمومة الباء ، قال : وقال ذلك لأن الشياطين يحضرون الأخلية ، وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله تعالى ، فقدم لها الاستعاذة احترازا منهم . انتهى ، وفيه نظر ; لأن أبا عبيد القاسم بن سلام حكى تسكين الباء ، وكذا الفارابي في ديوان الأدب ، والفارسي في مجمع الغرائب ، ولأن فعلا بضمتين قد يسكن عينه قياسا ككتب وكتب ، فلعل من سكنها سلك هذا المسلك .

وقال التوربشتي : هذا مستفيض لا يسع أحدا مخالفته إلا أن يزعم أن ترك التخفيف فيه أولى لئلا يشتبه بالخبث الذي هو المصدر ، وفي شرح السنة : الخبث ، بضم الباء ، وبعضهم يروي بالسكون ، وقال : الخبث الكفر والخبائث الشياطين ، وقال ابن بطال : الخبث بالضم يعم الشر ، والخبائث الشياطين ، وبالسكون مصدر خبث الشيء يخبث خبثا ، وقد يجعل اسما ، وزعم ابن الأعرابي أن أصل الخبث في كلام العرب المكروه ; فإن كان من الكلام فهو الشتم ، وإن كان من الملل فهو الكفر ، وإن كان من الطعام فهو الحرام ، وإن كان من الشراب فهو الضار ، وقال ابن الأنباري وصاحب المنتهى : الخبث الكفر ، ويقال : الشيطان ، والخبائث المعاصي جمع خبيثة ، ويقال : الخبث خلاف طيب الفعل من فجور وغيره ، والخبائث الأفعال المذمومة والخصال الرديئة .

( بيان الإعراب ) قوله : « يقول " جملة في محل النصب على الحال ، قوله : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " جملة وقعت مقول القول ، وقوله : « يقول " جملة في محل النصب على أنها خبر "كان" ، وكلمة إذا ظرف بمعنى حين ، والخلاء منصوب بتقدير في ; لأن تقديره : إذا دخل في الخلاء ، وهذا من قبيل قولهم : دخلت الدار ، وكان حقه أن يقال : دخلت في الدار إلا أنهم حذفوا حرف الجر اتساعا ، وأوصلوا الفعل إليه ونصبوه نصب المفعول به ، فمن هذا قول بعض الشارحين ، وانتصب الخلاء على أنه مفعول به لا على الظرفية غير صحيح ; اللهم إلا أن يذهب إلى ما قاله الجرمي من أنه فعل متعد نصب الدار ، نحو : بنيت الدار ، ولكن يدفعه قوله بأن مصدره يجيء على فعول ، وهو من مصادر الأفعال اللازمة نحو قعد قعودا وجلس جلوسا ولأن مقابله لازم نحو خرج . قلت : التعليل الثاني غير مطرد ; لأن ذهب لازم وما يقابله جاء وهو متعد كقوله تعالى أو جاءوكم حصرت صدورهم

قوله : « اللهم " أصله : يا الله ، وقد ذكرناه ، قوله : « أعوذ بك " جملة في محل الرفع ; لأنها خبر إن ، وقوله : « من الخبث " يتعلق "بأعوذ" .

[ ص: 271 ] ( بيان المعاني ) قوله : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " ذكر لفظ كان لدلالته على الثبوت والدوام ، وذكر لفظ يقول بلفظ المضارع استحضارا لصورة القول ، قوله : «إذا دخل الخلاء " أي : إذا أراد دخول الخلاء ; لأن اسم الله تعالى مستحب الترك بعد الدخول ، وهذا التقدير مصرح به في رواية سعيد بن زيد على ما يأتي عن قريب ، وهذا كما في قوله تعالى ; فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله والتقدير : إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله وذلك لأن الله تعالى إنما يذكر في الخلاء بالقلب لا باللسان .

وقال القشيري : المراد به ابتداء الدخول . قلت : لا يحتاج إلى هذا التأويل ; فإن المكان الذي تقضى فيه الحاجة لا يخلو إما أن يكون معدا لذلك كالكنيف أو لا يكون معدا كالصحراء ; فإن لم يكن معدا فإنه يجوز ذكر الله تعالى في ذلك المكان ، وإن كان معدا ففيه خلاف للمالكية ، فمن كرهه أول الدخول بمعنى الإرادة ; لأن لفظة دخل أقوى في الدلالة على الكنف المبنية منها على المكان البراح ، أو لأنه بين في حديث آخر كما ذكرناه ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام أيضا : "إن هذه الحشوش محتضرة" ، أي : للجان والشياطين ; "فإذا أراد أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث" ، ومن أجازه استغنى عن هذا التأويل ، ويحمل دخل على حقيقتها .

وهذا الحديث أخرجه أبو داود عن عمرو بن مرزوق ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن زيد بن أرقم ، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - ولفظه : " فإذا أتى أحدكم الخلاء " ، وأخرجه النسائي وابن ماجه أيضا ، وقال الترمذي : حديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب ، وأشار إلى اختلاف الرواية فيه ، وسأل الترمذي البخاري عنه فقال : لعل قتادة سمعه من القاسم بن عوف الشيباني والنضر بن أنس عن أنس ، ولم يقض فيه بشيء ، ولهذا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان ، وقال البزار : اختلفوا في إسناده ، وقال الحاكم : مختلف فيه على قتادة ، وقد احتج مسلم بحديث لقتادة عن النضر عن زيد ، ورواه سعيد عن القاسم ، وكلا الإسنادين على شرط الصحيح ، وقال محمد الإشبيلي : اختلف في إسناده والذي أسنده ثقة .

قلت : هذا الكلام غير جيد ; لأنه لم يرم بالإرسال حتى يكون الحكم لمن أسنده ، وإنما رمي بالاضطراب عن قتادة ، كما مر .

( بيان استنباط الأحكام ) :

الأول : فيه الاستعاذة بالله عند إرادة الدخول في الخلاء ، وقد أجمع على استحبابها وسواء فيها البنيان والصحراء ; لأنه يصير مأوى لهم بخروج الخارج ، فلو نسي التعوذ فدخل ، فذهب ابن عباس وغيره إلى كراهة التعوذ ، وأجازه جماعة منهم ابن عمر رضي الله تعالى عنهما .

الثاني : قال ابن بطال : فيه جواز ذكر الله تعالى على الخلاء ، وهذا مما اختلفت فيه الآثار فروي "عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه أقبل من نحو بئر جمل ، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى تيمم بالجدار" ، واختلف في ذلك أيضا العلماء ، فروي عن ابن عباس أنه كره أن يذكر الله تعالى عند الخلاء ، وهو قول عطاء ومجاهد والشعبي ، وقال عكرمة : لا يذكر الله فيه بلسانه ; بل بقلبه ، وأجاز ذلك جماعة من العلماء ، وروى ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يذكر الله تعالى في المرحاض ، وقال العرزمي : قلت للشعبي : أعطس وأنا في الخلاء ، أحمد الله ؟ قال : لا حتى تخرج ، فأتيت النخعي ، فسألته عن ذلك ، فقال لي : احمد الله ، فأخبرته بقول الشعبي ، فقال النخعي : الحمد يصعد ولا يهبط ، وهو قول ابن سيرين ومالك ، وقال ابن بطال ، وهذا الحديث حجة لمن أجاز ذلك . قلت : فيه نظر لا يخفى .

وذكر البخاري في كتاب خلق الله تعالى أفعال العباد عن عطاء - رحمه الله - الخاتم فيه ذكر الله لا بأس أن يدخل به الإنسان الكنيف أو يلم بأهله وهو في يده لا بأس به ، وهو قول الحسن ، وذكر وكيع عن سعيد بن المسيب مثله ، قال البخاري : وقال طاوس في المنطقة يكون على الرجل فيها الدراهم يقضي حاجته : لا بأس بذلك ، وقال إبراهيم : لا بد للناس من نفقاتهم ، وأحب بعض الناس أن لا يدخل الخلاء بالخاتم فيه ذكر الله تعالى ، قال البخاري : وهذا من غير تحريم يصح ، وأما حديث بئر جمل فهو على الاختيار ، والأخذ بالاحتياط والفضل لأنه ليس من شرط رد السلام أن يكون على وضوء ، قاله الطحاوي .

وقال الطبري : إن ذلك منه كان على وجه التأديب للمسلم عليه أن لا يسلم بعضهم على بعض على الحدث ، وذلك نظير نهيه ، وهم كذلك أن يحدث بعضهم بعضا بقوله "لا يتحدث المتغوطان على طوفهما" ، يعني حاجتهما ; فإن الله يمقت على ذلك ، وروى أبو عبيدة الباجي عن الحسن "عن البراء رضي الله تعالى عنه أنه سلم على النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو يتوضأ فلم يرد عليه شيئا حتى فرغ" .

الثالث : فيه أن لفظ الاستعاذة أن يقول : اللهم إني أعوذ بك ، وقد اختلف فيه ألفاظ الرواة .

[ ص: 272 ] ففي رواية عن شعبة "أعوذ بالله" ، وفي رواية وهب " فليتعوذ بالله" ، وهو يشمل كل ما يأتي به من أنواع الاستعاذة من قوله أعوذ بك ، أستعيذ بك ، أعوذ بالله ، أستعيذ بالله ، اللهم إني أعوذ بك ، ونحو ذلك من أشباه ذلك .

الرابع : فيه أن الاستعاذة من النبي - عليه الصلاة والسلام - إظهار للعبودية وتعليم للأمة وإلا فهو عليه الصلاة والسلام محفوظ من الجن والإنس ، وقد ربط عفريتا على سارية من سواري المسجد ، قالوا : ويستحب أن يقول باسم الله مع التعوذ ، وقد روى المعمري الحديث المذكور من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب " إذا دخلتم الخلاء فقولوا باسم الله ، أعوذ بالله من الخبث والخبائث" وإسناده على شرط مسلم ، وعن ابن عرعرة عن شعبة ، وقال غندر عن شعبة : إذا أتى الخلاء ، وقال موسى عن حماد : إذا دخل ، وقال سعيد بن زيد في كتاب ابن عدي : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الكنيف قال باسم الله ، ثم يقول : اللهم إني أعوذ بك " قال رواه أبو معشر ، وهو ضعيف عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ، وفي أفراد الدارقطني رواه عدي بن أبي عمارة عن قتادة عن أنس قال : وهو غريب من حديث قتادة ، تفرد به عدي عنه ، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عنه ، قال : لم يروه عن الزهري إلا صالح ، تفرد به إبراهيم بن حميد الطويل .

التالي السابق


الخدمات العلمية