صفحة جزء
2112 168 - حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : أخبرنا عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال : كنت عند ابن عباس - رضي الله عنهما - إذا أتاه رجل ، فقال : يا أبا عباس ، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي ، وإني أصنع هذه التصاوير ، فقال ابن عباس : لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سمعته يقول : من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ فيها أبدا . فربا الرجل ربوة شديدة ، واصفر وجهه ، فقال : ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر ، كل شيء ليس فيه روح .


مطابقته للترجمة في قوله : فعليك بهذا الشجر ، وكأن البخاري فهم من قوله في الحديث " إنما معيشتي من صنعة يدي" وإجابة ابن عباس بإباحة صور الشجر وشبهه - إباحة البيع وجوازه ، فترجم عليه .

( ذكر رجاله ) وهم خمسة : الأول عبد الله بن عبد الوهاب أبو محمد الحجبي . الثاني يزيد من الزيادة ابن زريع مصغر زرع ، وقد تكرر ذكره . الثالث عوف بفتح العين المهملة وسكون الواو وفي آخره فاء ابن أبي حميد الأعرابي ، يعرف به وليس بأعرابي الأصل ، يكنى أبا سهل ويقال أبو عبد الله . الرابع سعيد بن أبي الحسن أخو الحسن البصري ، واسم أبي الحسن يسار بالياء آخر الحروف والسين المهملة . الخامس عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما .

( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضع ، وفيه السماع في موضعين ، وفيه العنعنة في موضع ، وفيه القول في خمسة مواضع ، وفيه أن هؤلاء كلهم بصريون ، وفيه أن شيخه من أفراده ، وفيه أن سعيد بن أبي الحسن ليس له في البخاري موصولا سوى هذا الحديث .

( ذكر من أخرجه غيره ) أخرجه مسلم في اللباس عن نصر بن علي ، وأخرجه النسائي في الزينة عن محمد بن الحسين بن إبراهيم ، وفي الباب عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - ، أخرجه الطحاوي ، حدثنا فهد قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا [ ص: 39 ] عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المصورون يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم " ، ورواه مسلم أيضا وغيره ، وعن أبي هريرة أخرجه النسائي قال : أخبرنا عمرو بن علي ، حدثنا عفان ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من صور صورة كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " ، وأخرجه الطحاوي أيضا .

( ذكر معناه ) قوله : إذ أتاه رجل كلمة إذ للمفاجأة ، وقد ذكرنا غير مرة أن إذ وإذا يضافان إلى جملة ، فقوله : "أتاه رجل" جملة فعلية ، وقوله: فقال ابن عباس جواب إذ .

قوله : إنما معيشتي من صنعة يدي يعني ما معيشتي إلا من عمل يدي . قوله : حتى ينفخ فيها ، أي : إلى أن ينفخ في الصورة . قوله : وليس بنافخ ، أي : لا يمكن له النفخ قط فيعذب أبدا . قوله : فربا ، أي : فربا الرجل ، أي أصابه الربو ، وهو مرض يحصل للرجل يعلو نفسه ويضيق صدره ، وقال ابن قرقول : أي ذعر وامتلأ خوفا ، وعن صاحب العين : ربا الرجل أصابه نفس في جوفه ، وهو الربو والربوة والربوة وهو نهج ونفس متواتر ، وقال ابن التين : معناه انتفخ كأنه خجل من ذلك . قوله : ويحك كلمة ترحم كما أن ويلك كلمة عذاب . قوله : كل شيء بالجر بدل الكل عن البعض وهذا جائز عند بعض النحاة ، وهو قسم خامس من الإبدال كقول الشاعر :


رحم الله أعظما دفنوها بسجستان طلحة الطلحات

ويروى : نضر الله أعظما .

ويجوز أن يكون فيه مضاف محذوف ، والتقدير : عليك بمثل الشجر ، أو يكون واو العطف فيه مقدرة ، تقديره : وكل شيء ، كما في التحيات المباركات الصلوات الطيبات ، فإن معناه والصلوات وبواو العطف جاء في رواية أبي نعيم من طريق خودة عن عوف : فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه روح . وفي رواية مسلم والإسماعيلي بلفظ : فاصنع الشجر وما لا نفس له .

وقال الطيبي : هو بيان للشجر ; لأنه لما منعه عن التصوير وأرشده إلى جنس الشجر ، رأى أنه غير واف بالمقصود فأوضحه به ، ويجوز النصب على التفسير .

( ذكر ما يستفاد منه ) فيه أن تصوير ذي روح حرام ، وأن مصوره توعد بعذاب شديد ، وهو قوله : " فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها " ، وفي رواية لمسلم : " كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا فيعذبه في جهنم " ، وروى الطحاوي من حديث أبي جحيفة : لعن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - المصورين . وعن عمير ، عن أسامة بن زيد يرفعه : قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون . وقال المهلب : إنما كره هذا من أجل أن الصورة التي فيها الروح كانت تعبد في الجاهلية فكرهت كل صورة وإن كانت لا فيء لها ولا جسم ; قطعا للذريعة .

وقال القرطبي في حديث مسلم : " أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون " وهذا يقتضي أن لا يكون في النار أحد يزيد عذابه على عذاب المصورين ، وهذا يعارضه قوله تعالى : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ، وقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضلالة " ، وقوله : " أشد الناس عذابا عالم لم ينفعه الله بعلمه " وأشباه ذلك ، ووجه التوفيق أن الناس الذين أضيف إليهم "أشد" لا يراد بهم كل نوع الناس ، بل بعضهم المشاركون في ذلك المعنى المتوعد عليه بالعذاب ، ففرعون أشد المدعين للإلهية عذابا ، ومن يقتدي به في ضلالة كفر أشد ممن يقتدي به في ضلالة بدعة ، ومن صور صورا ذات أرواح أشد عذابا ممن يصور ما ليس بذي روح ، فيجوز أن يعني بالمصورين الذين يصورون الأصنام للعبادة كما كانت الجاهلية تفعل وكما يفعل النصارى ، فإن عذابهم يكون أشد ممن يصورها لا للعبادة ، انتهى .

ولقائل أن يقول : أشد الناس عذابا بالنسبة إلى هذه الأمة لا إلى غيرها من الكفار ، فإن صورها لتعبد أو لمضاهاة خلق الله تعالى فهو كافر قبيح الكفر ، فلذلك زيد في عذابه . قلت : قول القرطبي : "ومن صور صورا ذات أرواح أشد عذابا ممن يصور ما ليس بذي روح" فيه نظر لا يخفى ، وفيه إباحة تصوير ما لا روح له كالشجر ونحوه ، وهو قول جمهور الفقهاء وأهل الحديث ، فإنهم استدلوا على ذلك بقول ابن عباس : فعليك بهذا الشجر ... إلى آخره ، فإن ابن عباس استنبط قوله من قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها ، أي : الروح .

فدل هذا على أن المصور إنما يستحق هذا العذاب لكونه قد باشر تصوير حيوان مختص بالله تعالى ، وتصوير جماد ليس له في معنى ذلك ، فلا بأس به .

وذهب جماعة [ ص: 40 ] منهم الليث بن سعيد ، والحسن بن حي ، وبعض الشافعية ، إلى كراهة التصوير مطلقا ، سواء كانت على الثياب أو على الفرش والبسط ونحوها ، واحتجوا بعموم قوله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - : لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب ، رواه أبو داود من حديث علي - رضي الله تعالى عنه - ، وقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ، ولا صورة أخرجه مسلم من حديث ابن عباس عن أبي طلحة - رضي الله تعالى عنه - ، وأخرجه الطحاوي والطبراني نحوه من حديث أبي أيوب عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - ، وأخرج الطحاوي أيضا من حديث أبي سلمة عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن جبريل - عليه الصلاة والسلام - قال لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : إنا لا ندخل بيتا فيه صورة ، وأخرجه مسلم مطولا ، وأخرج الطحاوي أيضا من حديث عائشة قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مستترة بقرام ستر فيه صورة فهتكه ، ثم قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله تعالى ، وأخرجه مسلم بأتم منه ، وأخرج الطحاوي أيضا من حديث أسامة بن زيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ، وأخرجه الطبراني مطولا ، وأخرج الطحاوي أيضا من حديث أبي الزبير قال : سألت جابرا عن الصور في البيت ، وعن الرجل يفعل ذلك ، فقال : زجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك .

وخالف الآخرون هؤلاء المذكورين ، وهم النخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد في رواية ، وقالوا : إذا كانت الصور على البسط والفرش التي توطأ بالأقدام ، فلا بأس بها ، وأما إذا كانت على الثياب والستائر ونحوهما فإنها تحرم ، وقال أبو عمر : ذكر ابن القاسم قال : كان مالك يكره التماثيل في الأسرة والقباب ، وأما البسط والوسائد والثياب ، فلا بأس به وكره أن يصلي إلى قبة فيها تماثيل ، وقال الثوري : لا بأس بالصور في الوسائد ; لأنها توطأ ويجلس عليها ، وكان أبو حنيفة وأصحابه يكرهون التصاوير في البيوت بتمثال ، ولا يكرهون ذلك فيما يبسط ، ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة ، وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء .

وقال المزني عن الشافعي : وإن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح ، لم يدخل إن كانت منصوبة ، وإن كانت توطأ فلا بأس ، وإن كانت صورة الشجر . وقال قوم : إنما كره من ذلك ما له ظل ، وما لا ظل له فليس به بأس .

وقال عياض : وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره ، إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك ، وكره مالك شراء ذلك لابنته ، وادعى بعضهم أن إباحة اللعب للبنات منسوخ ، وقال القرطبي : واستثنى بعض أصحابنا من ذلك ما لا يبقى كصور الفخار والشمع وما شاكل ذلك ، وهو مطالب بدليل التخصيص ، وكانت الجاهلية تعمل أصناما من العجوة ، حتى إن بعضهم جاع فأكل صنمه ، قلت : بنو باهلة كانوا يصنعون الأصنام من العجوة فوقع فيهم الغلاء فأكلوها ، وقالوا : بنو باهلة أكلوا آلهتهم .

وحجة المخالفين لأهل المقالة الأولى حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي نمط لي فيه صورة ، فوضعته على سهوتي ، فاجتذبه فقال : لا تستروا الجدار ، قالت : فصنعته وسادتين . أخرجه الطحاوي ، وأخرجه مسلم بأتم منه ، والنمط بفتح النون والميم هو ضرب من البسط له خمل رقيق ، ويجمع على أنماط ، والسهوة بالسين المهملة بيت صغير منحدر في الأرض قليلا شبيه بالمخدع والخزانة ، وقيل : هو كالصفة تكون بين يدي البيت ، وقيل : شبيه بالرف والطاق يوضع فيه الشيء ، والوسادة المخدة .

وأجابوا عن الأحاديث التي مضت بأنا عملنا بها على عمومها ، وعملنا بحديث عائشة أيضا ، وبأمثاله التي رويت في هذا الباب فيما إذا كانت الصور مما كان يوطأ ويهان ، فإذن نحن عملنا بأحاديث الباب كلها ، بخلاف هؤلاء فإنهم عملوا ببعضها وأهملوا بعضها .

وفيه ما قاله القرطبي : يستفاد من قوله : وليس بنافخ جواز التكليف بما لا يقدر عليه ، قال : ولكن ليس مقصود الحديث التكليف ، وإنما المقصود منه تعذيب المكلف وإظهار عجزه عما تعاطاه مبالغة في توبيخه وإظهار قبح فعله .

التالي السابق


الخدمات العلمية