صفحة جزء
20 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بالله وأن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم


أي: هذا باب قول النبي صلى الله عليه وسلم، والإضافة هاهنا متعينة، وقوله: أنا أعلمكم بالله مقول القول، كذا في رواية أبي ذر، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه، وفي رواية الأصيلي: أعرفكم، فعن قريب يأتي الفرق بين المعرفة والعلم.

وجه المناسبة بين البابين أن الباب الأول يبين فيه أن من الدين الفرار من الفتن، وهذا لا يكون إلا على قدر قوة دين الرجل حيث يحفظ دينه ويعتزل الناس خوفا من الفتن، وقوة الدين تدل على قوة المعرفة بالله تعالى، فكلما كان الرجل أقوى في دينه كان أقوى في معرفة ربه، ومن هذا الباب يبين أن أعرف الناس بالله تعالى هو النبي صلى الله عليه وسلم، فلا جرم، هو أقوى دينا من الكل. وبقي الكلام هاهنا في ثلاثة مواضع:

الأول: أن هذا كتاب الإيمان، فما وجه تعلق هذه الترجمة بالإيمان.

والثاني: ما مناسبة قوله: " وأن المعرفة فعل القلب بما قبله، ولا تعلق للحديث به أصلا، ولا دلالة له عليه، لا عقلا ولا وضعا.

والثالث: ما مناسبة ذكر قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم هاهنا، فلا تعلق له بالإيمان; لأنه في الإيمان، ولا تعلق له بالباب أيضا؟ قلت: أما وجه الأول فهو أن المعرفة بالله تعالى والعلم به من الإيمان، فحينئذ دخل في كتاب الإيمان، وفيه رد على الكرامية; لأنهم يقولون: إن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وزعموا أن المنافق مؤمن في الظاهر، وكافر في السريرة، فيثبت له حكم المؤمنين في الدنيا، وحكم الكافرين في الآخرة، وأشار البخاري بالرد عليهم بأن الإيمان هو أو بعضه فعل القلب بالحديث المذكور.

وأما وجه الثاني فهو أن الصحابة رضي الله عنهم لما أرادوا أن يزيدوا أعمالهم على عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: لا يتهيأ لكم ذلك لأني أعلمكم، والعلم من جملة الأفعال، بل من أشرفها; لأنه عمل القلب، فناسب قوله: وأن المعرفة فعل القلب بما قبله.

وأما وجه الثالث فهو أنه أراد أن يستدل بالآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم، ولا بد من انضمام العقيدة إليه، ولا شك أن الاعتقاد فعل القلب، فهو مناسب لقوله: وأن المعرفة فعل القلب، ولا يضر استدلاله كون مورد الآية في الأيمان بالفتح; لأن مدار العلم فيها أيضا على عمل القلب فنبه البخاري هاهنا على شيئين: أحدهما: الرد على الكرامية الذي هو متفق عليه بالوجه الذي ذكرنا.

والآخر الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه على مقتضى مذهبه; لأن قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا أعلمكم بالله " يدل ظاهرا على أن الناس متفاوتون في معرفة الله تعالى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلمهم، فإذا كان كذلك يكون الإيمان قابلا للزيادة والنقصان.

قوله: " وأن المعرفة " ، بفتح الهمزة عطفا على القول لا على المقول، وإلا لكان تكرارا; إذ المقول، وما عطف عليه حكمهما واحد، ويجوز كسر إن، ويكون كلاما مستأنفا.

قوله: " لقول الله تعالى " استدلال [ ص: 165 ] بهذه الآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم.

قوله: " بما كسبت قلوبكم " ، أي: بما عزمت عليه قلوبكم، وقصدتموه إذ كسب القلب عزمه ونيته، وفي الآية دليل لما عليه الجمهور أن أفعال القلوب إذا استقرت يؤاخذ بها، وقوله عليه السلام:" إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به " محمول على ما إذا لم يستقر، وذلك معفو عنه بلا شك; لأنه لا يمكن الانفكاك عنه بخلاف الاستقرار. فإن قلت: ما حقيقة المعرفة؟ قلت: في اللغة: المعرفة مصدر عرفته أعرفه، وكذلك العرفان، وأما في اصطلاح أهل الكلام فهي معرفة الله تعالى بلا كيف ولا تشبيه. والفرق بينها وبين العلم أن المعرفة عبارة عن الإدراك الجزئي، والعلم عن الإدراك الكلي. وبعبارة أخرى العلم إدراك المركبات، والمعرفة إدراك البسائط، وهذا مناسب لما يقوله أهل اللغة من أن العلم يتعدى إلى مفعولين، والمعرفة إلى مفعول واحد، وقال إمام الحرمين: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى، وقد استدل عليه بقوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واختلف في أول واجب على المكلف، فقيل: معرفة الله تعالى، وقيل: النظر، وقيل: القصد إلى النظر الصحيح، وقال الإمام الذي أراه أنه لا اختلاف بينهما فإن أول واجب خطابا ومقصودا المعرفة، وأول واجب اشتغالا وأداء القصد، فإن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتوصل إلى المعارف إلا بالقصد.

التالي السابق


الخدمات العلمية