صفحة جزء
( باب من استأجر أجيرا فبين له الأجل ولم يبين له العمل ، لقوله : إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ، إلى قوله : والله على ما نقول وكيل ) .


أي هذا باب في بيان من استأجر أجيرا فبين له الأجل أي المدة ولم يبين له أي للأجير العمل ، يعني لم يبين أي عمل يعمله له ، وفي رواية أبي ذر : إذا استأجره ، وجواب من محذوف تقديره : وهل يصح ذلك أم لا ، وميل البخاري إلى الصحة ; فلذلك ذكر هذه الآية في معرض الاحتجاج حيث قال لقوله تعالى إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي الآية ، وجه الدلالة منه أنه لم يقع في سياق القصة المذكورة بيان العمل ، وإنما فيه أن موسى آجر نفسه من والد المرأتين ، فإن قلت : كيف يقول : لم يقع في سياق القصة بيان العمل وقد قال شعيب : إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ، قلت : قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح أن ينكحه إحدى ابنتيه من غير تمييز ، قلت : لم يكن ذلك عقد النكاح ولكن مواعدة ومواضعة أمر قد عزم عليه ، ولو كان عقدا لقال : قد أنكحتك ، ولم يقل : إني أريد أن أنكحك ، انتهى . قلت : حاصله أن شعيبا - عليه السلام - استأجر موسى ولم يبين له العمل أولا ولكنه بين له الأجل ، فدل ذلك أن الإجارة إذا بين فيها المدة ولم يبين العمل جائزة لكن هذا في موضع يكون نفس العمل معلوما بنفس العقد كاستئجار العبد لأجل الخدمة ، وأما إذا لم يكن نفس العمل معلوما بنفس العقد فلا يجوز إلا ببيان العمل ; لأن الجهالة فيه تفضي إلى المنازعة ، وقال المهلب - رحمة الله تعالى عليه - : ليس في الآية دليل على جهالة العمل في الإجارة ; لأن ذلك كان معلوما بينهم من سقي وحرث ورعي واحتطاب وما شاكل ذلك من أعمال البادية ومهنة أهلها ، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ، وقد عرفه المدة وسماها له ، انتهى ، وأجيب بأن هذا ظن أن البخاري أجاز أن يكون العمل مجهولا ، وليس كما ظن ، إنما أراد البخاري أن التنصيص على العمل باللفظ غير مشروط ، وأن المتبع المقاصد لا الألفاظ ، فيكفي دلالة الفوائد عليها .

قلت : يؤيد هذا ما رواه ابن ماجه من حديث عتبة ابن الندر قال : كنا عند رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال : " إن موسى - عليه السلام - آجر نفسه ثمان سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه " انتهى ، وليس فيه بيان العمل من قبل موسى - عليه السلام - ، وعتبة بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق وفتح الباء الموحدة ، والندر بضم النون وتشديد الدال المهملة ، وقال الذهبي : عتبة بن الندر السلمي صحابي ، يقال : هو عتبة بن عبد السلمي ، وليس بشيء ، روى عنه علي بن رباح وخالد بن معدان .

فإن قلت : كيف حكم النكاح على أعمال البدن ؟ قلت : لا يجوز عند أهل المدينة لأنه غرر وما وقع من النكاح على مثل هذا الصداق لا يؤمر به اليوم لظهور الغرر في طول المدة ، وهو خصوص لموسى - عليه السلام - عند أكثر العلماء ; لأنه قال إحدى ابنتي هاتين ولم يعينها ، وهذا لا يجوز إلا بالتعيين .

وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مالك : إذا تزوجها على أن يؤجرها نفسه سنة أو أكثر يفسخ النكاح إن لم يكن دخل بها ، فإن دخل ثبت النكاح بمهر المثل ، وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : إن كان حرا فلها مهر مثلها ، وإن كان عبدا فلها خدمة سنة ، وبه قال أحمد في رواية ، وقال محمد : يجب عليه قيمة الخدمة سنة لأنها متقومة ، وقال الشافعي : النكاح جائز على خدمته إذا كان وقتا معلوما ، ويجب عليه عين الخدمة سنة ، وكذلك الخلاف إذا تزوجها على تعليم القرآن [ ص: 86 ] ثم الكلام في تفسير الآيات الكريمة ، قوله : إني أريد أن أنكحك أي أريد أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني نفسك مدة ثماني حجج ، أي على أن تكون أجيرا لي ثماني سنين من أجرته إذا كنت له أجيرا ، كقولك : أبوته ، إذا كنت له أبا ، وثماني حجج ظرفه ، ويجوز أن يكون من آجرته كذا ، إذا أثبته إياه ، ومنه تعزية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " آجركم الله ورحمكم الله " ، وثماني حجج مفعول به أي رعية ثماني حجج ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) كيف جاز أن يمهرها إجارة نفسه في رعية الغنم ولا بد من تسليم ما هو مال ؟ ألا ترى إلى أبي حنيفة كيف منع أن يتزوج امرأة بأن يخدمها سنة ، وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة أو يسكنها داره سنة ; لأنه في الأول سلم نفسه وليس بمال ، وفي الثاني هو مسلم مالا وهو العبد أو الدار ، قلت : الأمر على مذهب أبي حنيفة كما ذكرت ، وأما الشافعي فقد جوز التزويج على الإجارة ببعض الأعمال والخدمة إذا كان المستأجر له أو المخدوم فيه أمرا معلوما ، ولعل ذلك كان جائزا في تلك الشريعة ، ويجوز أن يكون المهر شيئا آخر ، وإنما أراد أن يكون رعي غنمه هذه المدة ، وأراد أن ينكحه ابنته فذكر له المرادين وعلق الإنكاح بالرعية على معنى إني أفعل هذا إذا فعلت ذلك على وجه المفاهدة لا على وجه المعاقدة ، ويجوز أن يستأجره لرعي غنمه ثماني سنين بمبلغ معلوم ويوفيه إياه ثم ينكحه ابنته به ، ويجعل قوله : على أن تأجرني ثماني حجج عبارة عما جرى بينهما ( فإن أتممت العمل ) عشرا فمن عندك فإتمامه من عندك ، والمعنى فهو من عندك لا من عندي يعني لا ألزمك ولا أحتمه عليك ، ولكن إن فعلته فهو منك تفضيل وتبرع وإلا فلا عليك وما أريد أن أشق عليك في هذه المدة فأكلفك ما يصعب عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين في حسن العشرة والوفاء بالعهد ، وهذا شرط للأب وليس بصداق ، وقيل : صداق ، والأول أظهر لقوله : تأجرني ولم يقل تأجرها ، وإنما قال : إن شاء الله ، للاتكال على توفيقه ومعونته ، قوله : قال ذلك أي قال موسى لشعيب - عليهما السلام - ذلك مبتدأ بيني وبينك خبره ، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب ثم قال موسى - عليه السلام - أيما الأجلين أي أجل من الأجلين أطولهما الذي هو العشر وأقصرهما الذي هو ثمان قضيت أي أوفيتك إياه وفرغت من العمل فيه فلا عدوان علي أي لا سبيل علي ، والمعنى لا تعتد علي بأن تلزمني أكثر منه قوله والله على ما نقول وكيل أي على ما نقول من النكاح والأجر والإجارة ، وكيل أي حفيظ وشاهد ، ولما استعمل وكيل في موضع الشاهد عدى بعلى ، وروي عن ابن عباس مرفوعا : سأل جبريل - عليه الصلاة والسلام - " أي الأجل قضى موسى ؟ فقال : أتمهما وأكملهما " .

التالي السابق


الخدمات العلمية