صفحة جزء
2234 11 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش ، فنزل بئرا فشرب منها ، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش ، فقال : لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي ، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ، ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له ، قالوا : يا رسول الله ، وإن لنا في البهائم أجرا ؟ قال : في كل كبد رطبة أجر .


مطابقته للترجمة ظاهرة ، وسمي بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وقد مر في كتاب الصلاة ، وأبو صالح ذكوان الزيات ، ورجال هذا الإسناد مدنيون إلا شيخ البخاري .

والحديث أخرجه البخاري أيضا في المظالم عن القعنبي ، وفي الأدب عن إسماعيل وأخرجه مسلم في الحيوان عن قتيبة ، وأخرجه أبو داود في الجهاد عن القعنبي ، أربعتهم عن مالك .

( ذكر معناه ) قوله " بينا " قد ذكرنا غير مرة أن أصله بين ، فأشبعت فتحة النون فصار بينا ، ويضاف إلى جملة وهي هنا قوله " رجل يمشي " ، قوله " فاشتد عليه " الفاء فيه وقعت هنا موقع إذا تقديره بينا رجل يمشي إذا اشتد عليه العطش وهو جواب بينا ، ووقع في رواية المظالم بينما ، وكلاهما سواء في الحكم ، وفي رواية الدارقطني في الموطآت من طريق روح عن مالك يمشي بفلاة ، وله من طريق ابن وهب عن مالك يمشي بطريق مكة ، وليس في رواية مسلم هذه الفاء ، وقد ذكرنا فيما مضى أن الأفصح أن يقع جواب بينا وبينما بلا كلمة إذ وإذا ، ولكن وقوعه بهما كثير ، قوله " العطش " كذا في رواية الأكثرين وكذا في رواية في الموطإ ، ووقع في رواية المستملي العطاش وهو داء يصيب الإنسان فيشرب فلا يروى ، وقال ابن التين : والصواب العطش ، قال : وقيل : يصح على تقدير أن العطش يحدث منه داء فيكون العطاش اسما للداء كالزكام ، قوله " فإذا هو " كلمة إذا للمفاجأة ، قوله " يأكل الثرى " بالثاء المثلثة مقصور يكتب بالياء وهو التراب الندي ، قوله " يلهث " جملة وقعت حالا من الكلب ، قال ابن قرقول : لهث الكلب بفتح الهاء وكسرها إذا أخرج لسانه من العطش أو الحر ، واللهاث بضم اللام العطش ، وكذلك الطائر ، ولهث الرجل إذا أعيى ، ويقال معناه يبحث بيديه ورجليه في الأرض ، وفي المنتهى : هو ارتفاع النفس يلهث لهثا ولهاثا ، ولهث بالكسر يلهث لهثا ولهاثا مثال سمع سماعا إذا عطش ، قوله " بلغ هذا مثل الذي بلغ بي " أي بلغ هذا الكلب مثل الذي [ ص: 207 ] بنصب اللام على أنه صفة لمصدر محذوف أي بلغ هذا مبلغا مثل الذي بلغ بي ، وضبطه الحافظ الدمياطي بخطه بضم مثل ، قال بعضهم : ولا يخفى توجيهه ، قلت : كأنه لم يقف على توجيهه وهو أن يكون لفظ هذا مفعول بلغ ، وقوله مثل الذي بلغ بي فاعله فارتفاعه حينئذ على الفاعلية ، قوله " فملأ خفه " فيه محذوف قبله تقديره فنزل في البئر فملأ خفه ، وفي رواية ابن حبان : فنزع أحد خفيه ، قوله " ثم أمسكه بفيه " أي بفمه ، وإنما أمسك خفه بفمه لأنه كان يعالج بيديه ليصعد من البئر ، فدل هذا أن الصعود منها كان عسرا ، قوله " ثم رقي " بفتح الراء وكسر القاف على مثال صعد وزنا ، ومعنى يقال رقيت في السلم بالكسر إذا صعدت ، وذكره ابن التين بفتح القاف على مثال مضى ، وأنكره وقال عياض في المشارق : هي لغة طيئ يفتحون العين فيما كان من الأفعال معتل اللام والأول أفصح وأشهر ، قوله " فسقى الكلب " وفي رواية عبد الله بن دينار عن أبي صالح " حتى أرواه " من الإرواء من الري ، وقد مضت هذه الرواية في كتاب الوضوء في باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان ، فإنه أخرجه هناك عن إسحاق عن عبد الصمد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش ، فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه ، فشكر الله له حتى أدخله الجنة .

قوله " فشكر الله له " أي أثنى عليه أو قبل عمله فغفر له ، فالفاء فيه للسببية أي بسبب قبول عمله ، غفر له كما في قولك إن يسلم فهو في الجنة أي بسبب إسلامه هو في الجنة ، ويجوز أن تكون الفاء تفسيرية ، تفسير قوله " فشكر الله له " لأن غفرانه له هو نفس الشكر كما في قوله تعالى فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم على قول من فسر التوبة بالقتل ، وقال القرطبي : معنى قوله " فشكر الله له " أي أظهر ما جازاه به عند ملائكته ، وقال بعضهم : هو من عطف الخاص على العام ، قلت : لا يصح هذا هنا لأن شكر الله لهذا الرجل عبارة عن مغفرته إياه كما ذكرناه ، قوله " قالوا " أي الصحابة .

من جملتهم سراقة بن مالك بن جعشم ، روى حديثه ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم ، عن أبيه ، عن عمه سراقة بن مالك بن جعشم ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الضالة من الإبل تغشى حياضي قد لطتها لإبلي ، فهل لي من أجر إن سقيتها ؟ فقال : نعم ، في كل ذات كبد حرى أجر .

قوله " وإن لنا " هو معطوف على شيء محذوف تقديره الأمر كما ذكرت ، وإن لنا في البهائم أجرا أي في سقيها أو في الإحسان إليها ، قوله " في كل كبد " يجوز فيه ثلاثة أوجه : فتح الكاف ، وكسر الباء ، وفتح الكاف ، وسكون الباء للتخفيف كما قالوا في الفخذ فخذ وكسر الكاف وسكون الباء ، وقال أبو حاتم : الكبد يذكر ويؤنث ، ولهذا قال رطبة ، والجمع أكباد وأكبد وكبود ، وقال الداودي : يعني كبد كل حي من ذوات الأنفس ، والمراد بالرطبة رطوبة الحياة أو هو كناية عن الحياة ، قوله " أجر " مرفوع على الابتداء وخبره مقدما ، قوله " في كل كبد " تقديره أجر حاصل أو كائن في إرواء كل ذي كبد حي ، وأبعد الكرماني في سؤاله هنا حيث يقول : الكبد ليست ظرفا للأجر ، فما معنى كلمة الظرفية ؟ ثم قال : تقديره الأجر ثابت في إرواء أو في رعاية كل حي ، وجه الإبعاد أن كل من شم شيئا من علم العربية يعرف أن الجار والمجرور لا بد أن يتعلق بشيء إما ظاهرا أو مقدرا ، فإذا لم يصلح المذكور أن يتعلق به يقدر لفظ كائن أو حاصل أو نحوهما فلا حاجة إلى السؤال والجواب ، ثم قال : أو الكلمة للسببية يعني كلمة " في " للسببية كما في قوله صلى الله عليه وسلم " في النفس المؤمنة مائة إبل " أي بسبب قتل النفس المؤمنة ، ومع هذا المتعلق محذوف أي بسبب قتل النفس المؤمنة الواجب مائة إبل ، وكذلك التقدير هنا بسبب إرواء كل كبد أجر حاصل ، وقال الداودي : هذا عام في جميع الحيوانات ، وقال أبو عبد الملك : هذا الحديث كان في بني إسرائيل ، وأما الإسلام فقد أمر بقتل الكلاب فيه ، وأما قوله " في كل كبد " فمخصوص ببعض البهائم مما لا ضرر فيه لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يقوى ليزداد ضرره ، وكذا قال النووي : إن عمومه مخصوص بالحيوان المحترم ، وهو ما لم يؤمر بقتله فيحصل الثواب بسقيه ويلتحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان إليه . قلت : القلب الذي فيه الشفقة والرحمة يجنح إلى قول الداودي ، وفي القلب من قول أبي عبد الملك حزازة ، ويتوجه الرد على كلامه من وجوه :

الأول : قوله " كان في بني إسرائيل " لا دليل عليه ، فما المانع أن أحدا من هذه الأمة قد فعل هذا وكوشف للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأخبره بذلك حثا لأمته على فعل ذلك ؟ وصدور هذا الفعل من أحد من أمته يجوز أن يكون في زمنه ويجوز أن يكون بعده بأن يفعل أحد [ ص: 208 ] هذا وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أنه سيكون كذا ، وأخبره بذلك في صورة الكائن لأن الذي يخبره عن المستقبل كالواقع لأنه مخبر صادق ، وكل ما يخبره من المغيبات الآتية كائن لا محالة ، والثاني قوله " وأما الإسلام فقد أمر بقتل الكلاب " لا يقوم به دليل على مدعاه لأن أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بإباحة الانتفاع بها للصيد وللماشية والزرع ، ولا شك أن الإباحة بعد التحريم نسخ لذلك التحريم ورفع لحكمه ، والثالث دعوى الخصوص تحكم ولا دليل عليه لأن تخصيص العام بلا دليل إلغاء لحكمه الذي تناوله فلا يجوز ، والعجب من النووي أيضا أنه ادعى عموم الحديث المذكور للحيوان المحترم وهو أيضا لا دليل عليه ، وأصل الحديث مبني على إظهار الشفقة لمخلوقات الله تعالى من الحيوانات ، وإظهار الشفقة لا ينافي إباحة قتل المؤذي من الحيوانات ، ويفعل في هذا ما قاله ابن التيمي : لا يمتنع إجراؤه على عمومه ، يعني فيسقي ثم يقتل لأنا أمرنا بأن نحسن القتلة ونهينا عن المثلة ، فعلى قول مدعي الخصوص : الكافر الحربي والمرتد الذي استمر على ارتداده إذا قدما للقتل وكان العطش قد غلب عليهما ينبغي أن يأثم من يسقيهما لأنهما غير محترمين في ذلك الوقت ، ولا يميل قلب شفوق فيه رحمة إلى منع السقي عنهما يسقيان ثم يقتلان .

( ذكر ما يستفاد منه ) قال بعضهم : فيه جواز السفر منفردا وبغير زاد ، قلت : قد ورد النهي عن سفر الرجل وحده ، والحديث لا يدل على أن رجلا كان مسافرا لأنه قال : بينا رجل يمشي فيجوز أن يكون ماشيا في أطراف مدينة أو عمارة أو كان ماشيا في موضع في مدينته وكان خاليا من السكان ، فإن قلت : قد مضى في أوائل الباب أن في رواية الدارقطني يمشي بفلاة ، وفي رواية أخرى : يمشي بطريق مكة ، قلت : لا يلزم من ذلك أن يكون الرجل المذكور مسافرا ، ولئن سلمنا أنه كان مسافرا لكن يحتمل أنه كان معه قوم فانقطع منهم في الفلاة لضرورة عرضت له ، فجرى له ما جرى فلا يفهم منه جواز السفر وحده فافهم ، وأما السفر بغير زاد فإن كان في علمه أنه يحصل له الزاد في طريقه فلا بأس ، وإن كان يتحقق عدمه فلا يجوز له بغير الزاد ، وفيه الحث على الإحسان إلى الناس لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب فسقي بني آدم أعظم أجرا ، وفيه أن سقي الماء من أعظم القربات ، قال بعض التابعين : من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء فإذا غفرت ذنوب الذي سقى كلبا ، فما ظنكم بمن سقى مؤمنا موحدا وأحياه بذلك ؟ وقال ابن التين : وروي عنه مرفوعا أنه دخل على رجل في السياق ، فقال له : ماذا ترى ؟ فقال : أرى ملكين يتأخران وأسودين يدنوان ، وأرى الشر ينمى والخير يضمحل ، فأعني منك بدعوة يا نبي الله ، فقال : اللهم اشكر له اليسير واعف عنه الكثير ، ثم قال له : ماذا ترى ؟ فقال : أرى ملكين يدنوان والأسودين يتأخران ، وأرى الخير ينمى والشر يضمحل ، قال : فما وجدت أفضل عملك ؟ قال : سقي الماء . وفي حديث " سئل صلى الله عليه وسلم : أي الصدقة أفضل ؟ قال : سقي الماء " ، وفيه ما احتج به على جواز الصدقة على المشركين لعموم قوله " أجر " ، وفيه أن المجازاة على الخير والشر قد يكون يوم القيامة من جنس الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم : من قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم ، وقال بعضهم : ينبغي أن يكون محله ما إذا لم يوجد هناك مسلم ، فالمسلم أحق ، قلت : هذا قيد لا يعتبر به بل تجوز الصدقة على الكافر سواء يوجد هناك مسلم أو لا ، وقال بعضهم أيضا .

وكذا إذا دار الأمر بين البهيمة والآدمي المحترم واستويا في الحاجة فالآدمي أحق ، قلت : إنما يكون أحق فيما إذا قسم بينهما يخاف على المسلم من الهلاك أو إذا أخذ جزأ للبهيمة يخاف على المسلم ، فأما إذا لم يوجد واحد منهما ينبغي أن لا تحرم البهيمة أيضا لأنها ذات كبد رطبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية