صفحة جزء
146 12 - حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثنا الليث قال : حدثني عقيل عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، فكان عمر يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - : احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة ، حرصا على أن ينزل الحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب .
[ ص: 283 ] مطابقة الحديث للترجمة في قوله : « إذا تبرزن إلى المناصع " وأشار البخاري بهذا الباب إلى أن تبرز النساء إلى البراز كان أولا لعدم الكنف في البيوت ، وكان رخصة لهن ، ثم لما اتخذت الكنف في البيوت منعن عن الخروج منها إلا عند الضرورة ، وعقد على ذلك الباب الذي يأتي عقيب هذا الباب .

( بيان رجاله ) وهم ستة ، تقدم ذكرهم بهذا الترتيب في كتاب الوحي ، وعقيل بضم العين وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري .

( بيان لطائف إسناده ) .

منها أن فيه صيغة التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة ، ومنها أن فيه تابعيين ابن شهاب وعروة ، وقرينين الليث وعقيل ، ومنها أن رواته ما بين مصري ومدني ، ومنها أن هذا الإسناد على شرط الستة إلا يحيى ; فإنه على شرط البخاري ومسلم .

( بيان من أخرجه غيره ) .

أخرجه مسلم أيضا في الاستئذان عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه عن جده به .

( بيان اللغات ) قوله : « إذا تبرزن " أي : إذا خرجن إلى البراز للبول والغائط ، فأصله من تبرز ، بفتح عين الفعل إذا خرج إلى البراز للغائط ، وهو الفضاء الواسع ، قوله : « إلى المناصع " جمع منصع مفعل من النصوع ، وهو الخلوص ، والناصع الخالص من كل شيء ، يقال : نصع ينصع نصاعة ونصوعا ، ويقال : أبيض ناصع وأصفر ناصع ، قال الأصمعي : كل ثور خالص البياض أو الصفرة أو الحمرة فهو ناصع ، وفي العباب : المناصع المجالس فيما يقال ، وقال أبو سعيد : المناصع المواضع التي يتخلى فيها لبول أو لغائط ، الواحد منصع ، بفتح الصاد .

وقال الأزهري : أراها مواضع خارج المدينة ، وقال ابن الجوزي : هي المواضع التي يتخلى فيها للحاجة ، وكان صعيدا أفيح خارج المدينة يقال له المناصع ، والصعيد وجه الأرض ، وقد فسره في الحديث بقوله : « وهو صعيد أفيح " والأفيح بالفاء وبالحاء المهملة الواسع ، وزاد فيحا ، أي : وسعة ، وقال الصغاني : بحر أفيح بين الفيح ، أي : واسع ، وبحر فياح أيضا بالتشديد ، وقال الأصمعي : إنه لجواد فياح وفياض بمعنى واحد . قلت : كأنه سمي بالمناصع لخلوصه عن الأبنية والأماكن .

( بيان الإعراب ) .

قوله : « كن " جملة في محل الرفع على أنها خبر أن ، قوله : « يخرجن " جملة في محل النصب على أنها خبر كان ، والباء في بالليل ظرفية ، وكلمة إذا ظرفية ، قوله : « إلى المناصع " جار ومجرور يتعلق بقوله يخرجن ، قال الكرماني : ويحتمل أن يتعلق بقوله تبرزن . قلت : احتمال بعيد ، قوله : « وهو " مبتدأ ، وقوله : « صعيد أفيح " صفة وموصوف خبره ، قوله : « يقول " جملة في محل النصب أيضا ; لأنها خبر كان ، قوله : « احجب نساءك " مقول القول ، قوله : « يفعلوا " جملة في محل النصب أيضا ; لأنها خبر كان ، قوله : « بنت زمعة " كلام إضافي مرفوع ; لأنه صفة لسودة .

وقوله : « زوج النبي - عليه الصلاة والسلام - " كلام إضافي أيضا مرفوع ; لأنه صفة أخرى لسودة ، قوله : « ليلة " نصب على الظرف ، قوله : « عشاء " هو بكسر العين وبالمد نصب على أنه بدل من قوله : « ليلة " قوله : « ألا " بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح ينبه بها على تحقق ما بعدها ، قوله : « يا سودة " منادى مفرد معرفة ، ولهذا يبنى على الضم ، قوله : « حرصا " نصب على أنه مفعول له والعامل فيه قوله : « فناداها " قوله : « على أن ينزل " على صيغة المجهول ، وأن مصدرية .

( بيان المعاني ) قوله : « وهو صعيد أفيح " تفسير لقوله : « إلى المناصع " وقال بعضهم : الظاهر أن التفسير مقول عائشة رضي الله عنها . قلت : لا دليل على الظاهر ، وإنما هو يحتمل أن يكون منها أو من عروة أو ممن دونه من الرواة ، قوله : « احجب نساءك " أي : امنعهن من الخروج من البيوت ، وسياق الكلام يدل على هذا المعنى ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون أراد أولا الأمر بستر وجوههن ، فلما وقع الأمر بوفق ما أراد أحب أيضا أن يحجب أشخاصهن مبالغة في التستر ، فلم يجب لأجل الضرورة ، وهذا أظهر الاحتمالين .

قلت : ليس الأظهر إلا ما قلنا بشهادة سياق الكلام ، والاحتمال الذي ذكره لا يدل عليه هذا الحديث ، وإنما الذي يدل عليه هو حديث آخر ، وذلك لأن الحجب ثلاثة ، الأول : الأمر بستر وجوههن يدل عليه قوله تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن الآية . قال القاضي عياض : والحجاب الذي خص به خلاف أمهات المؤمنين هو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا لغيرها ، الثاني : هو الأمر بإرخاء الحجاب بينهن وبين الناس يدل عليه قوله تعالى وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب الثالث : هو الأمر بمنعهن من الخروج من البيوت إلا لضرورة شرعية ; فإذا [ ص: 284 ] خرجن لا يظهرن شخصهن ، كما فعلت حفصة يوم مات أبوها ، سترت شخصها حين خرجت ، وزينب عملت لها قبة لما توفيت ، وكان لهن في التستر عند قضاء الحاجة ثلاث حالات ، الأولى بالظلمة ; لأنهن كن يخرجن بالليل دون النهار ، كما قالت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث "كن يخرجن بالليل" ، وسيأتي في حديث عائشة في قصة الإفك "فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع ، وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا" الحديث ، ثم نزل الحجاب فتسترن بالثياب ; لكن ربما كانت أشخاصهن تتميز ، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه : قد عرفناك يا سودة ، وهذه هي الحالة الثانية ، ثم لما اتخذت الكنف في البيوت منعن عن الخروج منها ، وهي الحالة الثالثة ، فدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك ، فإن فيها "وذلك قبل أن تتخذ الكنف" ، وكانت قصة الإفك قبل نزول آية الحجاب . والله أعلم .

قوله : « سودة بنت زمعة " بالزاي والميم والعين المهملة المفتوحتين ، وقال ابن الأثير : وأكثر ما سمعنا من أهل الحديث والفقهاء يقولونه بسكون الميم ، ابن قيس القريشية العامرية ، أسلمت قديما وبايعت ، وكانت تحت ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو ، أسلم معها وهاجرا جميعا إلى الحبشة ، فلما قدم مكة مات زوجها فتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودخل بها بمكة ، وذلك بعد موت خديجة قبل عائشة رضي الله عنهما ، وهاجرت إلى المدينة ، فلما كبرت أراد طلاقها ، فسألته أن لا يفعل ، وجعلت يومها لعائشة فأمسكها ، روي لها خمسة أحاديث ، أخرج البخاري منها حديثين ، توفيت آخر خلافة عمر رضي الله عنه ، وقيل : زمن معاوية سنة أربع وخمسين بالمدينة .

قوله : « فأنزل الله الحجاب " وفي رواية المستملي "فأنزل الله آية الحجاب" وزاد أبو عوانة في صحيحه من طريق الزبيدي عن ابن شهاب "فأنزل الله الحجاب" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية ، وقال الكرماني : الحجاب ، أي : حكم الحجاب ، يعني حجاب النساء عن الرجال ، فأنزل الله آية الحجاب ، ويحتمل أن يراد بآية الحجاب الجنس فيتناول الآيات الثلاث ، قوله تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن الآية ، وقوله تعالى وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب وقوله تعالى وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن الآية ، وأن يراد به العهد من واحدة من هذه الثلاث .

قلت : رواية أبي عوانة المذكورة فسرت المراد من آية الحجاب صريحا ، كما ذكرنا ، وسبب نزولها قصة زينب بنت جحش ، لما أولم عليها وتأخر النفر الثلاثة في البيت ، واستحيى النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يأمرهم بالخروج ، فنزلت آية الحجاب ، وسيأتي في تفسير الأحزاب ، وسيأتي أيضا حديث عمر رضي الله تعالى عنه . قلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخلن عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب" ، وروى ابن جرير في تفسيره من طريق مجاهد قال : بينا النبي - عليه الصلاة والسلام - يأكل ومعه بعض أصحابه وعائشة تأكل معهم إذ أصابت يد رجل منهم يدها ، فكره النبي - عليه الصلاة والسلام - ذلك ، فنزلت آية الحجاب .

فإن قلت : ما طريقة الجمع بين هذه ؟ قلت : أسباب نزول الحجاب تعددت ، وكانت قصة زينب آخرها للنص على قصتها في الآية ، وقال التيمي : الحجاب هنا استتارهن بالثياب حتى لا يرى منهن شيء عند خروجهن ، وأما الحجاب الثاني فهو إرخاؤهن الحجاب بينهن وبين الناس . قلت : رواية أبي عوانة تخدش هذا الكلام على ما لا يخفى ، ثم اعلم أن الحجاب كان في السنة الخامسة في قول قتادة ، وقال أبو عبيد : في الثالثة ، وقال ابن إسحاق : بعد أم سلمة ، وعند ابن سعيد في الرابعة في ذي القعدة .

( بيان استنباط الأحكام ) :

الأول : قال ابن بطال : فيه مراجعة الأدون للأعلى في الشيء الذي يتبين له .

الثاني : فيه فضل المراجعة إذا لم يقصد بها التعنت ; فإنه قد يتبين فيها من العلم ما خفي ; فإن نزول الآية ، وهي قوله تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين الآية كان سببه المراجعة .

الثالث : فيه فضل عمر رضي الله تعالى عنه ; فإن الله تعالى أيد به الدين ، وقال الكرماني : وهذه من إحدى الثلاث التي وافق فيها نزول القرآن . قلت : هذه إحدى ما وافق فيها ربه ، والثانية في قوله عسى ربه إن طلقكن والثالثة واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وهذه الثلاثة ثابتة في الصحيح ، والرابعة موافقة في أسرى بدر ، والخامسة في منع الصلاة على المنافقين ، وهاتان في صحيح مسلم ، والسادسة موافقته في آية المؤمنين ، وروى أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث علي بن زيد : وافقت ربي لما نزلت ثم أنشأناه خلقا آخر فقلت أنا : تبارك الله أحسن الخالقين ، فنزلت ، والسابعة موافقته في تحريم الخمر ، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ، والثامنة موافقته [ ص: 285 ] في قوله من كان عدوا لله وملائكته الآية ، ذكره الزمخشري ، وقال ابن العربي : قدمنا في الكتاب الكبير أنه وافق ربه تعالى تلاوة ومعنى في أحد عشر موضعا ، وفي جامع الترمذي مصححا عن ابن عمر رضي الله عنهما : ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر فيه إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه .

الرابع : فيه كلام الرجال مع النساء في الطرق .

الخامس : فيه جواز وعظ الإنسان أمه في البر ; لأن من أمهات المؤمنين .

السادس : فيه جواز الإغلاظ في القول والعتاب إذا كان قصده الخير ; فإن عمر رضي الله عنه قال : قد عرفناك يا سودة ، وكان شديد الغيرة ، لا سيما في أمهات المؤمنين .

السابع : في التزام النصيحة لله ولرسوله ، في قول عمر رضي الله عنه : احجب نساءك ، وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أن حجبهن خير من غيره ، لكنه كان يترقب الوحي ، بدليل أنه لم يوافق عمر رضي الله عنه حين أشار بذلك ، وكان ذلك من عادة العرب .

الثامن : فيه جواز تصرف النساء فيما لهن حاجة إليه ; لأن الله تعالى أذن لهن في الخروج إلى البراز بعد نزول الحجاب ، فلما جاز ذلك لهن جاز لهن الخروج إلى غيره من مصالحهن ، وقد أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بالخروج إلى العيدين ، ولكن في هذا الزمان لما كثر الفساد ولا يؤمن عليهن من الفتنة ينبغي أن يمنعن من الخروج إلا عند الضرورة الشرعية ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية