صفحة جزء
1639 308 - حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، قال نافع: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في حجته.


مطابقته للترجمة في قوله: " حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأبو اليمان الحكم بن نافع، قال بعضهم: والحديث طرف من حديث طويل أوله: لما نزل الحجاج بابن الزبير. نبه عليه الإسماعيلي. (قلت): روى مسلم من حديث نافع أن ابن عمر أراد الحج عام نزول الحجاج بابن الزبير.. الحديث، وفيه: " ولم يحلل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق".

قوله: " في حجته" وهي حجة الوداع، يدل عليه الأحاديث الكثيرة، وأما قوله: " اللهم ارحم المحلقين" ففيه خلاف، وقال بعضهم: كان في حجة الوداع، وقال القاضي عياض: كان يوم الحديبية حين أمرهم بالحلق على ما نذكره عن قريب، ويحتمل أنه كان في الموضعين، وهو الأشبه؛ لأن جماعة من الصحابة توقفت في الحلق فيهما.

ثم الكلام في حلق النبي - صلى الله عليه وسلم- وما يتعلق به على أنواع:

الأول: في كيفية حلقه صلى الله عليه وسلم، روى مسلم من حديث أنس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أتى من منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، وقال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس"، وروى الترمذي من حديث أنس أيضا قال: " لما رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الجمرة نحر نسكه، ثم ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه فأعطاه أبا طلحة، ثم ناوله شقه الأيسر فحلقه، فقال: اقسمه بين الناس"، ثم ظاهر رواية الترمذي أن الشعر الذي أمر أبا طلحة بقسمته بين الناس هو شعر الشق الأيسر، وهكذا رواية مسلم من طريق ابن عيينة، وأما رواية حفص بن غياث وعبد الأعلى ففيهما أن الشق الذي قسمه بين الناس هو الأيمن، وكلا الروايتين عند مسلم، وأما رواية حفص فقال أبو كريب عنه: فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر فصنع مثل ذلك، وقال أبو بكر في روايته، عن حفص: قال للحلاق: ها، وأشار بيده إلى الجانب الأيمن هكذا، فقسم شعره بين من يليه، قال: ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه، فأعطاه أم سليم، وقال يحيى بن يحيى في روايته، عن حفص: ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم للأيسر، ثم جعل يعطيه الناس، فلم يذكر يحيى بن يحيى في روايته أبا طلحة ولا أم سليم، وأما رواية عبد الأعلى فقالفيها: وقال بيده فحلق شقه الأيمن، فقسمه فيمن يليه، ثم قال: احلق الشق الآخر، فقال: أين أبو طلحة فأعطاه إياه.

وقد اختلف أهل الحديث في الاختلاف الواقع في هذا الحديث، فذهب بعضهم إلى الجمع بينهما، وذهب بعضهم إلى الترجيح لتعذر الجمع عنده، وقال صاحب الفهم: إن قوله: " لما حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- شق رأسه الأيمن أعطاه أبا طلحة" ليس مناقضا لما في الرواية الثانية: أنه قسم شعر الجانب الأيمن بين الناس، وشعر الجانب الأيسر أعطاه أم سليم، وهي امرأة أبي طلحة، وهي أم أنس - رضي الله تعالى عنها- قال: وحصل من مجموع هذه الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما حلق الشق الأيمن ناوله أبا طلحة ليقسمه بين الناس، ففعل أبو طلحة وناول شعر الشق الأيسر ليكون عند أبي طلحة، فصحت نسبة كل ذلك إلى من نسب إليه، والله أعلم. وقد جمع المحب الطبري في موضع إمكان جمعه، ورجح في مكان تعذره، فقال: والصحيح أن الذي وزعه على الناس الشق الأيمن، وأعطى الأيسر أبا طلحة وأم سليم، ولا تضاد بين الروايتين؛ لأن أم سليم امرأة أبي طلحة، فأعطاه - صلى الله تعالى عليه وسلم- لهما، فنسب العطية تارة إليه وتارة إليها. انتهى.

وفي رواية أحمد [ ص: 63 ] في المسند ما يقتضي أنه أرسل شعر الشق الأيمن مع أنس إلى أمه أم سليم امرأة أبي طلحة، فإنه قال فيها: لما حلق رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم- رأسه بمنى أخذ شق رأسه الأيمن بيده، فلما فرغ ناولني فقال: يا أنس، انطلق بهذا إلى أم سليم، قال: فلما رأى الناس ما خصنا به، تنافسوا في الشق الآخر، هذا يأخذ الشيء، وهذا يأخذ الشيء. قال شيخنا زين الدين: وكان المحب الطبري رجح رواية تفرقة الشق الأيمن بكثرة الرواة، فإن حفص بن غياث وعبد الأعلى اتفقا على ذلك عن هشام، وخالفهما ابن عيينة وحده، ثم قال الشيخ: وقد ترجح تفرقة الأيسر بكونه متفقا عليه، وتفرقة الأيمن من أفراد مسلم، فقد وقع عند البخاري من رواية ابن عون، عن ابن سيرين، " عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما حلق كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره"، فهذا يدل على أن الذي أخذه أبو طلحة الأيمن، وإن كان يجوز أن يقال: أخذه ليفرقه، فالظاهر أنه إنما أراد الذي أخذه أبو طلحة لنفسه، فقد اتفق ابن عون، عن هشام من طريق ابن عيينة عنه على أن أبا طلحة أخذ الشق الأيمن، واختلف فيه على هشام، فكانت الرواية التي لا اختلاف فيها أولى بالقبول، والله أعلم.

النوع الثاني: أن فيه ما يدل على وجوب استيعاب حلق الرأس؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم- حلق جميع رأسه، وقال: "خذوا عني مناسككم"، وبه قال مالك وأحمد في رواية كالمسح في الوضوء، وقال مالك في المشهور عنه: يجب حلق أكثر الرأس، وبه قال أحمد في رواية، وقال عطاء: يبلغ به إلى العظمين اللذين عند منتهى الصدغين؛ لأنهما منتهى نبات الشعر ليكون مستوعبا لجميع رأسه.

وقال أبو حنيفة: يجب حلق ربع الرأس، وقال أبو يوسف: يجب حلق نصف الرأس، وذهب الشافعي إلى أنه يكفي حلق ثلاث شعرات، ولم يكتف بشعرة أو بعض شعرة كما اكتفى بذلك في مسح الرأس في الوضوء.

النوع الثالث: أنه يستدل به على أفضلية الحلق على التقصير، وسنبينه في الحديث الآتي إن شاء الله تعالى.

النوع الرابع: أن فيه طهارة شعر الآدمي، وهو قول جمهور العلماء، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وخالف في ذلك أبو جعفر الترمذي منهم، فخصص الطهارة بشعره - صلى الله عليه وسلم- وذهب إلى نجاسة شعر غيره.

النوع الخامس: فيه التبرك بشعره - صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك من آثاره بأبي وأمي ونفسي هو، وقد روى أحمد في مسنده بسنده إلى ابن سيرين أنه قال: فحدثنيه عبيدة السلماني، يريد هذا الحديث، فقال: لأن يكون عندي شعرة منه أحب إلي من كل بيضاء وصفراء على وجه الأرض وفي بطنها، وقد ذكر غير واحد أن خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه- كان في قلنسوته شعرات من شعره - صلى الله عليه وسلم- فلذلك كان لا يقدم على وجه إلا فتح له، ويؤيد ذلك ما ذكره الملا في السيرة أن خالدا سأل أبا طلحة حين فرق شعره - صلى الله عليه وسلم- بين الناس أن يعطيه شعرة ناصيته، فأعطاه إياه فكان مقدم ناصيته مناسبا لفتح كل ما أقدم عليه.

النوع السادس: أن فيه أنه لا بأس باقتناء الشعر البائن من الحي وحفظه عنده، وأنه لا يجب دفنه كما قال بعضهم: إنه يجب دفن شعور بني آدم أو يستحب، وذكر الرافعي في سنن الحلق، فقال: وإذا حلق فالمستحب أن يبدأ بالشق الأيمن، ثم بالأيسر وأن يكون مستقبل القبلة، وإنما يكبر بعد الفراغ وأن يدفن شعره، وزاد المحب الطبري، فذكر من سننه صلاة ركعتين بعده، فسننه إذا خمسة.

النوع السابع: فيه مواساة الإمام والكبير بين أصحابه فيما يقسمه بينهم، وإن فاضل بينهم لأمر اقتضى ذلك.

النوع الثامن: فيه أنه لا بأس بتفضيل بعضهم على بعض في القسمة لأمر يراه ويؤدي إليه اجتهاده؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم- خصص أبا طلحة وأم سليم بشعر أحد الشقين كما تقدم.

النوع التاسع: أن الحالق المذكور اختلف في تعيينه، فقال البخاري في صحيحه: زعموا أنه معمر بن عبد الله، وقال النووي: إنه الصحيح المشهور. قال البخاري في التاريخ الكبير: قال علي بن عبد الله: حدثنا عبد الأعلى، حدثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن عقبة مولى معمر، عن معمر العدوي قال: " كنت أرجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- حين قضى حجه، وكان يوم النحر جلس يحلق رأسه، فرفع رأسه فنظر في وجهي، فقال: يا معمر، أمكنك النبي - صلى الله عليه وسلم- من شحمة أذنه، وفي يدك الموسى؟ فقال: ذاك من الله تعالى علي وفضله. قال: نعم فحلقته"، وقيل: إن الذي حلق رأسه [ ص: 64 ] عليه السلام هو خراش بن أمية بن ربيعة، حكاه النووي في شرح مسلم، وقال شيخنا زين الدين رحمه الله تعالى: هذا وهم من قائله، وإنما حلق رأسه خراش بن أمية يوم الحديبية، وقد بينه ابن عبد البر فقال في ترجمة خراش: وهو الذي حلق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية. انتهى.

فمن ذكر أنه حلق له يوم النحر في حجته فقد وهم، وإنما حلق له يوم النحر معمر بن عبد الله العدوي كما تقدم، وهو الصواب.

النوع العاشر: أن عند أبي حنيفة يبدأ بيمين الحالق ويسار المحلوق، قاله الكرماني في مناسكه، وعند الشافعي: يبدأ بيمين المحلوق، والصحيح عند أبي حنيفة مثله.

النوع الحادي عشر: ما ذكره صاحب التوضيح، فقال: يدخل وقت الحلق من طلوع الفجر عند المالكية، وعندنا بنصف ليلة النحر ولا آخر لوقته، والحلق بمنى يوم النحر أفضل، قالوا: ولو أخره حتى بلغ بلده حلق أو أهدى، فلو وطئ قبل الحلق فعليه هدي بخلاف الصيد، على المشهور عندهم. وقال ابن قدامة: يجوز تأخيره إلى آخر أيام النحر، فإن أخره عن ذلك ففيه روايتان ولا دم عليه، وبه قال عطاء وأبو يوسف وأبو ثور، ويشبه مذهب الشافعي؛ لأن الله تعالى بين أول وقته بقوله: ولا تحلقوا رءوسكم الآية، ولم يبين آخره، فمتى أتى به أجزأه، وعن أحمد: عليه دم بتأخيره، وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه نسك أخره عن محله، ولا فرق في التأخير بين القليل والكثير والساهي والعامد، وقال مالك والثوري وإسحاق وأبو حنيفة ومحمد: من تركه حتى حل فعليه دم؛ لأنه نسك، فيأتي به في إحرام الحج كسائر مناسكه.

التالي السابق


الخدمات العلمية