صفحة جزء
1539 وقال لي عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، قال ابن جريج: أخبرني عطاء، إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف تمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟! قلت: أبعد الحجاب أو قبل، قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: عنك، وأبت، فكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال، وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير وهي مجاورة في جوف ثبير. قلت: وما حجابها؟ قال: هي في قبة تركية لها غشاوة، وما بيننا وبينها غير ذلك، ورأيت عليها درعا موردا
[ ص: 261 ] مطابقته للترجمة ظاهرة، وهو من أفراده، وهو من باب العرض والمذاكرة، وقد سقط في بعض النسخ، وهو موجود في الأصول وأطراف خلف، وذكره البيهقي وصاحبا المستخرجين.

وقال أبو نعيم: هو حديث عزيز ضيق المخرج.

وأخرجه أولا من طريق البخاري، ثم أخرجه من طريق أبي قرة موسى بن طارق، عن ابن جريج قال مثله غير قصة عطاء مع عبيد بن عمير.

وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه، عن ابن جريج بتمامه.

ورجاله أربعة: عمرو بن علي بن بحر أبو حفص الباهلي البصري الصيرفي، وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبو الوليد المكي، وعطاء بن أبي رباح المكي.

ومن لطائف هذا السند: أن البخاري يذكر عن شيخه عمرو بن علي وهو يروي عن شيخ البخاري أيضا وهو أبو عاصم.

(ذكر معناه):

قوله: "إذ منع" أي حين منع ابن هشام، وهو في محل النصب على أنه مفعول ثان لأخبرني.

وقال الكرماني: المفعول الثاني هو قال: "كيف تمنعهن"؟! وقال: يجوز أن يكون "إذ منع" مفعولا ثانيا، والتقدير: أخبرني بزمان المنع قائلا: كيف تمنعهن، وابن هشام هو إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم خال هشام بن عبد الملك بن مروان ووالي المدينة كما قاله الكلبي، وأخوه محمد بن هشام، وكانا خاملين قبل الولاية.

وقيل: ابن هشام في الخبر هو محمد أخو إبراهيم، تولى محمد إمرة مكة، وأخوه إبراهيم إمرة المدينة، وفوض هشام لإبراهيم إمرة الحج بالناس في خلافته.

وقال خليفة بن خياط في تاريخه: وفي سنة خمس وعشرين ومائة كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر الثقفي، فقدم عليه، فدفع إليه خالد بن عبد الله القسري ومحمدا وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل بن إبراهيم المخزوميين وأمره بقتلهم، فعذبهم حتى قتلهم، ثم الظاهر أن الذي منع النساء الطواف مع الرجال هو هذا ابن هشام، وقد روى الفاكهي من طريق زائدة، عن إبراهيم النخعي قال: نهى عمر رضي الله تعالى عنه أن يطوف الرجال مع النساء قال: فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة، قال الفاكهي: ويذكر عن ابن عيينة: أول من فرق بين الرجال والنساء في الطواف خالد بن عبد الله القسري.

قلت: الأول اسم لفرد سابق، وكل واحد أول بالنسبة إلى ما بعده، وكانت إمرة خالد في مكة في زمن عبد الملك بن مروان، وذلك قبل ابن هشام بمدة طويلة.

قوله: "قال: كيف تمنعهن؟!" بلفظ الخطاب وبلفظ الغيبة، أي: كيف يمنعهن المانع.

قوله: "وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال" يعني طفن في وقت واحد غير مختلطات بالرجال; لأن سنتهن أن يطفن ويصلين من وراء الرجال.

وقال ابن بطال: من السنة إذا أراد النساء دخول البيت أن يخرج الرجال منه بخلاف الطواف به.

قوله: "أبعد الحجاب" مقول ابن جريج، والهمزة في "أبعد" للاستفهام، وهو رواية المستملي، وفي رواية غيره بدون الاستفهام، ومعنى بعد الحجاب بعد آية الحجاب، وهو قوله تعالى: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن أو قوله تعالى: وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب قوله: "أو قبل" بالضم أو بالتنوين.

قوله: "إي لعمري" بكسر الهمزة بمعنى نعم.

قوله: "أدركته" أي قال عطاء: أدركت طواف النساء معهم، وإنما ذكر ذلك عطاء لدفع وهم من يتوهم أنه حمل ذلك عن غيره، ودل على أنه رأى ذلك منهن قوله: "كيف يخالطن" وفي رواية المستملي: "يخالطهن" في الموضعين، والرجال بالرفع على الفاعلية.

قوله: "حجرة" بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم بعدها راء، أي ناحية من الناس معتزلة، قال القزاز: هو مأخوذ من قولهم: "نزل فلان حجرة من الناس" أي معتزلا.

وقيل: بمعنى محجورا بينها وبين الرجال بثوب ونحوه.

وقال ابن قرقول: هو بسكون الجيم وفتح الحاء لا غير. وفيه نظر; لأن ابن عديس ذكر في كتابه المثنى تعد حجرة وحجرة بالفتح والضم أي ناحية.

وقال ابن سيده: وجمعها حواجر على غير قياس، وفي رواية الكشميهني "حجزة" بالزاي، وفي رواية عبد الرزاق هكذا بالزاي.

قوله: "فقالت امرأة" وزاد الفاكهي في روايته معها "ولم يدر اسمها" وقيل: يحتمل أن يكون دقرة بكسر الدال المهملة وسكون القاف، امرأة روى عنها يحيى بن أبي كثير أنها كانت تطوف مع عائشة بالليل، فذكر قصة، ذكرها الفاكهي.

قوله: "نستلم" بالرفع والجزم، ويروى "تستلمي" بحذف النون.

قوله: "انطلقي عنك" أي عن جهة نفسك ولأجلك.

قوله: "وأبت" أي منعت عائشة الاستلام.

قوله: "يخرجن" وفي رواية الفاكهي "وكن يخرجن" إلى آخره.

قوله: "متنكرات" قال: وفي رواية عبد الرزاق "مستترات".

قوله: "إذا دخلن البيت قمن" وفي رواية الفاكهي "سترن".

قوله: "حين يدخلن" وفي رواية الكشميهني "حتى يدخلن" وقال [ ص: 262 ] الكرماني: ما معنى هذا التركيب؛ إذ هو غير ظاهر، ثم قال: أي إذا أردن الدخول وقفن قائمات حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه.

قوله: "وأخرج الرجال" بلفظ أخرج على صيغة المجهول.

قوله: "وكنت آتي عائشة" أي قال: كنت أجيء إلى عائشة أنا وعبيد بن عمير الليثي الحجازي قاضي مكة، ولد في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.

قوله: "وهي مجاورة" الواو للحال، أي مقيمة.

قوله: "ثبير" بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء، وهو جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب منها إلى منى وعلى يمين الذاهب من منى إلى عرفات، وهو منصرف، وذكر ياقوت أن بمكة سبعة جبال كل منها يسمى ثبيرا:

الأول: أعظم جبال مكة بينها وبين عرفة. وقال الأصمعي: هو ثبير حراء، وهو المراد بقولهم في الجاهلية أشرق ثبير كيما نغير.

الثاني: ثبير الزنج؛ لأن الزنج كانوا يلعبون عنده.

الثالث: ثبير الأعرج.

الرابع: ثبير الحضراء.

الخامس: ثبير النصع، وهو جبل المزدلفة.

السادس: ثبير عيناء، كل هذه جبال مكة.

السابع: "ثبير" ما في ديار مزينة، أقطعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم شريح بن ضمرة المزني.

وقال البكري السابع: ثبير الأحدب على الإضافة، وحكاه ابن الأنباري على النعت.

وقال الزمخشري: ثبيران جبلان مفترقان تصب بينهما أفاعية، وهي واد يصب من منى يقال لأحدهما ثبير عيناء والآخر ثبير الأعرج.

قوله: "وما حجابها" زاد الفاكهي: "حينئذ".

قوله: "هي قبة" أي عائشة، فالقبة وهي خيمة في الأصل، والقبة التركية تعمل من لبود تضرب في الأرض.

قوله: "ورأيت عليها" أي على عائشة "درعا موردا" أي قميصا أحمر لونه لون الورد، وفي رواية عبد الرزاق "درعا معصفرا وأنا صبي" فبين بذلك سبب رؤيته صلى الله عليه وسلم إياها، ويحتمل أن يكون رأى ما عليها اتفاقا لا قصدا.

(ذكر ما يستفاد منه): فيه طواف النساء متنكرات.

وفيه طواف الليل.

وفيه ستر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وحجبهن.

وفيه رواية المرأة عن المرأة.

وفيه المجاورة بمكة وهو نوع من الاعتكاف، وهو ضربان، مجاورة ليلا ونهارا، أو مجاورة نهارا فقط.

وفيه جواز المجاورة في الحرم كله وإن لم يكن في المسجد الحرام، كذا قاله ابن بطال. وفيه نظر؛ لأن ثبيرا خارج من مكة.

وفيه طواف النساء من وراء الرجال.

التالي السابق


الخدمات العلمية