صفحة جزء
2121 178 - حدثنا قتيبة قال : حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة : إن الله ورسوله حرم بيع الخمر ، والميتة ، والخنزير ، والأصنام . فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة ، فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ، فقال : لا هو حرام ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك : قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ، ثم باعوه فأكلوا ثمنه .


مطابقته للترجمة ظاهرة .

ورجاله قد ذكروا غير مرة ، والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن قتيبة ، وفي التفسير عن عمرو بن خالد عن الليث ببعضه ، وأخرجه مسلم أيضا في البيوع عن قتيبة به ، وعن محمد بن المثنى ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وأخرجه أبو داود فيه عن قتيبة به ، وعن محمد بن بشار عن أبي عاصم به ، وأخرجه الترمذي والنسائي جميعا فيه عن قتيبة به ، وأخرجه ابن ماجه في التجارات عن عيسى بن حماد عن الليث به .

( ذكر معناه ) قوله : عن عطاء هذا رواية متصلة ، ولكن نبه البخاري في الرواية المعلقة التي عقيب هذه بأن يزيد بن أبي حبيب لم يسمعه من عطاء ، وإنما كتب به إليه على ما يأتي ، وقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالكتابة ، فذهب إلى صحتها أيوب السختياني ، ومنصور ، والليث بن سعد وآخرون ، واحتج بها الشيخان ، وقال ابن الصلاح : إنه الصحيح المشهور ، وقال أبو بكر بن السمعاني : إنها أقوى من الإجازة ، وتكلم فيها بعضهم ولم يرها حجة ; لأن الخطوط تشتبه ، وبه جزم الماوردي في الحاوي .

قوله : عن جابر ، وفي رواية أحمد عن حجاج بن محمد عن الليث بسنده سمعت جابر بن عبد الله بمكة . قوله : عام الفتح ، أي : فتح مكة . قوله : وهو بمكة جملة حالية فيه بيان تاريخ ذلك ، وكان ذلك في رمضان سنة ثمان من الهجرة ، قيل : يحتمل أن يكون التحريم وقع قبل ذلك ، ثم أعاده - صلى الله تعالى عليه وسلم - يسمعه من لم يكن سمعه . قوله : إن الله ورسوله حرم هكذا هو في الأصول الصحيحة حرم بإفراد الفعل ولم يقل حرما ، وهكذا في الصحيحين وسنن النسائي [ ص: 55 ] وابن ماجه ، وأما أبو داود ، فقال : إن الله حرم ليس فيه ورسوله ، وقد وقع في بعض الكتب : إن الله ورسوله حرما بالتثنية ، وهو القياس ، وهكذا رواه ابن مردويه في تفسيره من طريق الليث أيضا ، والمشهور في الرواية الأولى ، ووجهه أنه لما كان أمر الله هو أمر رسوله ، وكان النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - لا يأمر إلا بما أمر الله به ، كان كأن الأمر واحد ، وقال صاحب المفهم : كان أصله حرما ، لكن تأدب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين ; لأن هذا من نوع ما رده على الخطيب الذي قال : ومن يعصهما فقد غوى ، فقال : بئس الخطيب أنت ! قل : ومن يعص الله ورسوله . قال : وصار هذا مثل قوله تعالى : أن الله بريء من المشركين ورسوله فيمن قرأ بنصب رسوله ، غير أن الحديث فيه تقديم وتأخير ; لأنه كان حقه أن يقدم حرم على رسوله كما جاء في الآية ، وقال شيخنا : قد ثبت في الصحيح تثنية الضمير في غير حديث ، ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه - : فنادى منادي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ، وفي رواية لمسلم : فأمر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أبا طلحة فنادى : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ، وفي رواية النسائي : "إن الله - عز وجل - ورسوله ينهاكم " بالإفراد ، وروى أبو داود من حديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - ، أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان إذا تشهد قال : الحمد لله نستعينه ، وفيه : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه . قوله : فقيل يا رسول الله ، وفي رواية عبد الحميد الآتية : فقال رجل . قوله : أرأيت ، أي : أخبرني عن شحوم الميتة ، إلى قوله : الناس ، أي : أخبرني هل يحل بيعها ; لأن فيها منافع مقتضية لصحة البيع .

قوله : فقال لا أي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تبيعوها هو حرام ، أي : بيعها حرام ، هكذا فسر بعض العلماء ، منهم الشافعي ، ومنهم من قال يحرم الانتفاع بها ، فلا يجوز الانتفاع من الميتة أصلا عندهم إلا ما خص بالدليل ، كالجلد إذا دبغ ، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن ثلاثة أشياء : الأول عن طلي السفن ، والثاني عن دهن الجلود ، والثالث عن الاستصباح ، كل ذلك بشحوم الميتة ، وكان سؤالهم عن بيع ذلك ظنا منهم أن ذلك جائز لما فيه من المنافع ، كما جاز بيع الحمر الأهلية لما فيه من المنافع وإن حرم أكلها ، فظنوا أن شحوم الميتة مثل ذلك يحل بيعها وشراؤها وإن حرم أكلها ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك ليس كالذي ظنوا ، وأن بيعها حرام وثمنها حرام إذ كانت نجسة ، نظيره الدم والخمر مما يحرم بيعها وأكل ثمنها ، وأما الاستصباح ودهن السفن والجلود بها فهو بخلاف بيعها وأكل ثمنها إذا كان ما يدهن بها من ذلك يغسل بالماء غسل الشيء الذي أصابته النجاسة فيطهره الماء ، هذا قول عطاء بن أبي رباح وجماعة من العلماء .

وممن أجاز الاستصباح مما يقع فيه الفأرة علي وابن عباس وابن عمر - رضي الله تعالى عنهم - ، والإجماع قائم على أنه لا يجوز بيع الميتة والأصنام ; لأنه لا يحل الانتفاع بها ، ووضع الثمن فيها إضاعة مال ، وقد نهى الشارع عن إضاعته . قلت : على هذا التعليل إذا كسرت الأصنام وأمكن الانتفاع برضاضها جاز بيعها عند بعض الشافعية وبعض الحنفية ، وكذلك الكلام في الصلبان على هذا التفصيل ، وقال ابن المنذر : فإذا أجمعوا على تحريم بيع الميتة فبيع جيفة الكافر من أهل الحرب كذلك . وقال شيخنا : استدل بالحديث على أنه لا يجوز بيع ميتة الآدمي مطلقا ، سواء فيه المسلم والكافر ، أما المسلم فلشرفه وفضله ، حتى إنه لا يجوز الانتفاع بشيء من شعره وجلده وجميع أجزائه ، وأما الكافر فلأن نوفل بن عبد الله بن المغيرة لما اقتحم الخندق وقتل غلب المسلمون على جسده ، فأراد المشركون أن يشتروه منهم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه ، فخلى بينهم وبينه ، ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير ، قال ابن هشام : أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجسده عشرة آلاف درهم فيما بلغني عن الزهري ، وروى الترمذي من حديث ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين ، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعهم .

ومنهم من استدل بهذا الحديث على نجاسة ميتة الآدمي إذ هو محرم الأكل ، ولا ينتفع به . قلت : عموم الحديث مخصوص بقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تنجسوا موتاكم ، فإن المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا رواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس ، وقال : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه .

قال القرطبي : اختلف في جواز بيع كل محرم نجس فيه منفعة كالزبل والعذرة ، فمنع من ذلك الشافعي ومالك ، وأجازه الكوفيون والطبري .

وذهب آخرون إلى إجازة ذلك من المشتري دون البائع ، ورأوا أن المشتري أعذر من البائع ; لأنه مضطر إلى [ ص: 56 ] ذلك ، روي ذلك عن بعض الشافعية ، واستدل بالحديث أيضا من ذهب إلى نجاسة سائر أجزاء الميتة من اللحم والشعر والظفر والجلد والسن ، وهو قول الشافعي وأحمد ، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن ما لا تحله الحياة لا ينجس بالموت : كالشعر ، والظفر ، والقرن ، والحافر ، والعظم ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له مشط من عاج ، وهو عظم الفيل ، وهو غير مأكول ، فدل على طهارة عظمه وما أشبهه ، وأجيب بأن المراد بالعاج عظم السمك ، وهو الذبل . قلت : قال الجوهري : العاج من عظم الفيل ، وكذا قاله في العباب ، وفي المحكم : العاج أنياب الفيل ، ولا يسمى غير الناب عاجا ، وقال الخطابي : العاج الذبل ، وهو خطأ ، وفي العباب : الذبل ظهر السلحفاة البحرية تتخذ منها السوار والخاتم وغيرهما ، وقال جرير :


ترى العبس الحولي جونا بلوغها لها مسكا من غير عاج ولا ذبل



فهذا يدل على أن العاج غير الذبل ، وروى الدارقطني من حديث ابن عباس قال : إنما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الميتة لحمها ، فأما الجلد والشعر والصوف ، فلا بأس به ، وروى أيضا من حديث أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ، ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء ، فإن قلت : الحديثان كلاهما ضعيفان ; لأن في إسناد الأول عبد الجبار بن مسلم ، قال الدارقطني : هو ضعيف ، وفي إسناد الثاني يوسف بن أبي السفر ، قال الدارقطني : هو متروك الحديث ، قلت : ابن حبان ذكر عبد الجبار في الثقات ، وأما يوسف فإنه لا يؤثر فيه الضعف إلا بعد بيان جهته ، والجرح المبهم غير مقبول عند الحذاق من الأصوليين ، وهو كان كاتب الأوزاعي .

قوله : ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك ، أي : عند . قوله : هو حرام . قوله : قاتل الله اليهود ، أي : لعنهم . قوله : جملوه بالجيم ، أي : أذابوه من جملة الشحم أجمله جملا وإجمالا إذا أذبته واستخرجت دهنه ، وجملت أفصح من أجملت ، وهذا يدل على أن المراد بقوله هو حرام أي : البيع لا الانتفاع ، وقال الكرماني : الضمير في باعوه راجع إلى الشحوم باعتبار المذكور ، أو إلى الشحم الذي في ضمن الشحوم . قلت : الأول له وجه ، والثاني لا وجه له على ما لا يخفى .

التالي السابق


الخدمات العلمية