صفحة جزء
190 ( وتوضأ عمر بالحميم من بيت نصرانية ) .


هذا الأثر المعلق ليس له مطابقة للترجمة أصلا ، وهذا ظاهر كما ترى .

وقال بعضهم : ومناسبته للترجمة من جهة الغالب أن أهل الرجل تبع له فيما يفعل ، فأشار البخاري إلى الرد على من منع المرأة أن تتطهر بفضل الرجل ; لأن الظاهر أن امرأة عمر رضي الله عنه كانت تغتسل بفضله أو معه ، فناسب قوله ( وضوء الرجل مع امرأته من إناء واحد ) .

قلت : من له ذوق أو إدراك يقول هذا الكلام البعيد ، فمراده من قوله - أن أهل الرجل تبع له فيما يفعل في كل الأشياء أو في بعضها ، فإن كان الأول فلا نسلم ذلك ، وإن كان الثاني فيجب التعيين ، وقوله ( لأن الظاهر . . ) إلى آخره ، أي ظاهر دل على هذا ؟ وهل هذا إلا حدس وتخمين .

وقال الكرماني : فإن قلت : ما وجه مناسبته للترجمة ؟ قلت : غرض البخاري في هذا الكتاب ليس منحصرا [ ص: 83 ] في ذكر متون الأحاديث ، بل يريد الإفادة أعم من ذلك ، ولهذا يذكر آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وفتاوى السلف ، وأقوال العلماء ، ومعاني اللغات ، وغيرها ، فقصد ها هنا بيان التوضؤ بالماء الذي مسته النار ، وتسخن بها بلا كراهة ، دفعا لما قال مجاهد .

قلت : هذا أعجب من الأول وأغرب ، وكيف يطابق هذا الكلام ، وقد وضع أبوابا مترجمة ، ولا بد من رعاية تطابق بين تلك الأبواب وبين الآثار التي يذكرها فيها ، وإلا يعد من التخابيط . وكونه يذكر فتاوى السلف ، وأقوال العلماء ، ومعاني اللغات - لا يدل على ترك المناسبات ، والمطابقات . وهذه الأشياء أيضا إذا ذكرت بلا مناسبة يكون الترتيب مخبطا ، فلو ذكر شخص مسألة في الطلاق مثلا في كتاب الطهارة أو مسألة من كتاب الطهارة في كتاب العتاق مثلا نسب إليه التخبيط ، ثم هذا الأثر الأول وصله سعيد بن منصور ، وعبد الرزاق ، وغيرهما بإسناد صحيح ، بلفظ : إن عمر رضي الله عنه كان يتوضأ بالحميم ، ثم يغتسل منه . ورواه ابن أبي شيبة ، والدارقطني بلفظ : كان يسخن له ماء في حميم ، ثم يغتسل منه . قال الدارقطني : إسناده صحيح .

قوله ( بالحميم ) بفتح الحاء المهملة ، وهو الماء المسخن . وقال ابن بطال : قال الطبري : هو الماء السخين ، فعيل بمعنى مفعول ، ومنه سمي الحمام حماما لإسخانه من دخله ، والمحموم محموما لسخونة جسده .

وقال ابن المنذر : أجمع أهل الحجاز وأهل العراق جميعا على الوضوء بالماء السخن غير مجاهد ، فإنه كرهه . رواه عنه ليث بن أبي سليم ، وذكر الرافعي في كتابه : أن الصحابة تطهروا بالماء المسخن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينكر عليهم هذا الخبر .

وقال المحب الطبري : لم أره في غير الرافعي .

قلت : قد وقع ذلك لبعض الصحابة فيما رواه الطبراني في ( الكبير ) والحسن بن سفيان في ( مسنده ) وأبو نعيم في ( المعرفة ) ، والمشهور من طريق الأسلع بن شريك ، قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد ، فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلا من الأنصار يرحلها ، ووضعت أحجارا ، فأسخنت بها ماء ، فاغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . . إلى غفورا وفي سنده الهيثم بن زريق الراوي له ، عن أبيه ، عن الأسلع مجهولان ، والعلاء بن الفضل راويه عن الهيثم ، وفيه ضعف ، وقد قيل : إنه تفرد به ، وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ذكره البخاري ، ومنهم سلمة بن الأكوع : أنه كان يسخن الماء يتوضأ به ، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح .

ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إنا نتوضأ بالحميم ، وقد أغلي على النار . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن محمد بن بشر ، عن محمد بن عمرو ، حدثنا سلمة قال : قال ابن عباس : ومنهم ابن عمر رضي الله تعالى عنهما . رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع : أن ابن عمر كان يتوضأ بالحميم .

قوله ( ومن بيت نصرانية ) وهو الأثر الثاني ، وهو عطف على قوله ( بالحميم ) أي وتوضأ عمر من بيت نصرانية ، ووقع في رواية كريمة بحذف الواو من قوله ( ومن بيت ) وهذا غير صحيح ; لأنهما أثران مستقلان ، فالأول ذكرناه ، والثاني الذي علقه البخاري ، ووصله الشافعي ، وعبد الرزاق ، وغيرهما ، عن سفيان بن عيينة ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : أن عمر توضأ من ماء نصرانية في جر نصرانية ، وهذا لفظ الشافعي .

وقال الحافظ أبو بكر الحازمي : رواه خلاد بن أسلم ، عن سفيان بسنده ، فقال : " ماء نصراني " بالتذكير ، والمحفوظ ما رواه الشافعي " نصرانية " بالتأنيث .

وفي ( الأم ) للشافعي : من جرة نصرانية ، بالهاء في آخرها .

وفي ( المهذب ) لأبي إسحاق : جر نصراني . وقال : صحيح .

وذكر ابن فارس في ( حلية العلماء ) : هذا سلاخة عرقوب البعير ، يجعل وعاء للماء .

فإن قلت : ما وجه تطابق هذا الأثر للترجمة ؟ قلت : قال الكرماني : بناء على حذف واو العطف من قوله ( ومن بيت نصرانية ) ، ومعتقدا أنه أثر واحد ، لما كان هذا الأخير الذي هو مناسب لترجمة الباب من فعل عمر رضي الله عنه ، ذكر الأمر الأول أيضا ، وإن لم يكن مناسبا لها لاشتراكهما في كونهما من فعله تكثيرا للفائدة ، واختصارا في الكتاب ، ويحتمل أن يكون هذا قصة واحدة ، أي توضأ من بيت النصرانية بالماء الحميم ، ويكون المقصود ذكر استعمال سؤر المرأة النصرانية ، وذكر الحميم إنما هو لبيان الواقع ، فتكون مناسبته للترجمة ظاهرة .

قلت : هذا منه لعدم اطلاعه في كتب القوم ، فظن أنه أثر واحد ، وقد عرفت أنهما أثران مستقلان ، ثم ادعى أن الأمر الأخير مناسب للترجمة ، فهيهات أن يكون مناسبا ; لأن الباب في وضوء الرجل مع امرأته ، وفضل وضوء المرأة ، فأي واحد من هذين مناسب لهذا ، وأي واحد من هذين يدل على ذلك ، أما توضؤ عمر بالحميم فلا يدل على شيء من ذلك ظاهرا ، وأما توضؤ عمر [ ص: 84 ] من بيت نصرانية ، فهل يدل على أن وضوءه كان من فضل هذه النصرانية ، فلا يدل ولا يستلزم ذلك ، فمن ادعى ذلك فعليه البيان بالبرهان .

وقال بعضهم : الثاني مناسب لقوله ( وفضل وضوء المرأة ) لأن عمر رضي الله عنه توضأ بمائها ، وفيه دليل على جواز التطهر بفضل وضوء المرأة المسلمة ; لأنها لا تكون أسوأ حالا من النصرانية .

قلت : الترجمة فضل وضوء المرأة ، والنصرانية هل لها فضل وضوء حتى يكون التطابق بينه وبين الترجمة ، فقوله " من بيت نصرانية " لا يدل على أن الماء كان من فضل استعمال النصرانية ، ولأن الماء كان لها .

فإن قلت : في رواية الشافعي من ماء نصرانية في جر نصرانية . قلت : نعم ، ولكن لا يدل على أنه كان من فضل استعمالها ، والذي يدل عليه هذا الأثر جواز استعمال مياههم ، ولكن يكره استعمال أوانيهم وثيابهم ، سواء فيه أهل الكتاب ، وغيرهم .

وقال الشافعية : وأوانيهم المستعملة في الماء أخف كراهة ، فإن تيقن طهارة أوانيهم أو ثيابهم فلا كراهة إذا في استعمالها ، قالوا : ولا نعلم فيها خلافا ، وإذا تطهر من إناء كافر ، ولم يتيقن طهارته ، ولا نجاسته ، فإن كان من قوم لا يتدينون باستعمالها صحت طهارته قطعا ، وإن كان من قوم يتدينون باستعمالها ، فوجهان : أصحهما : الصحة ، والثاني : المنع ، وممن كان لا يرى بأسا به الأوزاعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما .

وقال ابن المنذر : ولا أعلم أحدا كرهه إلا أحمد ، وإسحاق .

قلت : وتبعهما أهل الظاهر ، واختلف قول مالك في هذا ، ففي ( المدونة ) : لا يتوضأ بسؤر النصراني ، ولا بماء أدخل يده فيه . وفي ( العتبية ) أجازه مرة ، وكرهه أخرى .

وقال الشافعي في ( الأم ) : لا بأس بالوضوء من ماء المشرك ، وبفضل وضوئه ما لم يعلم فيه نجاسة .

وقال ابن المنذر : انفرد إبراهيم النخعي بكراهة فضل المرأة إن كانت جنبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية