صفحة جزء
158 25 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ، قال: حدثني إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، أن عطاء بن يزيد ، أخبره أن حمران مولى عثمان أخبره أنه رأى عثمان بن عفان [ ص: 5 ] دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه.


مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، فإن فيه غسل الأعضاء المغسولة كلها ثلاث مرات.

( بيان رجاله ) وهم ستة: الأول عبد العزيز الأويسي بضم الهمزة، وقد مر في باب الحرص على الحديث في كتاب العلم.

الثاني إبراهيم بن سعد سبط عبد الرحمن بن عوف، وقد مر في باب تفاضل أهل الإيمان.

الثالث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وقد تكرر ذكره.

الرابع عطاء بن يزيد التابعي، وقد تقدم في باب لا تستقبل القبلة بغائط.

الخامس حمران بضم الحاء المهملة وسكون الميم وبالراء ابن أبان بفتح الهمزة والباء الموحدة المخففة ابن خالد بن عمرو من سبي عين التمر سباه خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه فوجده غلاما كيسا فوجهه إلى عثمان رضي الله عنه، وأعتقه وكان كاتبه وحاجبه وولي نيسابور زمن الحجاج ذكره البخاري في ضعفائه ، واحتج به في صحيحه ، وكذا مسلم والأربعة وقال ابن سعد: كان كثير الحديث لم أرهم يحتجون بحديثه، مات سنة خمس وسبعين أغرمه الحجاج مائة ألف لأجل الولاية السابقة ثم رد عليه ذلك بشفاعة عبد الملك.

السادس أمير المؤمنين عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أمه أروى بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أصغر من النبي عليه الصلاة والسلام ويسمى بذي النورين لأنه تزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية فماتت عنده ثم أم كلثوم، روي له عن رسول الله عليه الصلاة والسلام مائة حديث وستة وأربعون حديثا أخرج البخاري منها أحد عشر، استخلف أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين، وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين قتله الأسود التجيبي بضم التاء المثناة من فوق وكسر الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبالباء الموحدة، ودفن ليلة السبت بالبقيع وعمره اثنان وثمانون سنة وصلى عليه حكيم بن حزام، وكثرت الأموال في خلافته حتى بيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف ونخلة بألف درهم، وليس في الصحابة من اسمه عثمان بن عفان غيره.

( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد ، والإخبار بصيغة الإفراد والعنعنة، ومنها أن رواته كلهم مدنيون، ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض : ابن شهاب وعطاء وحمران .

( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الطهارة، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري به، وأخرجه أيضا في الصوم عن عبدان، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن الزهري به، وأخرجه مسلم في الطهارة، عن أبي الطاهر بن السرح وحرملة بن يحيى كلاهما عن ابن وهب، عن يونس، وعن زهير بن حرب، عن يعقوب بن إبراهيم بن سلامة، عن أبيه ثلاثتهم عن الزهري به، وأخرجه أبو داود فيه عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق، عن معمر به، وأخرجه النسائي فيه عن ابن مسكين وأحمد بن عمرو بن السرح كلاهما عن ابن وهب به، وعن سويد بن نصر، عن ابن المبارك به، وعن أحمد بن المغيرة، عن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري به.

( بيان اللغات ) قوله: "فأفرغ على يديه" من أفرغت الإناء إفراغا وفرغته تفريغا إذا قلبت ما فيه، والمعنى هاهنا صب على يديه يقال: فرغ الماء بالكسر إذا انصب، وأفرغته أنا أي صببته وتفريغ الظروف إخلاؤها. قوله: "فمضمض" المضمضة تحريك الماء في الفم. وقال النووي : حقيقة المضمضة وكمالها أن يجعل الماء في فمه ثم يديره فيه، ثم يمجه . وقال الزندوستي من أصحابنا: أن يدخل إصبعه في فمه وأنفه ، والمبالغة فيهما سنة. وقال الصدر الشهيد: المبالغة في المضمضة الغرغرة، وقد مضى تحقيق الكلام فيها فيما مضى.

قوله: "واستنثر" قال جمهور أهل اللغة والفقهاء والمحدثون: الاستنثار إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وقال ابن الأعرابي وابن قتيبة : الاستنثار هو الاستنشاق وقال النووي : الصواب هو الأول ويدل عليه الرواية الأخرى: استنشق واستنثر فجمع بينهما وقال أهل اللغة: هو مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف وقال الخطابي [ ص: 6 ] وغيره: هي الأنف، وقال الأزهري : روى سلمة، عن الفراء أنه يقال: نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة في الطهارة. وقال ابن الأثير : نثر ينثر بالكسر إذا امتخط، واستنثر استفعل منه أي: استنشق الماء ثم استخرج ما في الأنف فينثره. وقيل: هي من تحريك النثرة وهي طرف الأنف. قلت: الصواب ما قاله ابن الأعرابي أن المراد من قوله واستنثر الاستنشاق.

وقال النووي : الصواب هو الأول، وقوله يدل عليه الرواية الأخرى استنشق واستنثر لا يدل على ما ادعاه; لأن المراد من الاستنثار في هذه الرواية الامتخاط، وهو أن يمتخط بعد الاستنشاق. وقال ابن سيده : استنثر إذا استنشق الماء ثم استخرج ذلك بنفس الأنف، والنثرة الخيشوم وما والاه وتنشق واستنشق الماء في أنفه صبه فيه.

وقال الجوهري : الانتثار والاستنثار بمعنى وهو نثر ما في الأنف بالنفس وقال ابن طريف : نثر الماء من أنفه دفعه وفي جامع القزاز : نثرت الشيء أنثره وأنثره نثرا إذا بددته وأنت ناثر والشيء منثور. قال: والمتوضئ يستنشق إذا جذب الماء بريح أنفه ثم يستنثره.

وفي الغريبين : يستنشق أي يبلغ الماء خياشيمه، ويقال: نثر وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة وهي طرف الأنف.

قوله: "وجهه" الوجه ما يواجهه الإنسان وهو من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن طولا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا. قوله: "ثم مسح برأسه" الرأس مشتمل على الناصية والقفا والفودين، وذكر ابن جني أن الجمع أرؤس وآراس على القلب ورؤس وقال ابن السكيت : وروس على الحذف وأنشد:


فيوما إلى أهلي ويوما إليكم ويوما أحط الخيل من روس أجبال



. ورجل أرأس ورؤاسي عظيم الرأس وقال الأصمعي : رؤاس كذلك، وقال ابن سيده في المخصص: وإذا قيل رأس فتخفيفه قياس ثابت يقال لرأس الإنسان: قلة والجمع قلل وقلال. وقال أبو حاتم: وهي القنة والجمع قنن والعلاوة وهي حكمة الإنسان وقادمه وملطاطه وهامته.

قوله: "غفر له" الغفر والغفران الستر، ومنه المغفر لأنه يغفر الرأس أي يستره. وقال ابن الأثير : أصل الغفر التغطية والمغفرة إلباس الله الغفر للمذنبين.

بيان الإعراب قوله: "أخبره" جملة في محل الرفع; لأنه خبر أن ، قوله ( أن حمران ) أصله بأن حمران ، قوله (مولى عثمان) في محل النصب; لأنه صفة لحمران وهو منصوب لأنه اسم أن، ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون الزائدتين. قوله: "أنه رأى عثمان" أصله بأنه. قوله: "دعا بإناء" جملة وقعت حالا بتقدير قد ، كما في قوله تعالى: أو جاءوكم حصرت صدورهم ولفظة رأى بمعنى أبصر; فلذلك اكتفي بمفعول واحد وهو عثمان. قوله: "فأفرغ" الفاء فيه فاء التفسير. قوله: "ثلاث مرار" كلام إضافي منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي إفراغا ثلاث مرات. قوله: "فمضمض" الفاء فيه فاء فصيحة، وتقديره فأخذ الماء منه وأدخله في فيه فمضمض.

قوله: "ثلاثا" نصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي غسلا ثلاث مرات. قوله: "ويديه" عطف على قوله "وجهه" والتقدير وغسل يديه. قوله: "من توضأ" كلمة من موصولة فيها معنى الشرط في محل الرفع على الابتداء، وقوله: "توضأ" جملة وقعت صلة للموصول. قوله: "نحو وضوئي" كلام إضافي منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره من توضأ وضوءا نحو وضوئي. قوله: "ثم صلى" عطف على توضأ.

قوله: "لا يحدث فيهما نفسه" جملة نافية في محل النصب على أنها صفة لركعتين. قوله: "غفر له" جملة في محل الرفع على الخبرية. قوله: "ما تقدم" في محل الرفع لأنه مفعول ناب عن الفاعل، وكلمة من في قوله: "من ذنبه" للبيان.

بيان المعاني قوله: "دعا بإناء" أي بظرف فيه الماء للوضوء، وفي رواية شعيب الآتية قريبا: دعا بوضوء . بفتح الواو وهو اسم للماء المعد للتوضؤ، وكذا وقع في رواية مسلم من طريق يونس. قوله: "ثلاث مرات" وفي بعض النسخ ثلاث مرار. قوله:" فمضمض واستنثر"، وفي رواية الكشميهني : "واستنشق" بدل قوله: "واستنثر" وثبتت الثلاثة في رواية شعيب الآتية في باب المضمضة، وليس في طرق هذا الحديث تقييد المضمضة والاستنشاق بعدد غير طريق يونس، عن الزهري فيما ذكره ابن المنذر، وكذا فيما ذكره أبو داود من وجهين آخرين، عن عثمان رضي الله تعالى عنه، فإن في أحدهما فتمضمض ثلاثا واستنثر ثلاثا. وفي الآخر ثم تمضمض واستنشق ثلاثا.

قوله: "ثم غسل وجهه" عطف بكلمة ثم لأنها تقتضي الترتيب والمهلة، فإن قلت: ما الحكمة في تأخير غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق؟ قلت: ذكروا أن حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم يدرك بالفم، والريح يدرك بالأنف فقدم الأقوى منها وهو الطعم ثم الريح [ ص: 7 ] ثم اللون قوله: "ويديه إلى المرفقين" أي كل واحدة كما جاء هكذا مبينا في رواية معمر، عن الزهري كما يجيء في كتاب الصوم، وكذا في رواية مسلم من طريق يونس، وفيهما تقديم اليمنى على اليسرى، والتعبير في كل منهما بكلمة ثم وكذا في الرجلين أيضا.

قوله: "ثم مسح برأسه" وفي الروايتين المذكورتين: "ثم مسح رأسه" بلا باء الجر، والفرق بينهما أن في الأول لا يقتضي استيعاب المسح بخلاف الثاني.

قوله: "نحو وضوئي هذا". قال النووي : إنما قال نحو وضوئي ولم يقل مثل; لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره، وفيه نظر لأنه جاء في رواية البخاري في الرقاق من طريق المعاذ بن عبد الرحمن، عن حمران، عن عثمان رضي الله تعالى عنه ولفظه: من توضأ مثل هذا الوضوء. وجاء في رواية مسلم أيضا من طريق زيد بن أسلم، عن حمران : من توضأ مثل وضوئي هذا. وجاء في رواية البخاري من طريق معمر : من توضأ وضوئي هذا على ما يجيء في الصوم، وكذا في رواية أبي داود : من توضأ وضوئي هذا. والتقدير مثل وضوئي.

وكل واحد من لفظة : نحو ومثل . من أداة التشبيه ، والتشبيه لا عموم له سواء قال: نحو وضوئي هذا أو مثل وضوئي، فلا يلزم ما ذكره النووي . وقال بعضهم: فالتعبير بـ "نحو" من تصرف الرواة; لأنها تطلق على المثلية مجازا . ليس بشيء; لأنه ثبت في اللغة مجيء نحو بمعنى مثل يقال: هذا نحو ذاك أي مثله.

قوله: "لا يحدث فيهما" أي في الركعتين قال القاضي عياض : يريد بحديث النفس الحديث المجتلب والمكتسب، وأما ما يقع في الخاطر غالبا فليس هو المراد. وقال بعضهم: هذا الذي يكون من غير قصد يرجى أن تقبل معه الصلاة، ويكون دون صلاة من لم يحدث نفسه بشيء لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ضمن الغفران لمراعي ذلك; لأنه قل من تسلم صلاته من حديث النفس، وإنما حصلت له هذه المرتبة لمجاهدة نفسه من خطرات الشيطان ونفيها عنه، ومحافظته عليها حتى لا يشتغل عنها طرفة عين، وسلم من الشيطان باجتهاده وتفريغه قلبه.

قيل: ويحتمل أن يكون المراد به إخلاص العمل لله تعالى ولا يكون لطلب الجاه، وأن يراد ترك العجب بأن لا يرى لنفسه منزلة رفيعة بأدائها، بل ينبغي أن يحقر نفسه كي لا تغتر فتتكبر، ويقال: إن كان المراد به أن لا يخطر بباله شيء من أمور الدنيا فذلك صعب، وإن كان المراد به أنه بعد خطوره به لا يستمر عليه فهو عمل المخلصين.

قلت: التحقيق فيه أن حديث النفس قسمان : ما يهجم عليها ويتعذر دفعها، وما يسترسل معها ويمكن قطعه ، فيحمل الحديث عليه دون الأول لعسر اعتباره. وقوله:" يحدث" من باب التفعيل وهو يقتضي التكسب من أحاديث النفس ودفع هذا ممكن، وأما ما يهجم من الخطرات والوساوس فإنه يتعذر دفعه فيعفى عنه.

ونقل القاضي عياض عن بعضهم بأن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلا ورأسا، ورده النووي فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة، ثم حديث النفس يعم الخواطر الدنيوية والأخروية، والحديث محمول على المتعلق بالدنيا فقط. وقد جاء في رواية في هذا الحديث ذكره الحكيم الترمذي في كتاب الصلاة تأليفه: لا يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا ثم دعا الله إلا استجيب له . انتهى. فإذا حدث نفسه فيما يتعلق بأمور الآخرة كالفكر في معاني المتلو من القرآن العزيز والمذكور من الدعوات والأذكار أو في أمر محمود أو مندوب إليه لا يضر ذلك، وقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: لأجهز الجيش وأنا في الصلاة أو كما قال.

قوله: "غفر له ما تقدم من ذنبه" يعني من الصغائر دون الكبائر كذا هو مبين في مسلم . وظاهر الحديث يعم جميع الذنوب، ولكنه خص بالصغائر ، والكبائر إنما تكفر بالتوبة وكذلك مظالم العباد، فإن قيل: حديث عثمان رضي الله تعالى عنه الآخر الذي فيه خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره مرتب على الوضوء وحده، فلو لم يكن المراد بما تقدم من ذنبه في هذا الحديث العموم في الصغائر والكبائر لكان الشيء مع غيره كالشيء لا مع غيره، فإن فيه الوضوء والصلاة ، وفي الأول الوضوء وحده، وذلك لا يجوز ، أجيب بأن قوله: "خرجت خطاياه" لا يدل على خروج جميع ما تقدم له من الخطايا فيكون بالنسبة إلى يومه أو إلى وقت دون وقت، وأما قوله: "ما تقدم من ذنبه" فهو عام بمعناه وليس له بعض متيقن كالثلاثة في الجمع أعني الخطايا فيحمل على العموم في الصغائر.

وقال بعضهم: وهو في حق من له كبائر وصغائر، ومن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خففت عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزاد في حسناته بنظير ذلك. قلت: الأقسام الثلاثة الأخيرة غير صحيحة، أما الذي ليس له إلا صغائر فله كبائر أيضا لأن كل صغيرة تحتها صغيرة فهي كبيرة، أما الذي ليس له إلا كبائر فله صغائر لأن كل كبيرة تحتها صغيرة وإلا لا يكون [ ص: 8 ] كبيرة، وأما الذي ليس له إلا صغائر فله كبائر أيضا; لأن ما فوق الصغيرة التي ليس تحتها صغيرة فهي كبائر فافهم.

( بيان استنباط الأحكام ) الأول أن هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء، والأصل في الواجب غسل الأعضاء مرة مرة والزيادة عليها سنة; لأن الأحاديث الصحيحة وردت بالغسل ثلاثا ثلاثا ومرة مرة ومرتين مرتين، وبعض الأعضاء ثلاثا ثلاثا وبعضها مرتين مرتين، وبعضها مرة مرة فالاختلاف على هذه الصفة دليل الجواز في الكل، فإن الثلاث هي الكمال والواحدة تجزئ، وقد مر الكلام فيه مستوفى وصفة الوضوء على وجوه:

الأول فيه غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ولو لم يكن عقيب النوم، وهذا مستحب بلا خلاف، وفيه الإفراغ على اليدين معا، وجاء في رواية أخرى: أفرغ بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما وهو قدر مشترك بين غسلهما معا مجموعتين أو متفرقتين، والفقهاء اختلفوا في: أيهما أفضل.

الثاني في المضمضة والاستنشاق وهما سنتان في الوضوء، وكان عطاء والزهري وابن أبي ليلى وحماد وإسحاق يقولون: يعيد إذا ترك المضمضة في الوضوء. وقال الحسن وعطاء في آخر قوليه والزهري وقتادة وربيعة ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي : لا يعيد. وقال أحمد : يعيد في الاستنشاق خاصة ولا يعيد من ترك المضمضة، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور .

وقال أبو حنيفة والثوري : يعيد إن تركها في الجنابة ولا يعيد في الوضوء. وقال ابن المنذر : وبقول أحمد أقول. وقال ابن حزم : هذا هو الحق لأن المضمضة ليست فرضا وإن تركها فوضوءه تام وصلاته تامة عمدا تركها أو نسيانا; لأنه لم يصح فيها عن النبي عليه الصلاة والسلام أمر إنما هي فعل فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله ليست فرضا وإنما فيها الائتساء به عليه الصلاة والسلام.

قلت: وفيه نظر لأن الأمر بالمضمضة صحيح على شرطه، أخرجه أبو داود بسند احتج ابن حزم برجاله وبأصل الحديث، ولفظ أبي داود من حديث عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه مرفوعا: إذا توضأت فمضمض . وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وخرجه ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود في المنتقى ، وقال البغوي في شرح السنة : صحيح . وصحح إسناده الطبري في كتابه تهذيب الآثار ، والدولابي في جمعه وابن القطان في آخرين.

وقال الحاكم : صحيح ولم يخرجاه وهو في جملة ما قلنا: إنهما أعرضا عن الصحابي الذي لا يروي عنه غير الواحد، وقد احتجا جميعا ببعض هذا الحديث وله شاهد من حديث ابن عباس انتهى كلامه.

وفيه نظر لأنهما لم يشترطا ما ذكره ؛ لذكرهما في كتابيهما أحاديث جماعة بهذه المثابة، منهم المسيب بن حزم وأبو قيس بن أبي حازم ومرداس وربيعة بن كعب الأسلمي، ولئن سلمنا قوله: "كان لقيط هذا خارجا عما ذكره ؛ لرواية جماعة عنه منهم ابن أخيه وكيع بن حدس وعمرو بن أوس يرفعه، وأما حديث ابن عباس الذي أشار إليه فذكره أبو نعيم الأصبهاني من حديث الربيع بن بدر، عن ابن جريج، عن عطاء عنه يرفعه: مضمضوا واستنشقوا . وقال: حديث غريب من حديث ابن جريج ولا أعلم رواه عنه غير الربيع.

وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أمر بالمضمضة والاستنشاق وصحح إسناده، وأخرج أيضا من حديث ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها ترفعه: المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه . وقال الدارقطني : الصواب ابن جريج، عن سليمان مرسلا، وفي لفظ عنده مرفوعا: من توضأ فليمضمض وضعفه، والمضمضة مقدمة على الاستنشاق قال النووي : وهل هو تقديم استحباب أو اشتراط ؟ وجهان وفي كيفيتهما خمسة أوجه:

الأول أن يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات وهذا في الصحيح وغيره.

والثاني أن يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثا ويستنشق منها ثلاثا، رواه علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند ابن خزيمة وابن حبان، ورواه أيضا وائل بن حجر بسند فيه ضعف وهو عند البزار .

والثالث أن يجمع بينهما بغرفة، وهو أن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم الثانية كذلك والثالثة رواه عبد الله بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي وقال: حسن غريب، وخرجه أيضا من حديث ابن عباس وقال: هو أحسن شيء في هذا الباب وأصح.

والرابع أن يفصل بينهما بغرفتين يتمضمض بثلاث ويستنشق بثلاث، وهو الذي اختاره أصحابنا رحمهم الله، واستدلوا على ذلك بما رواه الترمذي، حدثنا هناد وقتيبة قالا: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي حية قال: رأيت عليا رضي الله تعالى عنه توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا [ ص: 9 ] وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا، ومسح برأسه مرة ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا حديث حسن صحيح، فإن قلت: لم يحك فيه أن كل واحدة من المضامض والاستنشاقات بماء واحد، بل حكى أنه تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا قلت: مدلوله ظاهر لما ذكرناه، وهو أن يتمضمض ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء جديدا ثم يستنشق كذلك وهو رواية البويطي، عن الشافعي، فإنه روى عنه أنه يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق، وفي رواية غيره عنه في الأم يغرف غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يغرف غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم يغرف ثالثة يتمضمض منها ويستنشق فيجمع في كل غرفتين بين المضمضة والاستنشاق.

واختلف نصه في الكيفيتين فنص في الأم وهو نص مختصر المزني أن الجمع أفضل، ونص البويطي أن الفصل أفضل، ونقله الترمذي عن الشافعي . قال النووي : قال صاحب المهذب: القول بالجمع أكثر في كلام الشافعي وهو أيضا أكثر في الأحاديث الصحيحة، ووجه الفصل بينهما كما هو مذهب أصحابنا الحنفية ما رواه الطبراني، عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده كعب بن عمرو اليمامي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا فأخذ لكل واحدة ماء جديدا.

وكذا روى عنه أبو داود في سننه، وسكت عنه وهو دليل رضاه بالصحة، والجواب عما ورد في الحديث: فتمضمض واستنشق من كف واحد أنه محتمل; لأنه يحتمل أنه تمضمض واستنشق بكف واحد بماء واحد، ويحتمل أنه فعل ذلك بكف واحد بمياه. والمحتمل لا يقوم به حجة أو يرد هذا المحتمل إلى المحكم الذي ذكرناه توفيقا بين الدليلين.

وقد يقال: إن المراد استعمال الكف الواحد بدون الاستعانة بالكفين كما في الوجه، وقد يقال: إنه فعلهما باليد اليمنى ردا على قول من يقول: يستعمل في الاستنشاق اليد اليسرى لأن الأنف موضع الأذى كموضع الاستنجاء، كذا في المبسوط ، وفيه نظر لا يخفى، والأحسن أن يقال: إن كل ما روي من ذلك في هذا الباب هو محمول على الجواز.

الوجه الثالث في غسل الوجه وهو فرض بالنص بلا خلاف، وفيه تثليث غسله والإجماع قائم على سنيته.

الوجه الرابع في غسل اليدين إلى المرفقين، والكلام فيه كالكلام في الوجه، وقد بينا حد المرفق وهو أنه موصل الذراع في العضد، ولكن اختلف قول الشافعي هل هو اسم لإبرة الذراع أو لمجموع عظم رأس العضد مع الإبرة على قولين، وبني على ذلك أنه لو سل الذراع من العضد هل يجب غسل رأس العضد أو يستحب فيه قولان أشهرهما وجوبه، واختلفوا أيضا في وجوب إدخال المرفقين في الغسل على قولين فذهبت الأئمة الأربعة كما عزاه ابن هبيرة إليهم والجمهور إلى الوجوب، وذهب زفر وأبو بكر بن داود إلى عدم الوجوب، ورواه أشهب عن مالك وزيفه القاضي عبد الوهاب ، ومنشأ الخلاف من كلمة إلى وقد حققنا الكلام فيه فيما مضى.

الوجه الخامس في مسح الرأس، والكلام فيه على أنواع : الأول في أن ظاهر الحديث يقتضي استيعاب الرأس بالمسح لأن اسم الرأس حقيقة في العضو لكن الاستيعاب هل هو على سبيل الوجوب أو الندب فيه قولان للعلماء، فمذهب الشافعي أن الواجب ما يقع عليه الاسم ولو بعض شعرة، ومشهور مذهب مالك وأحمد أن الواجب مسح الجميع، ومشهور مذهب أبي حنيفة أن الواجب مسح ربع الرأس. وقد مر الكلام فيه مبسوطا في أول كتاب الوضوء.

النوع الثاني أن قوله: "ثم مسح برأسه" يقتضي مرة واحدة كذا فهمه غير واحد من العلماء، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد، وقال الشافعي : يستحب التثليث لغيرها من الأعضاء وهو مشهور مذهبه، وقد وردت أحاديث صحيحة بالمسح مرة واحدة. وقال أبو داود : أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنه مرة فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا قالوا: وفيها مسح رأسه ولم يذكروا عددا كما ذكروا في غيره.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : لا نعلم أحدا من السلف جاء عنه استعمال الثلاث إلا إبراهيم التيمي قلت: فيه نظر لأن ابن أبي شيبة حكى ذلك عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير وعطاء وزاذان وميسرة أنهم كانوا إذا توضئوا مسحوا رءوسهم ثلاثا، وذكر ابن السكن أيضا عن مصرف بن عمرو . ووردت أحاديث كثيرة بالمسح ثلاثا ففي سنن أبي داود بسند صحيح من حديث عبد الرحمن بن وردان، عن حمران وفيه: ومسح رأسه ثلاثا . وفي سنن ابن ماجه ما يدل على أن سائر وضوئه عليه الصلاة والسلام كان ثلاثا والرأس داخلة فيه، وهو ما رواه بسند صحيح عن محمود بن خالد، ثنا [ ص: 10 ] الوليد بن مسلم، عن ثوبان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن شقيق بن سلمة قال: " رأيت عثمان وعليا رضي الله تعالى عنهما يتوضآن ثلاثا ثلاثا ويقولان: هكذا كان وضوء رسول الله عليه الصلاة والسلام ". وفي علل الترمذي وسأل البخاري عن حديث سعيد بن الحارث بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد " أن عثمان رضي الله عنه توضأ ثلاثا ثلاثا " ثم رفعه فقال: هو حديث حسن. وقال الترمذي : هو غريب من هذا الوجه .

وفي مسند أحمد بن منيع "عمن رأى عثمان رضي الله عنه دعا بوضوء، وعنده الزبير وسعد بن أبي وقاص فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: أنشدكما الله أتعلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ كما توضأت قالا: نعم". وفي كتاب الطهور لأبي عبيد بن سلام وعنده طلحة وعلي والزبير وسعد رضي الله عنهم فذكره، وفي صحيح ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه توضأ ثلاثا ثلاثا، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي سنن أبي داود ، من حديث علي رضي الله عنه رفعه " ومسح برأسه ثلاثا " وسنده صحيح، وفي سنن الدارقطني ، بسند فيه البيلماني، عن عمر رضي الله عنه ووصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ومسح برأسه ثلاثا " وفي مسند البزار ، بطريق صحيح، عن ابن المثنى، عن حجاج بن منهال، عن همام، عن عامر الأحول، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "توضأ ثلاثا ثلاثا "، ثم قال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه بأحسن من هذا الإسناد، وذكره الطبري في التهذيب وصحح إسناده.

وفي سنن ابن ماجه بسند لا بأس به عن عائشة وأبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا "، وفي كتاب أبي عبيد، عن أبي الورقاء وهو ثقة عند ابن المديني وابن شاهين، عن عبد الله بن أبي أوفى "أنه توضأ ثلاثا ثلاثا". قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هكذا. وفي سنن ابن ماجه ، أيضا بسند لا بأس به، عن أبي مالك الأشعري كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثلاثا ثلاثا .

وعنده أيضا بسند لا بأس به من حديث الربيع بنت معوذ : " توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ثلاثا ". وفي مسند ابن السكن من حديث مصرف بن عمرو : ثم مسح عليه الصلاة والسلام على رأسه ثلاثا، وظاهر أذنيه ولحيته ورقبته ثلاثا.

وفي كتاب الدلائل لثابت بن القاسم السرقسطي بسند لا بأس به من حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا . وفي الأوسط للطبراني من حديث أبي رافع مرفوعا: مسح برأسه وأذنيه وغسل رجليه ثلاثا . وقال: لا يروى عن أبي رافع إلا بهذا الإسناد تفرد به الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد الله بن أبي رافع عنه.

وفي كتاب المفرد لأبي داود من حديث علي بن أبي حملة، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عبد الملك حدثني أبو خالد، عن معاوية رضي الله عنه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا. وفي الأوسط من حديث أنس قال: وضأت النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثلاثا ثلاثا وخلل لحيته مرتين أو ثلاثا . وقال: لم يروه عن إبراهيم بن أبي عبلة يعني، عن أنس إلا قتادة بن الفضل الرهاوي تفرد به الزبير بن محمد .

وروى الدارقطني في سننه عن محمد بن محمود الواسطي، عن شعيب بن أيوب، عن أبي يحيى الحماني، عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه أنه توضأ . الحديث. وفيه: ومسح برأسه ثلاثا ثم قال هكذا رواه أبو حنيفة، عن علقمة بن خالد، وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات فرووه عن خالد بن علقمة فقالوا فيه: ومسح رأسه مرة واحدة. ومع خلافه إياهم قال: إن السنة في الوضوء مسح الرأس مرة واحدة . قلت : الزيادة من الثقة مقبولة ولا سيما من مثل أبي حنيفة . وأما قوله: فقد خالف في حكم المسح فغير صحيح; لأن تكرار المسح مسنون عند أبي حنيفة أيضا، صرح بذلك صاحب الهداية ولكن بماء واحد.

وقد وردت الأحاديث أيضا في المسح مرتين، منها ما رواه ابن ماجه بسند لا بأس به عن الربيع : " توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على رأسه مرتين ". وقال الترمذي : هو حديث حسن. وقال ابن عبد البر : وبه قال ابن سيرين . ومنها ما رواه النسائي من حديث عبد الله بن زيد : ومسح برأسه مرتين. وسنده صحيح.

النوع الثالث في كيفية المسح رويت فيها أحاديث مختلفة، فعند النسائي من حديث عبد الله بن زيد : ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. وعند ابن أبي شيبة من حديث الربيع "بدأ بمؤخره ثم رد يديه على ناصيته". وعند الطبراني : "بدأ بمؤخر رأسه ثم جره إلى قفاه، ثم جره إلى مؤخره". وعند أبي داود : "يبدأ بمؤخره ثم بمقدمه وبأذنيه كليهما". وفي لفظ: "ومسح الرأس كله من قرن الشعر، كل ناحية لمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته". وفي لفظ: "مسح رأسه وما أقبل وما أدبر وصدغيه". وعند البزار من حديث بكار بن عبد العزيز [ ص: 11 ] عن أبيه، عن أبي بكرة يرفعه توضأ ثلاثا ثلاثا. وفيه: مسح برأسه يقبل بيده من مقدمه إلى مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه. وبكار ليس به بأس، وعند ابن قانع من حديث أبي هريرة "وضع يديه على النصف من رأسه، ثم جرهما إلى مقدم رأسه، ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه وجرهما إلى صدغيه". وعند أبي داود من حديث أنس: "أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه". وفي كتاب ابن السكن : "فمسح باطن لحيته وقفاه". وفي معجم البغوي وكتاب ابن أبي خيثمة "مسح رأسه إلى سالفته". وفي كتاب النسائي عن عائشة رضي الله عنها وصفت وضوءه صلى الله عليه وسلم ووضعت يدها في مقدم رأسها، ثم مسحت إلى مؤخره ، ثم مدت بيديها بأذنيها ، ثم مدت على الخدين.

وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يمسح رأسه هكذا، ووضع أيوب كفه وسط رأسه ، ثم أمرها إلى مقدم رأسه، وفي المحلى صحيحا عن ابن عمر : " كان يمسح اليافوخ فقط ". وفي المصنف أن إبراهيم كان يمسح على يافوخه.

وروي أيضا في المسح ما هو كالغسل، ففي سنن أبي داود من حديث أبي إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن عباس وصف وضوء علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: وأخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء فصبها على ناصيته فتركها تسيل على وجهه.

وفيه أيضا من حديث معاوية مرفوعا: "فلما بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله، حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقطر". وفيه أيضا من حديث زر بن حبيش أنه سمع عليا رضي الله عنه وسئل عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث قال: ومسح على رأسه حتى الماء يقطر.

وقال ابن الحصار في هذا غسل الرأس بدل مسحه، ويرد بهذا على من قال: لو كرر المسح لصار غسلا فخرج عن وظيفة الرأس.

الوجه السادس في غسل الرجلين، والكلام فيه كالكلام في اليدين، وقد مر الكلام فيه مبسوطا في أوائل كتاب الوضوء.

الحكم الثاني فيه جواز الاستعانة في إحضار الماء وهو إجماع من غير كراهة.

الحكم الثالث فيه استحباب الركعتين بعد الوضوء، ويفعل كل وقت إلا في الأوقات المنهية، وقالت: يفعل كل وقت حتى وقت النهي، وقالت المالكية: ليست هذه من السنن، وقالت الشافعية: هل تحصل هذه الفضيلة بركعة الظاهر المنع، وفي جريان الخلاف فيه وفي التحية ونظائره نظر.

الحكم الرابع الثواب الموعود به مرتب على أمرين: الأول وضوءه على النحو المذكور. والثاني: صلاته ركعتين عقيبه بالوضوء المذكور في الحديث، والمرتب على مجموع أمرين لا يلزم ترتبه على أحدهما إلا بدليل خارج، وقد يكون للشيء فضيلة بوجود أحد جزأيه فيصح كلام من أدخل هذا الحديث في فضل الوضوء فقط; لحصول مطلق الثواب لا الثواب المخصوص المترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور، والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور.

الخامس فيه إثبات حديث النفس وهو مذهب أهل الحق.

السادس فيه الترتيب بين المسنون والمفروض وهما المضمضة وغسل الوجه، وبعضهم رأى الترتيب في المفروض دون المسنون وهو مذهب مالك، واختلف أصحابه في الترتيب في الوضوء على ثلاثة أقوال: الوجوب والندب وهو المشهور عندهم والاستحباب، ومذهب الشافعية وجوبه، وخالفهم المزني فقال: لا يجب، واختاره ابن المنذر والبندنيجي ، وحكاه البغوي عن أكثر المشايخ، وحكاه قولا قديما وعزاه إلى صاحب التقريب ، وقال إمام الحرمين: لم ينقل أحد قط أنه صلى الله عليه وسلم نكس وضوءه فاطرد الكتاب والسنة على وجوب الترتيب، وفيه نظر لأنه لا يلزم من ذلك الوجوب.

التالي السابق


الخدمات العلمية