صفحة جزء
1652 320 - حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: حدثنا فضيل بن غزوان قال: حدثنا عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: يا أيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام. قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا. فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.


مطابقته للترجمة في قوله: " خطب الناس يوم النحر"، وقد ذكرنا أن قوله: " خطب" ليس من الخطبة المعهودة، وإطلاق الخطبة عليه باعتبار أنها في الأصل كلام وقول، وعلي بن عبد الله هو المعروف بابن المديني، ويحيى هو القطان، وفضيل، بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة، ابن غزوان، بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي وبالنون في آخره، وفيه أن شيخه وعكرمة مدنيان، ويحيى بصري، وفضيل كوفي، والحديث أخرجه البخاري أيضا في الفتن عن أحمد بن إشكاب، وأخرجه الترمذي فيه عن عمرو بن علي عن يحيى به.

(ذكر معناه): قوله: " خطب الناس يوم النحر" قد ذكرنا أن إطلاق لفظ الخطبة ليس على حقيقة الخطبة المعهودة؛ لأنه ليس فيه ما يدل على أمر من أمور الحج كما ذكرناه عن قريب، والخطبة الحقيقية في حديث ابن عباس ما رواه جابر بن زيد عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات كما سيأتي في هذا الباب، فهذه الخطبة الحقيقية؛ لأن فيها تعليم الناس الوقوف بعرفة والمزدلفة والإفاضة منها، ورمي جمرة العقبة يوم النحر، والذبح، والحلق، وطواف الزيارة، وليس في خطبة يوم النحر شيء من ذلك، وإنما هي سؤالات وأجوبة كما ذكرنا، وكذلك في حديث الهرماس بن زياد وأبي أمامة عند أبي داود، وحديث جابر بن عبد الله عند أحمد: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أي يوم أعظم حرمة.. الحديث. وإطلاق الخطبة في كل ذلك ليس على حقيقته.

قوله: " فقال يا أيها الناس" خطاب لمن كان معه في ذلك الوقت، ووصية أيضا للشاهدين بأن يبلغوا الغائبين، كما يأتي ذلك عن قريب.

قوله: " أي يوم هذا" خرج مخرج الاستفهام والمراد به التقرير؛ لأنه أبلغ، وكذلك الاستفهامان الآخران. قوله: " قالوا: يوم حرام" ؛ يعني يحرم فيه القتال، وتوصيف اليوم بالحرام مجاز مرسل من قبيل قولهم: رجل عدل؛ لأن الحرام ليس عين اليوم وإنما هو الذي يقع فيه من القتال، وكذلك الكلام في قوله: " بلد حرام، وشهر حرام". وقال الكرماني: (فإن قلت): المستفاد من الحديث الأول، وهو حديث ابن عباس أنهم أجابوه بأنه يوم حرام، ومن الثاني، وهو حديث أبي بكرة أنهم سكتوا عنه وفوضوه إليه، فما التوفيق بينهما؟

(قلت): السؤال الثاني فيه فخامة ليست في الأول بسبب زيادة لفظ "أتدرون"؛ فلهذا سكتوا فيه، بخلاف الأول، أو أجابوا بأنه يوم كذا بعد أن قال صلى الله عليه وسلم: أليس هذا يوم النحر، وكذا في أخويه، فالسكوت كان أولا والجواب بالتعيين كان آخرا. انتهى.

ووفق بعضهم بين الحديثين بقوله: لعلهما واقعتان، ورده بعضهم بقوله: وليس بشيء؛ لأن الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة، وقد قال في كل منهما: إن ذلك كان يوم النحر. انتهى.

(قلت): ليس لهذا الرد وجه؛ لأنه لا مانع من تعدد القضية، وقوله: لأن الخطبة يوم النحر.. إلى آخره [ ص: 78 ] بناء على أن الخطبة في حديث ابن عباس على حقيقتها على زعمهم، وهذا لا يقول به خصمهم.

قوله: " وأعراضكم" جمع عرض، بكسر العين، وهو ما يحميه الإنسان ويلزمه القيام به. قاله أبو عمرو، وقال الأصمعي: هو ما يمدح به ويذم، وقيل: العرض الحسب، وقيل: النفس، فإن العرض يقال للنفس وللحسب، يقال: فلان نقي العرض؛ أي: بريء أن يشتم أو يعاب، والعرض رائحة الجسد أو غيره، طيبة أو خبيثة. وفي شرح السنة: لو كان المراد من الأعراض النفوس لكان تكرارا؛ لأن ذكر الدماء كاف، إذ المراد بها النفوس، وقال الطيبي: الظاهر أن المراد بالأعراض الأخلاق النفسانية، وذكر في النهاية: العرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه، ولما كان موضع العرض النفس قال من قال: العرض النفس إطلاقا للمحل على الحال، وحين كان المدح نسبة الشخص إلى الأخلاق الحميدة، والذم نسبته إلى الذميمة، سواء كانت فيه أو لا، قال من قال: العرض الخلق إطلاقا لاسم اللازم على الملزوم.

قوله: " كحرمة يومكم هذا" إنما شبهها في الحرمة بهذه الأشياء؛ لأنهم كانوا لا يرون استباحة تلك الأشياء وانتهاك حرمتها بحال، وقيل: مثل باليوم وبالشهر وبالبلد؛ لتوكيد تحريم ما حرم من الدماء والأموال والأعراض.

قوله: " فأعادها مرارا" أي أعاد المذكورات مرارا، وأقله أن يكون ثلاث مرات.

قوله: " ثم رفع رأسه" وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه ثم رفع رأسه إلى السماء.

قوله: " اللهم هل بلغت" إنما قال ذلك لأنه كان فرضا عليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ، ومنه سميت حجة البلاغ.

قوله: " إنها لوصيته" أي أن الكلمات التي قالها لوصيته إلى أمته، يريد بذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " فليبلغ الشاهد الغائب.." إلى آخر الحديث. والمراد بالشاهد الحاضر في ذلك المجلس، وقوله: قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، قسم من ابن عباس صدر به كلامه للتأكيد، وهو إلى آخر كلامه معترض بين قوله صلى الله عليه وسلم: " هل بلغت" وبين قوله: " فليبلغ الشاهد الغائب" واللام في قوله: " لوصيته" مفتوحة، وهي لام التأكيد، والضمير فيه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا أن الضمير في "إنها" يرجع إلى الكلمات التي قالها وهي " فليبلغ الشاهد.." إلى آخره، والضمير، وإن كان مقدما في الذكر، فالقرينة تدل على أنه مؤخر في المعنى.

قوله: " لا ترجعوا بعدي كفارا" قال الكرماني: أي كالكفار، أو لا يكفر بعضكم بعضا فتستحقوا القتال، وقال الطيبي: أي لا تكن أفعالكم شبيهة بأعمال الكفار في ضرب رقاب المسلمين.

(قلت): ذكروا فيه أقوالا: الأول: كفر في حق المستحل بغير حق. الثاني: كفر النعمة وحق الإسلام. الثالث: يقرب من الكفر ويؤدي إليه. الرابع: فعل كفعل الكفار. الخامس: حقيقة الكفر؛ يعني لا تكفروا بل دوموا مسلمين. السادس: المتكفرين بالسلاح، يقال للابس السلاح: كافر. السابع: لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضا.

(فإن قلت): ما معنى قوله: " بعدي" وهم لو رجعوا في زمانه صلى الله عليه وسلم كان لهم هذا الذي ذكره لهم.

(قلت): إنه صلى الله عليه وسلم قد علم أنهم لا يرجعون في حياته، أو أراد بعد فراقي من موقفي هذا، أو المعنى بعد حياتي.

قوله: " يضرب بعضكم رقاب بعض" الرواية برفع الباء ويصح به المقصود، وقال عياض: وضبطه بعضهم بسكون الباء، وقال أبو البقاء: على تقدير شرط مضمن؛ أي: أن ترجعوا بعدي، وقال الطيبي: "يضرب بعضكم رقاب بعض" جملة مستأنفة مبينة لقوله: " فلا ترجعوا بعدي كفارا" فينبغي أن يحمل على العموم، وأن يقال: لا يظلم بعضكم بعضا فلا تسفكوا دماءكم ولا تهتكوا أعراضكم ولا تستبيحوا أموالكم ونحوه؛ أي في إطلاق الخاص وإرادة العموم. قوله تعالى: " الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ". انتهى.

(قلت): هذا كله في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي ضلالا"؛ لأن المتن الذي شرحه، وهو متن المشكاة، وقع " ضلالا" ثم قال: ويروى: " كفارا" ثم نقل كلام صاحب المظهر بقوله: يعني إذا فارقت الدنيا فاثبتوا بعدي على ما أنتم عليه من الإيمان والتقوى، ولا تظلموا أحدا، ولا تحاربوا المسلمين ولا تأخذوا أموالهم بالباطل، فإن هذه الأفعال من الضلالة والعدول من الحق إلى الباطل، ثم قال الطيبي بعد ذلك ما ذكرنا عنه من قوله: جملة مستأنفة.. إلى آخره.

(ذكر ما يستفاد منه): احتج به الشافعي وأحمد على أن الخطبة يوم النحر سنة، وقال ابن قدامة وعن بعض أصحابنا: لا يخطب فيه وهو مذهب مالك.

(قلت): الخطبة عند أصحابنا في الحج في ثلاثة أيام؛ الأولى: في اليوم السابع من [ ص: 79 ] ذي الحجة، والثانية: بعرفات يوم عرفة، والثالثة: بمنى في اليوم الحادي عشر، وعند زفر: يخطب في ثلاثة أيام متوالية أولها يوم التروية، وقال ابن المنذر: خطب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السابع، وكذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وقرأ سورة "براءة" عليهم. رواه ابن عمر.

وفي التلويح: وأما الخطب التي وردت في الآثار أيام الحج؛ فمنها خطبة يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، وهو يوافق قول زفر؛ لأن الجماعة لا يرون فيه خطبة، بل الخطبة الأولى قبل يوم التروية بيوم، وهو اليوم السابع من ذي الحجة، وبه قال مالك والشافعي، وقال عطاء: أدركتهم يخرجون ولا يخطبون بمكة. قال ابن المنذر: قول مالك كقول عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.

وقال النووي: الخطب المشروعة في الحج عندنا أربعة؛ أولها: بمكة عند الكعبة في اليوم السابع، قال: وهي مسنونة عند الشافعي رضي الله تعالى عنه بعد صلاة الظهر، والثانية: ببطن عرنة يوم عرفة، والثالثة: يوم النحر، والرابعة: يوم النفر، وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، وكلها أفراد إلا التي يوم عرفات فإنها خطبتان بعد صلاة الظهر وقبل الصلاة. انتهى.

ومنها خطبة يوم عرفة لما رواه مسلم من حديث جابر: " حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت فأتى بطن الوادي فخطب". وروى أبو داود من حديث زيد بن أسلم عن رجل من بني ضميرة عن أبيه أو عمه، قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهو على المنبر يوم عرفة. وروى أبو داود أيضا من حديث ابن عمر يرفعه: " فلما أتى عرفة" فذكر كلاما، وفيه: " حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح مهجرا فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس.." الحديث. وروى ابن أبي شيبة من حديث قيس بن المطلب أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خطب بعرفة، وروى أحمد من حديث نبيط أنه رآه صلى الله تعالى عليه وسلم واقفا بعرفة على بعير أحمر يخطب فسمعه يقول: أي يوم أحرم؟ قالوا: هذا اليوم. قال: فأي بلد أحرم؟ قالوا: هذا البلد. قال: فأي شهر أحرم؟ قالوا: هذا الشهر.. الحديث. وعن العداء بن خالد: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات وهو قائم وهو ينادي بأعلى صوته: "يا أيها الناس، أي يوم هذا؟.." الحديث. وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو على ناقته بعرفات: "أتدري أي يوم هذا.." الحديث.

وروى الطبراني في معجمه من حديث ابن عباس: لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت ناقته فقال: اصرخ: أيها الناس، أتدرون أي يوم هذا؟ فصرخ، فقال الناس: الشهر الحرام.. الحديث.

ومنها: خطبة يوم النحر، رواها جماعة من الصحابة، منهم: الهرماس بن زياد، رواه أبو داود، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته الجدعاء يوم الأضحى. وروى عن أبي أمامة قال: سمعت خطبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى يوم النحر. وروى عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى. وروى عن رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء.. الحديث. وروى ابن أبي شيبة عن مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم يوم النحر.

ومنها: خطبة اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، وقال ابن حزم: وخطب الناس أيضا، يعني سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الأحد ثاني يوم النحر، وهو يوم الرءوس، وهو مذهب أبي حنيفة، وهو أول أيام التشريق، وهو يوم النفر، وروى أبو داود من حديث سراء بنت نبهان قالت: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس فقال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس أوسط أيام التشريق.

وعن رجلين من بني بكر: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوساط أيام التشريق ونحن عند راحلته. وروى أحمد من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمر قال: كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس، فقال: يا أيها الناس، هل تدرون في أي شهر أنتم؟.. الحديث.

وروى الدارقطني من حديث كعب بن عاصم الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمنى أوسط أيام الأضحى، وقال ابن المواز: هذه الخطبة بعد الظهر من غير جلوس فيها ولا قراءة جهرية في شيء من صلاتها.

ومنها خطبة يوم الأكارع، وقال ابن حزم: وقد روي أيضا أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم يوم الاثنين، وهو يوم الأكارع، وأوصى بذوي الأرحام خيرا. وروى الدارقطني من حديث عبد العزيز بن الربيع بن أبي سبرة عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خطب وسط أيام التشريق. قال ابن قدامة: يعني يوم النفر الأول. وروى عن أبي هريرة [ ص: 80 ] رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب العشر كله، وفي المصنف: وكذلك ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما.

التالي السابق


الخدمات العلمية