صفحة جزء
1685 353 - حدثنا قتيبة قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جالس إلى حجرة عائشة، وإذا أناس يصلون في المسجد صلاة الضحى، قال: فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، ثم قال له: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربع إحداهن في رجب، فكرهنا أن نرد عليه، قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال: يقول: إن [ ص: 111 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن! ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط.


مطابقته في قوله: " كم اعتمر"، وفي قوله: " اعتمر أربع عمرات"، وفي كونها ثلاثا على قول عائشة.

ورجاله قد ذكروا غير مرة، وجرير، بفتح الجيم، هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر.

والحديث أخرجه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير.. إلى آخره نحوه، غير أن في روايته: " والناس يصلون صلاة الضحى" وفي روايته: " فكرهنا أن نكذبه ونرد عليه". قوله: " دخلت أنا وعروة.." إلى آخره، فيه دفع لما ذكره يحيى بن سعيد، وابن معين، وأبو حاتم في آخرين أن مجاهدا لم يسمع من عائشة.

قوله: " المسجد" يعني مسجد المدينة النبوية. قوله: " فإذا" كلمة "إذا" للمفاجأة، و"عبد الله" مبتدأ، و"جالس" خبره، وكذلك "وإذا" الثانية للمفاجأة، والواو فيه للحال. قوله: " ناس" بغير ألف في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: " وإذا أناس" بالألف، وهما بمعنى واحد.

قوله: " قال: فسألناه عن صلاتهم" ؛ أي: فسألنا ابن عمر عن صلاة هؤلاء الذين يصلون في المسجد. قوله: " بدعة" ؛ أي: صلاتهم بدعة، وإنما قال: بدعة، وإنما البدعة إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الضحى في بيت أم هانئ، وقد مر في باب صلاة الضحى؛ لأن الظاهر أنها لم تثبت عنده، فلذلك أطلق عليها البدعة، وقيل: أراد أنها من البدع المستحسنة كما قال عمر رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح: "نعمت البدعة هذه"، وقيل: أراد أن إظهارها في المسجد والاجتماع لها هو البدعة، لا أن نفس تلك الصلاة بدعة، وهذا هو الأوجه.

قوله: " قال: أربع" كذا هو مرفوعا في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر: " أربعا"، ولقد نقل الكرماني وغيره عن ابن مالك في وجه هذا الرفع والنصب ما فيه تعسف جدا، والأحسن أن يقال: إن وجه الرفع هو أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره" الذي اعتمره النبي صلى الله عليه وسلم أربع؛ أي: أربع عمر، ووجه النصب على أن يكون خبر كان محذوفا تقديره: الذي اعتمره كان أربعا. قوله: " وسمعنا استنان عائشة" قيل: استنانها سواكها، وقيل: استعمالها الماء، قال ابن فارس: سننت الماء على وجهي؛ إذا أرسلته إرسالا، إلا أن يكون استن لم تستعمله العرب إلا في السواك، وقيل: معناه: سمعنا حس مرور السواك على أسنانها.

(قلت): فيه ما فيه، وفي رواية عطاء عن عروة عند مسلم قال: " وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن". قوله: " يا أماه" كذا هو بالألف والهاء الساكنة في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر: " يا أمه" بحذف الألف.

(فإن قلت): ما فائدة قوله: " يا أم المؤمنين" بعد أن قال: " يا أماه"؟

(قلت): أراد بقوله: " يا أماه" المعنى الأخص؛ لكون عائشة خالته، وأراد بقوله: " يا أم المؤمنين" المعنى الأعم؛ لكونها أم المؤمنين.

قوله: " أبو عبد الرحمن" هو كنية عبد الله بن عمر. قوله: " عمرات" يجوز ضم الميم فيها وسكونها، وبضمها كما في عرفات وحجرات.

قوله: " إحداهن في رجب" ؛ أي: إحدى العمرات كانت في شهر رجب. قوله: " يرحم الله أبا عبد الرحمن!" ذكرته بكنيته تعظيما له. قوله: " ما اعتمر" ؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم عمرة قط إلا وهو، أي: ابن عمر، شاهده؛ أي: حاضر معه، وقالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان، ولم تنكر عائشة على ابن عمر إلا قوله: " إحداهن في رجب".

واعلم أن إحدى العمرات في رواية منصور عن مجاهد: " كانت في رجب" وخالفه أبو إسحاق فرواه عن مجاهد عن ابن عمر قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، فبلغ ذلك عائشة فقالت: اعتمر أربع مرات. أخرجه أحمد، وأبو داود، فجعل منصور الاختلاف في شهر العمرة، وأبو إسحاق جعل الاختلاف في عدد الاعتمار، وفي أفراد مسلم من حديث البراء بن عازب: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين، وفي سنن أبي داود بإسناد على شرط الشيخين من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوال ، أخرجه مالك في موطئه أيضا، وفي سنن الدارقطني من حديثها أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في رمضان ، وهو غريب، قال ابن بطال: والصحيح أنه اعتمر ثلاثا، والرابعة إنما تجوز نسبتها إليه؛ لأنه أمر الناس بها، وعملت بحضرته، لا أنه اعتمرها بنفسه، فيدل على صحة ذلك أن عائشة ردت على ابن عمر قوله: " وقالت ما اعتمر في رجب قط"، وقال أبو عبد الملك: إنه وهم من ابن عمر لإجماع المسلمين أنه اعتمر ثلاثا، وروى البيهقي من رواية عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر؛ عمرة في شوال، وعمرتين في ذي القعدة. والحديث عند أبي داود من رواية داود بن عبد الرحمن عن هشام، إلا [ ص: 112 ] أنه قال: اعتمر عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال، وروى البيهقي أيضا من رواية عمر بن ذر عن مجاهد عن أبي هريرة قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر كلها في ذي القعدة، وقال شيخنا: كأن عائشة تريد - والله أعلم- بعمرة شوال عمرة الحديبية، والصحيح إنما كانت في ذي القعدة كما في حديث أنس في الصحيح، وإليه ذهب الزهري، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم، واختلف فيه على عروة بن الزبير، فروى هشام ابنه عنه أنها كانت في شوال، وروى ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه أنها كانت في ذي القعدة، قال البيهقي: هو الصحيح، وقد عد الناس هذه في عمره صلى الله عليه وسلم، وإن كان صد عن البيت فنحر الهدي وحلق.

وأما العمرة الثانية فهي أيضا في ذي القعدة سنة سبع، وهو متفق عليه فيما علمت، قاله نافع مولى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وسليمان التيمي، وعروة بن الزبير، وموسى بن عقبة، وابن شهاب، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم، لكن ذكر ابن حبان في صحيحه أنها كانت في رمضان، وقال المحب الطبري في كتاب القرى: ولم ينقل ذلك أحد غيره، والمشهور أنها في ذي القعدة، وعند الدارقطني: " خرج معتمرا في رمضان"، وقال المحب: فلعلها التي فعلها في شوال، وكان ابتداؤها في رمضان، وروى أبو بكر بن أبي داود في فوائده من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اعتمر قبل حجته عمرتين أو ثلاثا، إحدى عمره في رمضان. ولعله أراد ابتداء إحرامه بها، وتسمى: عمرة القضاء، وعمرة القضية، وعمرة القصاص، وسميت عمرة القضاء لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قاضى أهل مكة عام الحديبية على أن يعتمر العام المقبل؛ لأن المسلمين قضوها عن عمرة الحديبية. وعن ابن عمر: لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن شرطا على المسلمين أن يعتمروا القابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه.

وسميت عمرة القصاص؛ لأن الله عز وجل أنزل في تلك العمرة: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فاعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام الذي صد فيه، وقيل: يحتمل أن يكون من القصاص الذي هو أخذ الحق، فكأنهم اقتصوا؛ أي: أخذوا في السنة الثانية ما منعهم المشركون من الحق في كمال عمرهم.

وأما العمرة الثالثة فهي في ذي القعدة أيضا سنة ثمان، وهي عمرة الجعرانة، قال ذلك عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة، وغيرهما، وهو كذلك، وفي الصحيح من حديث أنس أنها كانت في ذي القعدة، وقال ابن حبان في صحيحه: إن عمرة الجعرانة كانت في شوال. قال المحب الطبري: ولم ينقل ذلك أحد غيره فيما علمت، والمشهور أنها في ذي القعدة، وقال المحب الطبري: إن الثلاث كانت في ذي القعدة.

وأما العمرة الرابعة فهي التي مع حجته صلى الله عليه وسلم، وكانت أفعالها في الحجة بلا خلاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في الرابع من ذي الحجة، وأما إحرامها فالصحيح أنه كان في ذي القعدة؛ لأنهم خرجوا لخمس بقين من ذي القعدة كما في الصحيح، وكان إحرامه فيها في وادي العقيق كما في الصحيح، وذلك قبل أن يدخل ذو الحجة، وقيل: كان إحرامه لها في ذي الحجة؛ لأن في بعض طرق الحديث: " خرجنا موافين لهلال ذي الحجة"، والصحيح الأول، وأسقط بعضهم عمرته هذه فجعلها ثلاث عمر، وهو الذي صححه القاضي عياض.

ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر عام حجة الوداع عمرة مفردة، لا قبل الحج ولا بعده، أما قبله فلأنه لم يحل حتى فرغ من الحج، وأما بعده فلم ينقل أنه اعتمر، فلم يبق إلا أنه قرن الحج بعمرة، وهذا هو الصواب جمعا بين الأحاديث، إلا أنه أحرم أولا بالحج، ثم أدخل عليه العمرة بالعقيق لما جاءه جبريل عليه السلام، وقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة؛ ولهذا اختلفت الصحابة في عدد عمره، فمن قال: أربعا، فهذا وجهه، ومن قال: ثلاثا، أسقط الأخيرة لدخول أفعالها في الحج، ومن قال: اعتمر عمرتين، أسقط العمرة الأولى وهي عمرة الحديبية؛ لكونهم صدوا عنها، وأسقط الأخيرة لدخولها في أعمال الحج، وأثبت عمرة القضية وعمرة الجعرانة.

التالي السابق


الخدمات العلمية