صفحة جزء
( قال أبو عبد الله : وقال لي إبراهيم : أخبرنا هشام قال : أخبرنا ابن جريج قال : سمعت ابن أبي مليكة يخبر عن نافع مولى ابن عمر : أن أيما نخل بيعت قد أبرت لم يذكر الثمر ، فالثمر للذي أبرها ، وكذلك العبد والحرث ، سمى له نافع هؤلاء الثلاث ) .


مطابقته للترجمة في قوله : " نخل بيعت قد أبرت " ، فإن قلت : للترجمة ثلاثة أجزاء : الأول بيع النخل المؤبرة ، والثاني بيع الأرض [ ص: 11 ] المزروعة ، والثالث الإجارة ، فأين مطابقة الحديث لهذه الأجزاء ؟ قلت : قوله : "نخل بيعت قد أبرت" مطابق للجزء الأول ، وقوله : "والحرث هو الزرع" مطابق للجزء الثاني ، فالزرع للبائع إذا باع الأرض المزروعة ، ويفهم منه أنه إذا آجر أرضه وفيها زرع فالزرع له وإن كانت الإجارة فاسدة عندنا في ظاهر الرواية ، وقال خواهر زاده : إن كان الزرع قد أدرك جازت الإجارة ويؤمر الآجر بالحصاد والتسليم ، فعلى كل حال فالزرع للمؤجر ، وهذا مطابق للجزء الثالث ، ولم أر أحدا من الشراح قد تنبه لهذا مع دعوى بعضهم الدعاوى العريضة في هذا الفن .

( ذكر رجاله ) وهم خمسة : الأول إبراهيم بن يوسف بن يزيد بن زادان الفراء ، هكذا نسبه في التلويح ، وقال بعضهم : إبراهيم بن موسى الرازي ، وقال المزي : إبراهيم بن المنذر .


إذا قالت حذام فصدقوها ................

الثاني : هشام بن يوسف أبو عبد الرحمن ، وقال المزي : هشام هذا هو ابن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص القرشي المخزومي .

الثالث : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج .

الرابع : عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة بضم الميم ، واسمه زهير بن عبد الله .

الخامس : نافع مولى ابن عمر ، رضي الله تعالى عنهما .

( ذكر لطائف إسناده ) فيه الإخبار بصيغة الجمع في موضعين ، وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه السماع ، وفيه أن إبراهيم رازي ، وأن هشاما صنعاني قاضيها ، وكان من الأبناء ، وأن ابن جريج وابن أبي مليكة مكيان ، وأن نافعا مدني ، وهذا الأثر من أفراده .

( ذكر حكمه ) أما حكمه ، أولا : فإنه ذكر هذا عن إبراهيم المذكور على سبيل المحاورة والمذاكرة ، حيث قال : قال لي إبراهيم ، ولم يقل حدثني ، وقد تقدم غير مرة أن قول البخاري عن شيوخه بهذه الصيغة يدل على أنه أخذه منهم في حالة المذاكرة .

وأما ثانيا : فإنه موقوف على نافع ; لأن ابن جريج رواه عن نافع هكذا موقوفا ، وقال أبو العباس الطرقي : الصحيح من رواية نافع ما اقتصر عليه في هذا الحديث من التأبير خاصة ، قال : وحديث العبد يعني "من ابتاع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع" يذكره عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : وقد رواه عن نافع عبد ربه بن سعيد وبكير بن الأشج ، فجمعا بين الحديثين مثل رواية سالم وعكرمة بن خالد ، فإنهما رويا الحديثين جميعا عن ابن عمر عن النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - ، وقال أبو عمر : اتفق نافع وسالم عن ابن عمر مرفوعا في قصة النخل ، واختلفا في قصة العبد : رفعها سالم ، ووقفها نافع على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وقال البيهقي : ونافع يروي حديث النخل عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - عن النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - ، وحديث العبد عن ابن عمر موقوفا .

قيل : وحديث الحرث لم يروه غير ابن جريج ، ووصل مالك والليث وغيرهما عن نافع عن ابن عمر قصة النخل دون غيرها ، واختلف على نافع وسالم في رفع ما عدا النخل ، فرواه الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا في قصة النخل والعبد معا ، وروى مالك والليث وأيوب وعبيد الله بن عمر وغيرهم عن نافع عن ابن عمر قصة النخل ، وعن ابن عمر عن عمر قصة العبد موقوفة ، كذلك أخرجه أبو داود من طريق مالك بالإسنادين معا .

( ذكر معناه ) قوله : أيما نخل كلمة أي تجيء لمعان خمسة : أحدها للشرط ، نحو : ( أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) ، وهنا كذلك تقديره : أي نخل من النخيل بيعت ، فلذلك دخلت الفاء في جوابها ، وهو قوله : فالثمر للذي أبرها ، وذكر النخل ليس بقيد ، وإنما ذكر لأجل أن سبب ورود الحديث كان في النخل وهو الظاهر ، وإما لأن الغالب في أشجارهم كان النخل ، وفي معناه كل ثمر بارز يرى في الشجر كالعنب والتفاح ، إذا بيع أصول الشجر لم تدخل هذه الثمار في بيعها ، إلا أن يشترط .

قوله : بيعت بكسر الباء على صيغة المجهول ، قوله : قد أبرت على صيغة المجهول أيضا وقعت حالا ، والجملة التي قبلها صفة ، وكذلك قوله : لم يذكر الثمر جملة حالية قيد بها لأنه إذا ذكر الثمر لأحد من المتعاقدين فهو له بمقتضى الشرط . قوله : وكذلك العبد يحتمل وجهين : أحدهما : إذا بيعت الأم الحامل ولها ولد رقيق منفصل فهو للبائع ، وإن كان جنينا لم يظهر فهو للمشتري ، والثاني : إذا بيع العبد وله مال على مذهب من يقول إنه يملك ، فإنه للبائع . وروى مسلم قال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا ليث ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من ابتاع نخلا [ ص: 12 ] قبل أن تؤبر ، فثمرتها للذي باعها ، إلا أن يشترط المبتاع ، ومن ابتاع عبدا له فماله للذي باعه ، إلا أن يشترطه المبتاع . قوله : والحرث ، أي : الزرع ، فإنه للبائع إذا باع الأرض المزروعة .

قوله : سمى له نافع ، أي : سمى لابن جريج هؤلاء الثلاثة ، أي : التمر والعبد والحرث ، وهو بتمامه موقوف على نافع .

( ذكر ما يستفاد منه ) وهو على وجوه :

الأول : أخذ بظاهر هذا وبظاهر حديث ابن عمر المرفوع الذي هو عقيب هذا كما يأتي إن شاء الله تعالى - مالك ، والشافعي ، والليث ، وأحمد ، وإسحاق ، فقالوا : من باع نخلا قد أبرت ولم يشترط ثمرته المبتاع ، فالثمرة للبائع وهي في النخل متروكة إلى الجذاذ ، وعلى البائع السقي وعلى المشتري تخليته وما يكفيه من الماء ، وكذلك إذا باع الثمرة دون الأصل ، فعلى البائع السقي ، وقال أبو حنيفة : سواء أبرت أو لم تؤبر هي للبائع وللمشتري أن يطالبه بقلعها عن النخل في الحال ، ولا يلزمه أن يصبر إلى الجذاذ ، فإن اشترط البائع في البيع ترك الثمرة إلى الجذاذ فالبيع فاسد ، وقال أبو حنيفة : تعليق الحكم بالإبار إما للتنبيه له على ما لم يؤبر أو لغير ذلك ، أو لم يقصد به نفي الحكم عما سوى الحكم المذكور .

وتلخيص مأخذ اختلافهم في الحديث أن أبا حنيفة استعمل الحديث لفظا ومعقولا ، واستعمله مالك والشافعي لفظا ودليلا ، ولكن الشافعي يستعمل دلالته من غير تخصيص ، ويستعملها مالك مخصصة ، وبيان ذلك أن أبا حنيفة جعل الثمرة للبائع في الحالين ، وكأنه رأى أن ذكر الإبار تنبيه على ما قبل الإبار ، وهذا المعنى يسمى في الأصول معقول الخطاب ، واستعمله مالك والشافعي على أن المسكوت عنه حكمه حكم المنطوق ، وهذا يسميه أهل الأصول دليل الخطاب ، وقول الثوري وأهل الظاهر وفقهاء أصحاب الحديث كقول الشافعي ، وقول الأوزاعي نحو قول أبي حنيفة ، وقال ابن أبي ليلى : سواء أبرت أو لم تؤبر الثمرة للمشتري ، اشترط أو لم يشترط ، قال أبو عمر : إنه خالف الحديث ، ورده جهلا به .

الثاني : أن المالكية استدلت به على كون الثمرة مع الإطلاق للبائع بعد الإبار ، إلا أن يشترط ، وأنها قبل الإبار للمشتري . ( قلت ) كأن مالكا يرى أن ذكر الإبار هاهنا لتعليق الحكم ليدل على أن ما عداه بخلافه .

الثالث : قال مالك : إذا لم يشترط المشتري الثمرة في شراء الأصل جاز له شراؤها بعد شراء الأصل ، وهذا مشهور قوله ، وعنه أنه لا يجوز له إفرادها بالشراء ما لم تطب ، وهو قول الشافعي .

الرابع : استدل به أشهب من المالكية على جواز اشتراط بعض الثمر ، وقال : يجوز لمن ابتاع نخلا قد أبرت أن يشترط من الثمر نصفها أو جزءا منها ، وكذلك في مال العبد ; لأن ما جاز اشتراط جميعه جاز اشتراط بعضه ، وما لم يدخل الربا في جميعه فأحرى أن لا يدخل في بعضه ، وقال ابن القاسم : لا يجوز لمبتاع النخل المؤبر أن يشترط منها جزءا ، وإنما له أن يشترط جميعها ، أو لا يشترط شيئا منها .

الخامس : استدلت به أصحابنا على أن من باع رقيقا وله مال ، أن ماله لا يدخل في البيع ويكون للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع .

السادس : استدل به على أن المؤبر يخالف في الحكم غير المؤبر ، وقالت الشافعية : لو باع نخلة بعضها مؤبر وبعضها غير مؤبر فالجميع للبائع ، فإن باع نخلتين فكذلك ، بشرط اتحاد الصفة ، فإن أفرد فلكل حكمه ، ويشترط كونهما في بستان واحد ، فإن تعدد فلكل حكمه ، ونص أحمد على أن الذي يؤبر للبائع والذي لا يؤبر للمشتري ، وجعلت المالكية الحكم للأغلب .

السابع : اختلف الشافعية فيما لو باع نخلة وبقيت ثمرتها ، ثم خرج طلع آخر من تلك النخلة ، فقال ابن أبي هريرة : هو للمشتري ، لأنه ليس للبائع إلا ما وجد دون ما لم يوجد ، وقال الجمهور : وهو للبائع لكونه من ثمرة المؤبر دون غيرها .

الثامن : روى ابن القاسم عن مالك أن من اشترى أرضا مزروعة ولم يسنبل فالزرع للبائع ، إلا أن يشترطه المشتري ، وإن وقع البيع والبذر ولم ينته فهو للمبتاع بغير شرط ، وروى ابن عبد الحكم عن مالك : إن كان الزرع لقح أكثره ، ولقاحه أن يتحبب ويسنبل حتى لو يبس حينئذ لم يكن فسادا فهو للبائع ، إلا أن يشترطه المشتري ، وإن كان لم يلقح فهو للمبتاع .

التاسع : إن وقع العقد على النخل أو على العبد خاصة ، ثم زاده شيئا يلحق الثمرة والمال ، وقال ابن القاسم : إن كان بحضرة البائع وتقديره جاز وإلا فلا ، وقال أشهب : يجوز في الثمرة ، ولا يجوز في مال العبد .

العاشر : استدل به الطحاوي على جواز بيع الثمرة على رؤوس النخل قبل بدو صلاحها ، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل فيه ثمر النخل للبائع عند عدم اشتراط المشتري ، فإذا اشترط المشتري ذلك يكون له ، ويكون المشتري مشتريا لها أيضا ، واعترض البيهقي عليه ، فقال : إنه يستدل بالشيء في غير ما ورد فيه ، حتى إذا جاء ما ورد فيه استدل بغيره عليه ، كذلك فيستدل لجواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بحديث التأبير ، ولا يعمل [ ص: 13 ] بحديث التأبير ، انتهى . ( قلت ) : ذهل البيهقي عن الدلالات الأربعة للنص ، وهي عبارة النص وإشارته ودلالته واقتضاؤه ، وبهذه يكون الاستدلال بالنصوص ، والطحاوي ما ترك العمل بالحديث ، غاية ما في الباب أنه استدل على ما ذهب إليه بإشارة النص ، والخصم استدل بعبارته ، وهما سواء في إيجاب الحكم ، ولم يوافق الخصم في العمل بعبارته ; لأن عبارته تعليق الحكم بالإبار للتنبيه على ما لم يؤبر أو لغير ذلك فافهم ، فإن فيه دقة عظيمة لا يفهمها إلا من له يد في وجوه الاستدلالات بالنصوص .

التالي السابق


الخدمات العلمية