صفحة جزء
14 1 - حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده.


مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.

(بيان رجاله)، وهم خمسة:

الأول: أبو اليمان الحكم بن نافع، وقد ذكر.

الثاني: شعيب ابن أبي حمزة الحمصي، وقد مر ذكره.

الثالث: أبو الزناد بكسر الزاي، وبالنون، وهو عبد الله بن ذكوان المدني القرشي، وكان يغضب من هذه الكنية لكن اشتهر بها، ويكنى أيضا بأبي عبد الرحمن، وقد اتفق على إمامته، وجلالته، وكان الثوري يسميه أمير المؤمنين في الحديث، وقال أبو حاتم: هو ثقة صاحب سنة، وهو ممن تقوم به الحجة إذ روى عنه الثقات، وشهد مع عبد الله بن جعفر جنازة. [ ص: 143 ] فهو إذن تابعي صغير، وروى عنه جماعات من التابعين، وهذا من فضائله; لأنه لم يسمع من الصحابة، وروى عنه التابعون، وولاه عمر بن عبد العزيز خراج العراق، وقال الليث بن سعد: رأيت أبا الزناد، وخلفه ثلاثمائة تابع من طالب علم، وفقه، وشعر، وصنوف، ثم لم يلبث أن بقي وحده، وأقبلوا على ربيعة، وكان ربيعة يقول: شبر من خطوة خير من ذراع من علم. وقال أحمد: أبو الزناد أفقه من ربيعة. قال الواقدي: مات أبو الزناد فجأة في مغتسله سنة ثلاثين ومائة، وهو ابن ست وستين سنة، وقال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، روى له الجماعة.

الرابع: الأعرج، وهو أبو داود عبد الرحمن بن هرمز، تابعي مدني قرشي، مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، روى عن أبي سلمة، وعبد الرحمن بن القاري روى عنه الزهري، ويحيى الأنصاري، ويحيى بن أبي كثير، وآخرون، واتفقوا على توثيقه، مات بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومائة على الصحيح، روى له الجماعة.

واعلم أن مالكا لم يرو عن عبد الرحمن بن هرمز هذا إلا بواسطة، وأما عبد الله بن يزيد بن هرمز فقد روى عنه مالك، وأخذ عنه الفقه، وهو عالم من علماء المدينة، قليل الرواية جدا، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، فحيث يذكر مالك بن هرمز، ويحكى عنه فإنما يريد عبد الله بن يزيد هذا الفقيه; لأن عبد الرحمن بن هرمز صاحب أبي الزناد المحدث هذا إنما يحدث عنه بواسطة ذلك، ووفاته سنة سبع عشرة ومائة على ما ذكرنا، وهذا وفاته سنة ثمان وأربعين ومائة، وهذا موضع التباس على كثير من الناس ذكرته للفرق بينهما فافهم.

الخامس: أبو هريرة، وقد مضى ذكره.

(بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث، والعنعنة، وفي بعض النسخ: أخبرنا شعيب، فعلى هذا يكون فيه الإخبار أيضا، والتفريق بين حدثنا وأخبرنا لا يقول به البخاري كما سيجيء في العلم، ومنها أن إسناده مشتمل على حمصيين ومدنيين، ومنها أنه قد وقع في (غرائب مالك) للدارقطني إدخال رجل، وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بين الأعرج وأبي هريرة في هذا الحديث، وهي زيادة شاذة، فقد رواه الإسماعيلي بدونها من حديث مالك، ومن حديث إبراهيم بن طهمان، وروى ابن منده من طريق أبي حاتم الرازي، عن أبي اليمان شيخ البخاري هذا الحديث مصرحا فيه بالتحديث في جميع الإسناد، وكذا للنسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب.

(بيان من أخرجه غيره) أخرجه البخاري هنا، عن أبي هريرة، وأنس رضي الله عنهما، وأخرجه النسائي أيضا، عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم في الإيمان، عن ابن المثنى، وابن بشار، عن غندر، عن شعبة، ورواه عن زهير، عن ابن علية، وعن شيبان بن فروخ، عن عبد الوارث كلاهما، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، وأخرجه النسائي، وفي رواية أخرى للنسائي: حتى أكون أحب إليه من ماله، وأهله، والناس أجمعين.

(بيان الإعراب).

قوله: " والذي " الواو فيه للقسم، والذي صفة موصوفه محذوف تقديره، والله الذي.

قوله: " نفسي " مبتدأ، وبيده خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول: أعني الذي.

قوله: " لا يؤمن " نفي، وهو جواب القسم.

قوله: " حتى " للغاية هنا، وأكون منصوب بتقدير حتى أن أكون، وقد علم أن الفعل بعد حتى لا ينتصب إلا إذا كان مستقبلا، ثم إن كان استقباله بالنظر إلى زمن المتكلم فالنصب واجب نحو: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى. وإن كان بالنسبة إلى ما قبلها خاصة فالوجهان نحو: وزلزلوا حتى يقول الرسول. الآية. فإن قولهم إنما هو مستقبل بالنظر إلى الزلزال لا بالنظر إلى زمن قص ذلك علينا.

قوله: " أحب " نصب; لأنه خبر أكون، ولفظه أحب أفعل التفضيل بمعنى المفعول، وهو على خلاف القياس وإن كان كثيرا; إذ القياس أن يكون بمعنى الفاعل، وقال ابن مالك: إنما يشذ بناؤه للمفعول إذا خيف اللبس بالفاعل، فإن أمن بأن لم يستعمل الفعل للفاعل، أو قرن به ما يشعر بأنه للمفعول لا يشذ كقولهم. هو أشغل من ذات النحيين، وهو أكسر من البصل. وعبد الله بن أبي ألعن من لعن على لسان داود، وعيسى، ولا أحرم ممن عدم الإنصاف، ولا أظلم من قتيل كربلاء، وهو أزهى من الديك، وأرجى، وأخوف، وأهيب، ولا يقتصر على السماع لكثرة مجيئه. فإن قلت: لا يجوز الفصل بين الفعل ومعموله; لأنه كالمضاف، والمضاف إليه، فكيف وقع لفظة إليه هاهنا فصلا بينهما؟ قلت: الفصل بالأجنبي ممنوع لا مطلقا، والظرف فيه توسع فلا يمنع.

(بيان المعاني) فائدة القسم تأكيد الكلام به، ويستفاد منه جواز القسم على الأمر المبهم توكيدا، وإن لم يكن هناك من [ ص: 144 ] يستدعي الحلف، ولفظ اليد من المتشابهات ففي مثل هذا افترق العلماء على فرقتين: إحداهما ما تسمى مفوضة، وهم الذين يفوضون الأمر فيها إلى الله تعالى قائلين: وما يعلم تأويله إلا الله. والأخرى تسمى مؤولة، وهم الذين يؤولون مثل هذا كما يقال: المراد من اليد القدرة عاطفين والراسخون في العلم (على الله) والأول أسلم، والثاني أحكم. قلت: ذكر أبو حنيفة أن تأويل اليد بالقدرة، ونحو ذلك يؤدي إلى التعطيل، فإن الله تعالى أثبت لنفسه يدا، فإذا أولت بالقدرة يصير عين التعطيل، وإنما الذي ينبغي في مثل هذا أن نؤمن بما ذكره الله من ذلك على ما أراده، ولا نشتغل بتأويله فنقول: له يد على ما أراده لا كيد المخلوقين، وكذلك في نظائر ذلك.

قوله: " لا يؤمن " ، أي: إيمانا كاملا، ويقال: المراد من الحديث بذل النفس دونه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل في قوله تعالى: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي: وحسبك من اتبعك من المؤمنين ببذل أنفسهم دونك، وقال ابن بطال: قال أبو الزناد: هذا من جوامع الكلم الذي أوتيه عليه الصلاة والسلام إذ أقسام المحبة ثلاثة: محبة إجلال وإعظام، كمحبة الوالد، ومحبة رحمة وإشفاق كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة الناس بعضهم بعضا، فجمع عليه السلام ذلك كله. قال القاضي: ومن محبته نصرة سنته والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه، وبهذا يتبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا به، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إنافة قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد، ومحسن ومتفضل، ومن لم يعتقد ذلك، واعتقد سواه، فليس بمؤمن، واعترضه الإمام أبو العباس أحمد القرطبي المالكي صاحب (المفهم)، فقال: ظاهر كلام القاضي عياض صرف المحبة إلى اعتقاد تعظيمه وإجلاله، ولا شك في كفر من لا يعتقد ذلك غير أنه ليس المراد بهذا الحديث اعتقاد الأعظمية; إذ اعتقاد الأعظمية ليس بمحبة، ولا مستلزما لها; إذ قد يحمد الإنسان إعظام شيء مع خلوه عن محبته. قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك لم يكمل إيمانه على أن كل من آمن إيمانا صحيحا لا يخلو من تلك المحبة، وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، وأن عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع هذا الحديث، قال: يا رسول الله، أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: ومن نفسك يا عمر، فقال: ومن نفسي، فقال: الآن يا عمر، وهذه المحبة ليست باعتقاد تعظيم بل ميل قلب، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك، قال الله تعالى: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم من هذا المعنى أتم; لأن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بقدره ومنزلته أعلم، والله أعلم، ويقال: المحبة إما اعتقاد النفع، أو ميل يتبع ذلك أو صفة مخصصة لأحد الطرفين بالوقوع، ثم الميل قد يكون بما يستلذه بحواسه كحسن الصورة، ولما يستلذه بعقله كمحبة الفضل والجمال، وقد يكون لإحسانه إليه، ودفع المضار عنه، ولا يخفى أن المعاني الثلاثة كلها موجودة في رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال أنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايتهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعيم، ولا شك أن الثلاثة فيه أكمل مما في الوالدين لو كانت فيهما فيجب كونه أحب منهما; لأن المحبة ثابتة لذلك، حاصلة بحسبها، كاملة بكمالها.

واعلم أن محبة الرسول عليه السلام إرادة فعل طاعته، وترك مخالفته، وهي من واجبات الإسلام. قال الله تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم إلى قوله: حتى يأتي الله بأمره وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة بالسوء والمطمئنة، فإن من رجح جانب المطمئنة كان حب النبي عليه السلام راجحا، ومن رجح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس.

(بيان الأسئلة والأجوبة) منها ما قيل: لم ما ذكر نفس الرجل أيضا، وإنما يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه. قال تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأجيب بأنه إنما خصص الوالد والولد بالذكر لكونهما أعز خلق الله تعالى على الرجل غالبا، وربما يكونان أعز من نفس الرجل على الرجل، فذكرهما إنما هو على سبيل التمثيل، فكأنه قال: حتى أكون أحب إليه من أعزته، ويعلم منه حكم غير الأعزة; لأنه يلزم في غيرهم بالطريق الأولى، أو اكتفى بما ذكر في سائر النصوص الدالة على وجوب كونه أحب من نفسه أيضا كالرواية التي بعده، ومنها ما قيل: هل يتناول لفظ الوالد الأم كما أن لفظ الولد يتناول الذكر والأنثى؟ وأجيب بأن الوالد إما أن يراد به ذات له ولد، وإما أن يكون بمعنى ذو ولد، نحو: لابن وتامر، فيتناولهما، وإما أن يكتفى بأحدهما عن الآخر كما يكتفى بأحد الضدين عن الآخر. قال تعالى: سرابيل تقيكم الحر وإما [ ص: 145 ] أن يكون حكمه حكم النفس في كونه معلوما من النصوص الأخر، ومنها ما قيل: المحبة أمر طبيعي غريزي لا يدخل تحت الاختيار فكيف يكون مكلفا بما لا يطاق عادة، وأجيب بأنه لم يرد به حب الطبع بل حب الاختيار المستند إلى الإيمان. فمعناه لا يؤمن حتى يؤثر رضاي على هوى الوالدين، وإن كان فيه هلاكهما، ومنها ما قيل: ما وجه تقديم الوالد على الولد، وأجيب بأن ذلك للأكثرية; لأن كل أحد له والد من غير عكس. قلت: الأولى أن يقال: إنما قدم هاهنا الوالد نظرا إلى جانب التعظيم، وقدم الولد على الوالد في حديث أنس في رواية النسائي نظرا إلى جانب الشفقة والترحم.

التالي السابق


الخدمات العلمية