صفحة جزء
1883 92 - حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير ، عن محمد بن عباد قال : سألت جابرا رضي الله عنه : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة ؟ قال : نعم زاد غير أبي عاصم : أن ينفرد بصوم .


مطابقته للترجمة من حيث إن صوم يوم الجمعة منفردا مكروه ؛ لأنه منهي عنه ، والترجمة تتضمن معنى الحديث .

ذكر رجاله ، وهم خمسة :

الأول : أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد .

الثاني : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج .

الثالث : عبد الحميد بن جبير مصغر الجبر ابن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة عبد الله الحجبي .

الرابع : محمد بن عباد بفتح العين وتشديد الباء الموحدة المخزومي .

الخامس : جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه .

ذكر لطائف إسناده :

فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد . وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع . وفيه السؤال . وفيه القول في موضع واحد . وفيه أن رواة ما خلا شيخه مكيون . وفيه عبد الحميد ، وهو تابعي صغير روى عن عمته صفية بنت شيبة ، قال بعضهم : هي من صغار الصحابة .

قلت : قال ابن الأثير : اختلف في صحبتها ، وقال الدارقطني : لا تصح لها رؤية . وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي . وفيه أن عبد الحميد ليس له في البخاري إلا ثلاثة أحاديث : هذا ، وآخر في بدء الخلق ، وآخر في الأدب . وفيه رواية ابن جريج ، عن عبد الحميد ، وفي رواية عبد الرزاق ، عن ابن جريج : أخبرني عبد الحميد ، وابن جريج ربما رواه عن محمد بن عباد نفسه ، ولم يذكر عبد الحميد ، كذلك أخرجه النسائي قال : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا ابن جريج قال : أخبرني محمد بن عباد بن جعفر قال : قلت لجابر : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم ؟ قال : إي ورب الكعبة .

وروى النسائي أيضا ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير ، عن محمد بن عباد .

ذكر من أخرجه غيره :

أخرجه مسلم أيضا في الصوم ، عن عمرو الناقد ، وعن محمد بن رافع ، وأخرجه النسائي فيه ، عن قتيبة ، وعن يوسف بن سعيد ، وعن عمرو بن علي ، وعن سليمان بن سالم ، وعن أحمد بن عثمان ، وأخرجه ابن ماجه فيه ، عن هشام بن عمار .

ذكر معناه :

قوله ( سألت جابرا ) وفي رواية مسلم : سألت جابر بن عبد الله ، وهو يطوف بالبيت : أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة ؟ فقال : نعم ، ورب الكعبة .

قوله ( زاد غير أبي عاصم ) أي : قال البخاري : زاد غيره من الشيوخ [ ص: 104 ] لفظ ( أن ينفرد بصومه ) أي : بصوم يوم الجمعة ، وفي رواية الكشميهني : ( أن ينفرد بصوم ) ، وغير أبي عاصم هو يحيى بن سعيد القطان ، وقال النسائي : حدثنا عمرو بن علي ، عن يحيى ، عن ابن جريج ، أخبرني محمد بن عباد بن جعفر قال : قلت لجابر : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم ؟ قال : إي ورب الكعبة .

وروى النسائي أيضا من طريق النضر بن شميل ، ولفظه أن جابرا سئل عن صوم يوم الجمعة ، فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرد .

وروى أيضا من طريق حفص بن غياث ، ولفظه : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة منفردا .

وروى النسائي أيضا من حديث سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية بنت الحارث يوم الجمعة ، وهي صائمة ، فقال لها : أصمت أمس ؟ قالت : لا ، قال : أتريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا ، قال : فأفطري .

وروى النسائي أيضا من حديث محمد بن سيرين ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا الدرداء لا تخص يوم الجمعة بصيام دون الأيام ، ولا تخص ليلة الجمعة بقيام دون الليالي . وابن سيرين لم يسمع من أبي الدرداء ، وقد اختلف فيه على ابن سيرين ، فقيل : هكذا ، وقيل : عن هشام، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة .

وروى أحمد عن ابن عباس بلفظ : لا تصوموا يوم الجمعة ، وفي إسناده الحسين بن عبد الله بن عبيد الله ، وثقه ابن معين ، وضعفه الجمهور .

وروى الطبراني في ( الكبير ) من حديث بشير بن الخصاصية بلفظ : لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها . ورجاله ثقات .

وروى الطبراني أيضا من رواية صالح بن جبلة ، عن أنس ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من صام الأربعاء والخميس والجمعة بنى الله له في الجنة قصرا من لؤلؤ وياقوت وزبرجد ، وكتب له براءة من النار . وصالح بن جبلة ضعفه الأزدي ، ففي هذا صوم يوم الجمعة مع يوم قبله .

وروى البزار من حديث عامر بن لدين بلفظ : إن يوم الجمعة فلا تصوموه إلا أن تصوموا يوما قبله أو بعده .

وروى النسائي من رواية حذيفة البارقي ، عن جنادة الأزدي : أنهم دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية نفر ، وهو ثامنهم ، فقرب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما يوم جمعة قال : كلوا ، قالوا : صيام ، قال : صمتم أمس ؟ قالوا : لا ، قال : فصائمون غدا ؟ قالوا : لا ، قال : فأفطروا .

فإن قلت : يعارض هذه الأحاديث ما رواه الترمذي من حديث عاصم ، عن زر ، عن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل غرة شهر ثلاثة أيام ، وقلما كان يفطر يوم الجمعة . وقال : حديث حسن غريب ، ورواه النسائي أيضا ، وما رواه ابن أبي شيبة ، حدثنا حفص ، حدثنا ليث ، عن عمير بن أبي عمير ، عن ابن عمر قال : ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مفطرا يوم جمعة قط . وما أخرجه أيضا عن حفص ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : ما رأيته مفطرا يوم جمعة قط .

قلت : لا نسلم هذه المعارضة ؛ لأنه لا دلالة فيها على أنه صلى الله عليه وسلم صام يوم الجمعة وحده ، فنهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة في هذه الأحاديث يدل على أن صومه يوم الجمعة لم يكن في يوم الجمعة وحده ، بل إنما كان بيوم قبله أو بيوم بعده ، وذلك لأنه لا يجوز أن يحمل فعله على مخالفة أمره إلا بنص صريح صحيح ، فحينئذ يكون نسخا أو تخصيصا ، وكل واحد منهما منتف .

وأما حكم المسألة فاختلفوا في صوم يوم الجمعة على خمسة أقوال :

أحدها : كراهته مطلقا ، وهو قول النخعي ، والشعبي ، والزهري ، ومجاهد ، وقد روي ذلك عن علي رضي الله تعالى عنه ، وقد حكى أبو عمر عن أحمد وإسحاق كراهته مطلقا ، ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه ، عن علي ، وأبي هريرة وسلمان ، وأبي ذر رضي الله تعالى عنهم ، وشبهوه بيوم العيد ، ففي الحديث الصحيح : أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن هذا يوم جعله الله عيدا .

وروى النسائي من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا صيام يوم عيد .

القول الثاني : إباحته مطلقا من غير كراهة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، ومحمد بن المنكدر ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وقال مالك : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ، ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة ، قال : وصيامه حسن .

القول الثالث : أنه يكره إفراده بالصوم ، فإن صام يوما قبله أو بعده لم يكره ، وهو قول أبي هريرة ، ومحمد بن سيرين ، وطاوس ، وأبي يوسف ، وفي كتاب الطراز : واختاره ابن المنذر ، واختلف عن الشافعي ، فحكى المزني عنه جوازه ، وحكى أبو حامد في تعليقه عنه كراهته ، وكذا حكاه ابن الصباغ عن تعليق أبي حامد ، وهذا هو الصحيح الذي يدل عليه حديث أبي هريرة ، وبه جزم الرافعي ، والنووي في الروضة ، وقال [ ص: 105 ] في شرح مسلم : إنه قال به جمهور أصحاب الشافعي ، وممن صححه من المالكية ابن العربي ، فقال : وبكراهته يقول الشافعي ، وهو الصحيح .

القول الرابع : ما حكاه القاضي ، عن الداودي أن النهي إنما هو عن تحريه واقتصاصه دون غيره ، فإنه متى صام مع صومه يوما غيره فقد خرج عن النهي ؛ لأن ذلك اليوم قبله أو بعده ، إذ لم يقل اليوم الذي يليه ، قال القاضي عياض : وقد يرجح ما قاله قوله في الحديث الآخر : لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، ولا ليلته بقيام من بين الليالي .

قلت : وهذا ضعيف جدا ، ويرده حديث جويرية في صحيح البخاري ، وقوله لها : أصمت أمس ؟ قالت : لا ، قال : تصومين غدا ؟ قالت : لا ، قال : فأفطري ، فهو صريح في أن المراد بما قبله يوم الخميس ، وبما بعده يوم السبت .

القول الخامس : أنه يحرم صوم يوم الجمعة إلا لمن صام يوما قبله أو يوما بعده أو وافق عادته بأن كان يصوم يوما ويفطر يوما ، فوافق يوم الجمعة صيامه ، وهو قول ابن حزم لظواهر الأحاديث الواردة في النهي عن تخصيصه بالصوم ، وقال بعضهم : واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، وقلما كان يفطر يوم الجمعة . قال : وليس فيه حجة ؛ لأنه يحتمل أن يريد : كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها .

قلت : هذا الحديث رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن ، ورواه النسائي أيضا ، وصححه ابن حبان ، وابن عبد البر ، وابن حزم ، والعجب من هذا القائل يترك ما يدل عليه ظاهر الحديث ، ويدفع حجيته بالاحتمال الناشئ عن غير دليل ، الذي لا يعتبر ولا يعمل به ، وهذا كله عسف ومكابرة .

ثم اعلم أنهم اختلفوا أيضا في الحكمة في النهي عن صوم يوم الجمعة مفردا على أقوال :

الأول : ما قاله النووي عن العلماء : أنه يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل ، والتبكير إلى الصلاة ، وانتظارها ، واستماع الخطبة ، وإكثار الذكر بعدها لقوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وغير ذلك من العبادات في يومها ، فاستحب الفطر فيه ليكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها ، والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة . قال : وهو نظير الحاج يوم عرفة ، فإن السنة له الفطر ، ثم قال النووي : فإن قيل : لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى ، ثم أجاب عن ذلك : بأنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه . انتهى .

قلت : فيه نظر إذ جبر ما فاته من أعمال يوم الجمعة بصوم يوم آخر لا تختص بكون الصوم قبله بيوم أو بعده بيوم ، بل صوم يوم الاثنين أفضل من صوم يوم السبت .

الثاني : هو كونه يوم عيد ، والعيد لا صيام فيه ، واعترض على هذا بالإذن بصيامه مع غيره ، ورد بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة ، ألا ترى أنه لا يجوز صومه مع يوم قبله ويوم بعده .

الثالث : لأجل خوف المبالغة في تعظيمه ، فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت ، واعترض عليه بثبوت تعظيمه بغير الصيام ، وأيضا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام ، فلو كان الملحوظ موافقتهم لتحتم صومه ؛ لأنهم لا يصومون .

وروى النسائي من حديث أم سلمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين والخميس ، وكان يقول : إنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم . وأخرجه ابن حبان ، وصححه .

الرابع : خوف اعتقاد وجوبه ، واعترض عليه بصوم الاثنين والخميس .

الخامس : خشية أن يفرض عليهم كما خشي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قيام الليل ، قيل : هو منتقض بإجازة صومه مع غيره ، ولأنه لو كان ذلك لجاز بعده صلى الله عليه وسلم لارتفاع السبب .

السادس : مخالفة النصارى ؛ لأنه لا يجب عليهم صومه ، ونحن مأمورون بمخالفتهم ، نقله القمولي ، قال بعضهم : وهو ضعيف ، ولم يبين وجهه .

قيل : أقوى الأقوال وأولاها بالصواب ما ورد فيه صريحا حديثان : أحدهما ما رواه الحاكم وغيره من طريق عامر بن لدين ، عن أبي هريرة مرفوعا : يوم الجمعة يوم عيد ، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده ، والثاني : ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن ، عن علي رضي الله تعالى عنه قال : من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ، ولا يصم يوم الجمعة ، فإنه يوم طعام وشراب وذكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية