صفحة جزء
1881 89 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثني خالد هو ابن الحارث قال : حدثنا حميد ، عن أنس رضي الله عنه : دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم ، فأتته بتمر وسمن ، قال : أعيدوا سمنكم في سقائه ، وتمركم في وعائه ، فإني صائم ، ثم قام إلى ناحية من نواحي البيت فصلى غير المكتوبة ، فدعا لأم سليم وأهل بيتها ، فقالت أم سليم : يا رسول الله ، إن لي خويصة ، قال : هي ؟ قالت : خادمك أنس ، فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به ، قال : اللهم ارزقه مالا وولدا ، وبارك له ، فإني لمن أكثر الأنصار مالا . ح وحدثتني ابنتي أمينة : أنه دفن لصلبي مقدم حجاج البصرة بضع وعشرون ومائة .


مطابقته للترجمة ظاهرة ، ورجاله قد ذكروا ، وهم كلهم بصريون .

قوله ( هو ابن الحارث ) بيان من البخاري ؛ لأن شيخه كأنه قال : حدثنا خالد ، وأراد بالبيان رفع الإبهام لاشتراك من سمي خالدا في الرواية عن حميد ، ولكن هذا غير مطرد له ، فإنه كثيرا ما يقع له ولمشايخه مثل هذا الإبهام ، ولا يلتفت إلى بيانه ، وهذا الحديث من أفراده .

قوله ( على أم سليم ) بضم السين المهملة ، وفتح اللام ، واسمها الغميصا ، وقيل : الرميصاء ، وقال أبو داود : الرميصاء أم سليم سهلة ، ويقال : وصيلة ، ويقال : رميثة ، ويقال : أنيفة ، ويقال : مليكة ، وقال ابن التين : كان صلى الله عليه وسلم يزور أم سليم ؛ لأنها خالته من الرضاعة ، وقال أبو عمر : إحدى خالاته من [ ص: 99 ] النسب ؛ لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن أسد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار ، وأخت أم سليم أم حرام بنت ملحان بن زيد بن خالد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم ، وأنكر الحافظ الدمياطي هذا القول ، وذكر أن هذه خؤولة بعيدة لا تثبت حرمة ، ولا تمنع نكاحا قال : وفي ( الصحيح ) : أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه إلا على أم سليم ، فقيل له في ذلك قال : أرحمها ، قتل أخوها حرام معي ، فبين تخصيصها بذلك ، فلو كان ثمة علة أخرى لذكرها ؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وهذه العلة مشتركة بينها وبين أختها أم حرام ، قال : وليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها ، فلعله كان ذلك مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع ، وأيضا فإن قتل حرام كان يوم بئر معونة في صفر سنة أربع ، ونزول الحجاب سنة خمس ، فلعل دخوله عليها كان قبل ذلك ، وقال القرطبي : يمكن أن يقال : إنه صلى الله عليه وسلم كان لا تستتر منه النساء ؛ لأنه كان معصوما بخلاف غيره .

قوله ( فأتته بتمر وسمن ) أي : على سبيل الضيافة .

قوله ( في سقائه ) بكسر السين ، وهو ظرف الماء من الجلد ، والجمع أسقية ، وربما يجعل فيها السمن والعسل .

قوله ( فصلى غير المكتوبة ) يعني التطوع ، وفي رواية أحمد ، عن ابن أبي عدي ، عن حميد : فصلى ركعتين ، وصلينا معه ، وكانت هذه القصة غير القصة التي تقدمت في أبواب الصلاة التي صلى فيها على الحصير ، وأقام أنسا خلفه ، وأم سليم من ورائه .

ووقع لمسلم من طريق سليمان بن المغيرة ، عن ثابت : ثم صلى ركعتين تطوعا ، فأقام أم حرام ، وأم سليم خلفنا ، وأقامني عن يمينه ، وهذا ظاهر في تعدد القصة من وجهين : أحدهما أن القصة المتقدمة لا ذكر فيها لأم حرام ، والآخر أنه صلى الله عليه وسلم هنا لم يأكل ، وهناك أكل .

قوله ( خويصة ) تصغير الخاصة ، وهو مما اغتفر فيه التقاء الساكنين ، وفي رواية : خويصتك أنس ، فصغرته لصغر سنه يومئذ ، ومعناه هو الذي يختص بخدمتك .

قوله ( قال : ما هي ؟ ) أي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما الخويصة ؟ قالت : خادمك أنس ، وقال بعضهم : قوله ( خادمك أنس ) هو عطف بيان أو بدل ، والخبر محذوف .

قلت : توجيه الكلام ليس كذلك ، بل قوله ( خادمك ) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خادمك ؛ لأنها لما قالت : إن لي خويصة ، قال صلى الله عليه وسلم : ما هي ؟ قالت : خادمك ، يعني هذه الخويصة هو خادمك ، ومقصودها أن ولدي أنسا له خصوصية بك ؛ لأنه يخدمك ، فادع له دعوة خاصة .

وقوله ( أنس ) مرفوع ؛ لأنه عطف بيان أو بدل ، ووقع في رواية أحمد من رواية ثابت ، عن أنس : لي خويصة خويدمك أنس ، ادع الله له .

قوله ( فما ترك خير آخرة ) أي : ما ترك خيرا من خيرات الآخرة ، وتنكير آخرة يرجع إلى المضاف ، وهو الخير ، كأنه قال : ما ترك خيرا من خيور الآخرة ، ولا من خيور الدنيا إلا دعا لي به ، وقوله ( اللهم ارزقه مالا وولدا ، وبارك له ) بيان لدعائه صلى الله عليه وسلم له ، ويدل عليه رواية أحمد من رواية عبيدة بن حميد ، عن حميد : إلا دعا لي به ، فكان من قوله ( اللهم .. ) إلى آخره .

فإن قلت : المال والولد من خير الدنيا ، فأين ذكر خير الآخرة في الدعاء له ؟

قلت : الظاهر أن الراوي اختصره ، يدل عليه ما رواه ابن سعد بإسناد صحيح ، عن الجعد ، عن أنس قال : اللهم أكثر ماله وولده ، وأطل عمره ، واغفر ذنبه . ووقع في رواية مسلم ، عن الجعد ، عن أنس : فدعا لي بثلاث دعوات ، قد رأيت منها اثنتين في الدنيا ، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة . فلم يبين الثالثة ، وهي المغفرة كما بينها ابن سعد في روايته ، وقال الكرماني : أو لفظ بارك إشارة إلى خير الآخرة ، والمال والولد الصالحان من جملة خير الآخرة أيضا ؛ لأنهما يستلزمانها .

قوله ( وبارك له ) وفي رواية الكشميهني : وبارك فيه ، وإنما أفرد الضمير نظرا إلى المذكور من المال والولد ، وفي رواية أحمد ( فيهم ) نظرا إلى المعنى .

قوله ( فإني لمن أكثر الأنصار مالا ) الفاء فيها معنى التفسير ، فإنها تفسر معنى البركة في ماله ، واللام في ( لمن ) للتأكيد ، ومالا نصب على التمييز .

فإن قلت : وقع عند أحمد من رواية ابن أبي عدي أنه لا يملك ذهبا ولا فضة غير خاتمه ، وفي رواية ثابت عند أحمد قال أنس : وما أصبح رجل من الأنصار أكثر مني مالا ، قال : يا ثابت ، وما أملك صفرا ولا بيضا إلا خاتمي .

قلت : مراده أن ماله كان من غير النقدين ، وفي ( جامع الترمذي ) قال أبو العالية : كان لأنس بستان يحمل في السنة مرتين ، وكان فيه ريحان يجيء منه رائحة المسك . وفي ( الحلية ) لأبي نعيم من طريق حفصة بنت سيرين ، عن أنس قال : وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين ، وما في البلد شيء يثمر مرتين غيرها .

قوله ( وحدثتني ابنتي أمينة ) بضم الهمزة ، وفتح الميم ، وسكون الياء آخر الحروف ، وفتح النون ، وهو تصغير آمنة . وفيه رواية الأب عن بنته ؛ لأن أنسا روى هذا عن بنته أمينة ، وهو من قبيل رواية [ ص: 100 ] الآباء عن الأبناء .

قوله ( إنه دفن لصلبي ) أي : من ولده دون أسباطه وأحفاده .

قوله ( مقدم الحجاج ) هو ابن يوسف الثقفي ، وكان قدومه البصرة سنة خمس وسبعين ، وعمر أنس حينئذ نيف وثمانون سنة ، وقد عاش أنس بعد ذلك إلى سنة ثلاث ، ويقال : اثنتين ، ويقال : إحدى وتسعين ، وقد قارب المائة .

فإن قلت : البصرة منصوبة بماذا ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها لفظ مقدم ؛ لأنه اسم زمان وهو لا يعمل ، كذا قاله الكرماني .

قلت : فيه مقدر تقديره زمان قدومه البصرة ، والمقدم هنا مصدر ميمي ، فالكرماني لما رآه على وزن اسم الفاعل ظن أنه اسم زمان ، فلذلك تكلف في السؤال والجواب ، وأما لفظ مقدم فإنه منصوب بنزع الخافض ، تقديره : إلى مقدم الحجاج ، أي : إلى قدومه ، أي : إلى وقت قدومه . حاصله : أن من مات من أول أولاده إلى وقت قدوم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة ، وفي رواية ابن أبي عدي : نيفا على عشرين ومائة ، وفي رواية البيهقي من رواية الأنصاري ، عن حميد : تسع وعشرون ومائة ، وعند الخطيب في رواية الآباء عن الأولاد من هذا الوجه : ثلاث وعشرون ومائة ، وفي رواية حفصة بنت سيرين : ولقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي خمسة وعشرين ومائة ، وفي ( الحلية ) أيضا من طريق عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس قال : دفنت مائة لا سقطا ، ولا ولد ولد . ولأجل هذا الاختلاف جاء في رواية البخاري : بضع وعشرون ومائة ، فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، وقال ابن الأثير : البضع في العدد بالكسر ، وقد يفتح ما بين الثلاث إلى التسع ، وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة ؛ لأنه قطعة من العدد ، وقال الجوهري : تقول بضع سنين ، وبضعة عشر رجلا ، فإذا جاوزت لفظ العشر لا تقول بضع وعشرون .

قلت : الذي جاء في الحديث يرد عليه ، وهو سهو منه ، وكيف لا وأنس من فصحاء العرب ، وأما الذين بقوا ففي رواية إسحاق بن أبي طلحة ، عن أنس : وأن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة . رواه مسلم .

ذكر ما يستفاد منه :

فيه حجة لمالك والكوفيين ، منهم أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : أن الصائم المتطوع لا ينبغي له أن يفطر بغير عذر ولا سبب يوجب الإفطار .

فإن قلت : هذا يعارض حديث أبي الدرداء حين زاره سلمان رضي الله تعالى عنه ، وقد تقدم .

قلت : لا معارضة بينهما ؛ لأن سلمان امتنع أن يأكل إن لم يأكل أبو الدرداء معه ، وهذه علة للفطر ؛ لأن للضيف حقا كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الصائم إذا دعي إلى طعام فليدع لأهله بالبركة ، ويؤنسهم بذلك ؛ لأن فيه جبر خاطر المزور إذا لم يؤكل عنده .

وفيه جواز التصغير على معنى التعطف له ، والترحم عليه ، والمودة له بخلاف ما إذا كان للتحقير ، فإنه لا يجوز . وفيه جواز رد الهدية إذا لم يشق ذلك على المهدي ، وإن أخذ من ردت عليه ليس من العود في الهبة . وفيه حفظ الطعام ، وترك التفريط . وفيه التلطف بقولها : خادمك أنس . وفيه جواز الدعاء بكثرة الولد والمال . وفيه التاريخ بولاية الأمراء لقوله : مقدم الحجاج ، وقد بينا وقت قدومه . وفيه مشروعية الدعاء عقيب الصلاة . وفيه تقديم الصلاة أمام طلب الحاجة . وفيه زيارة الإمام بعض رعيته . وفيه دخول بيت الرجل في غيبته ؛ لأنه لم يقل في طرق هذه القصة : إن أبا طلحة كان حاضرا .

قلت : ينبغي أن يكون هذا بالتفصيل ، وهو أنه إذا علم أن الرجل لا يصعب عليه ذلك جاز ، وإلا لم يجز ، وليس أحد من الناس مثل سيد الأولين والآخرين . وفيه التحديث بنعم الله تعالى ، والإخبار عنها عند الإنسان ، والإعلام بمواهبه ، وأن لا يجحد نعمه ، وبذلك أمر الله في كتابه الكريم حيث قال : وأما بنعمة ربك فحدث وفيه بيان معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه لأنس ببركة المال وكثرة الولد مع كون بستانه صار يثمر مرتين في السنة دون غيره . وفيه كرامة أنس رضي الله تعالى عنه . وفيه إيثار الولد على النفس ، وحسن التلطف في السؤال . وفيه أن كثرة الموت في الأولاد لا تنافي إجابة الدعاء بطلب كثرتهم . وفيه التأريخ بالأمر الشهير .

التالي السابق


الخدمات العلمية