صفحة جزء
185 ( وقال أبو موسى : دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء ، فغسل يديه ووجهه فيه ، ومج فيه ، ثم قال لهما : اشربا منه ، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما ) .


قال الإسماعيلي : ليس هذا من الوضوء في شيء ، وإنما هو مثل من استشفى بالغسل له ، فغسل .

قلت : أراد بهذا الكلام أنه لا مطابقة له للترجمة ، ولكن فيه مطابقة من حيث إنه عليه الصلاة والسلام لما غسل يديه ووجهه في القدح صار الماء مستعملا ، ولكنه طاهر إذ لو لم يكن طاهرا لما أمر بشربه وإفراغه على الوجه والنحر ، وهذا الماء طاهر وطهور أيضا بلا خلاف ، ولكنه إذا وقع مثل هذا من غير النبي عليه الصلاة والسلام يكون الماء على حاله طاهرا ، ولكن لا يكون مطهرا على ما عرف .

بيان ما فيه من الأشياء :

الأول : أن أبا موسى هو الأشعري ، واسمه عبد الله بن قيس ، تقدم في باب أي الإسلام أفضل .

الثاني : أن هذا تعليق ، وهو طرف من حديث مطول أخرجه البخاري في المغازي ، وأوله : عن أبي موسى قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ، ومعه بلال رضي الله عنه ، فأتاه أعرابي ، قال : ألا تنجز لي ما وعدتني ، قال : أبشر . . الحديث . وفيه : دعا بقدح فيه ماء ، فغسل يديه . . الحديث . وأخرج أيضا قطعة منه في باب الغسل والوضوء في المخضب ، وأخرجه مسلم أيضا في فضائل النبي عليه الصلاة والسلام .

الثالث : القدح بفتحتين هو الذي يؤكل فيه . قاله ابن الأثير .

قلت : القدح في استعمال الناس اليوم الذي يشرب فيه .

قوله ( ومج فيه ) أي صب ما تناوله من الماء بفيه في الإناء .

وقال ابن الأثير : مج لعابه إذا قذفه ، وقيل : لا يكون مجا حتى يباعد به .

قوله ( قال لهما ) أي لأبي موسى وبلال رضي الله تعالى عنهما ، وكان بلال مع أبي موسى حاضرا عند النبي عليه الصلاة والسلام .

قوله ( وأفرغا ) من الإفراغ .

قوله ( ونحوركما ) بالنون جمع نحر ، وهو الصدر .

الرابع : فيه الدلالة على طهارة الماء المستعمل على الوجه الذي ذكرناه ، وفيه جواز مج الريق في الماء . قاله الكرماني .

قلت : هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم ; لأن لعابه أطيب من المسك ، ومن غيره يستقذر ، ولهذا كرهه العلماء ، والنبي عليه الصلاة والسلام مقامه أعظم ، وكانوا يتدافعون على نخامته ، ويدلكون بها وجوههم لبركتها وطيبها ، وخلوفه ما كان يشابه خلوف غيره ، وذلك لمناجاته الملائكة ، فطيب الله نكهته وخلوف فمه وجميع رائحته .

وقال ابن بطال : فيه دليل على أن لعاب البشر ليس بنجس ، ولا بقية شربه ، وذلك يدل على أن نهيه عليه الصلاة والسلام عن النفخ في الطعام والشراب ليس على سبيل أن ما تطاير فيه من اللعاب نجس ، وإنما هو خشية أن يتقذره الآكل منه ، فأمر بالتأدب في ذلك .

وقال أيضا : وحديث أبي موسى يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالشرب من الذي مج فيه ، والإفراغ على الوجوه والنحور من أجل مرض أو شيء أصابهما .

قال الكرماني : لم يكن ذلك من أجل ما ذكره ، بل كان لمجرد التيمن [ ص: 76 ] والتبرك به ، وهذا هو الظاهر .

قلت : فعلى هذا لا تطابق بينه وبين ترجمة الباب ، والعجب من ابن بطال حيث يقول بالاحتمال في الذي يدل على هذا الحديث على التبرك والتيمن ظاهرا ، ويقول بالجزم في الذي يحتمل غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية