صفحة جزء
2 - " آتي باب الجنة فأستفتح؛ فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد؛ فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك " ؛ (حم م) عن أنس ؛ (صح).


(آتي) ؛ بالمد؛ (باب الجنة) ؛ أي: أجيء؛ بعد الانصراف من الحشر للحساب؛ إلى أعظم المنافذ التي يتوصل منها إلى دار الثواب؛ وهو باب الرحمة؛ أو هو باب التوبة؛ كما في النوادر: فإن قلت: هل لتعبيره بالإتيان؛ دون المجيء؛ من [ ص: 36 ] نكتة؟ قلت: نعم؛ وهي الإشارة إلى أن مجيئه يكون بصفة من ألبس خلع الرضوان؛ فجاء على تمهل وأمان؛ من غير نصب في الإتيان؛ إذ الإتيان - كما قال الراغب - مجيء بسهولة؛ قال: والمجيء أعم؛ ففي إيثاره عليه مزية زهية.

وفي الكشاف وغيره: إن أهل الجنة لا يذهب بهم إليها إلا راكبين؛ فإذا كان هذا في آحاد المؤمنين؛ فما بالك بإمام المرسلين؟! قال الراغب : و" الباب" ؛ يقال لمدخل الشيء؛ وأصله مداخل الأمكنة؛ كباب الدار؛ والمدينة؛ ومنه يقال: " في العلم باب كذا" ؛ و" هذا العلم باب إلى كذا" ؛ أي: منه يتوصل إليه؛ ومنه خبر: " أنا مدينة العلم؛ وعلي بابها" ؛ أي: به يتوصل؛ وقد يقال: أبواب الجنة؛ وأبواب جهنم؛ للأسباب الموصلة إليها؛ انتهى.

و" الجنة" ؛ في الأصل: المرة من " الجن" ؛ مصدر " جنه" ؛ ستره؛ ومدار التركيب على ذلك؛ سمي به الشجر المظلل؛ لالتفاف أغصانه وسترها ما تحته؛ ثم البستان؛ لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة؛ ثم دار الثواب؛ لما فيها من الجنان؛ مع أن فيها ما لا يوصف من القصور؛ لأنها مناط نعيمها؛ ومعظم ملاذها؛ وقال الزمخشري : " الجنة" ؛ اسم لدار الثواب كلها؛ وهي مشتملة على جنات كثيرة؛ مرتبة مراتب؛ على حسب استحقاق العاملين؛ لكل طبقة منهم جنة منها؛ قال ابن القيم: ولها سبعة عشر اسما؛ وكثرة الأسماء آية شرف المسمى؛ أولها هذا اللفظ العام المتناول لتلك الدار؛ وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والبهجة والسرور وقرة العين؛ ثم " دار السلام" : أي: السلامة من كل بلية؛ و" دار الله" ؛ و" دار الخلد" ؛ و" دار الإقامة" ؛ و" جنة المأوى" ؛ و" جنة عدن" ؛ و" الفردوس" ؛ وهو يطلق تارة على جميع الجنان؛ وأخرى على أعلاها؛ و" جنة النعيم" ؛ و" المقام الأمين" ؛ و" مقعد صدق" ؛ و" قدم صدق" ؛ وغير ذلك مما ورد به القرآن.

(يوم القيامة) ؛ " فعالة" ؛ تقحم فيها التاء للمبالغة؛ والغلبة؛ وهي قيام مستعظم؛ و" القيام" ؛ هو الاستقلال بأعباء ثقيلة؛ ذكره الحراني ؛ (فأستفتح) ؛ السين للطلب؛ وآثر التعبير بها إيماء إلى القطع بوقوع مدخولها وتحققه؛ أي: أطلب انفراجه؛ وإزالة غلقه؛ يعني بالقرع؛ لا بالصوت؛ كما يرشد إليه خبر أحمد : " آخذ بحلقة الباب فأقرع" ؛ وخبر البخاري عن أنس : " أنا أول من يقرع باب الجنة" ؛ والفاء سببية؛ أي: يتسبب عن الإتيان الاستفتاح؛ ويحتمل جعلها للتعقيب؛ بل هو القريب؛ فإن قلت: ما وجهه؟ قلت: الإشارة إلى أنه قد أذن له من ربه بغير واسطة أحد؛ لا خازن؛ ولا غيره؛ وذلك أن من ورد باب كبير فالعادة أن يقف حتى ينتهي خبره إليه؛ ويستأمر؛ فإن أذن في إدخاله فتح له؛ فالتعقيب إشارة إلى أنه قد صانه ربه عن ذل الوقوف؛ وأذن له في الدخول قبل الوصول؛ بحيث صار الخازن مأموره؛ منتظرا لقدومه؛ (فيقول الخازن) ؛ أي: الحافظ؛ وهو المؤتمن على الشيء؛ الذي استحفظه؛ و" الخزن" : حفظ الشيء في الخزانة؛ ثم عبر به عن كل حفظ؛ ذكره الراغب ؛ سمي الموكل بحفظ الجنة " خازنا" ؛ لأنها خزانة الله (تعالى)؛ أعدها لعباده؛ و" ال" ؛ فيه عهدية؛ والمعهود " رضوان" ؛ وظاهره أن الخازن واحد؛ وهو غير مراد؛ بدليل خبر أبي هريرة : " من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة؛ كل خزنة باب: هلم" ؛ فهو صريح في تعدد الخزنة؛ إلا أن رضوان أعظمهم؛ ومقدمهم؛ وعظيم الرسل إنما يتلقاه عظيم الحفظة؛ (من أنت؟) ؛ أجاب بالاستفهام؛ وأكده بالخطاب؛ تلذذا بمناجاته؛ وإلا فأبواب الجنة شفافة؛ وهو العلم الذي لا يشتبه؛ والمتميز الذي لا يلتبس؛ وقد رآه رضوان قبل ذلك؛ وعرفه؛ ومن ثم اكتفى بقوله: (فأقول محمد) ؛ وإن كان المسمى به كثيرا؛ فإن قلت: ينافي كون أبواب الجنة شفافة خبر أبي يعلى عن أنس : " أقرع باب الجنة فيفتح لي باب من ذهب؛ وحلقه من فضة" ؛ قلت: ما في الجنة لا يشبه ما في الدنيا إلا في مجرد الاسم؛ كما في خبر يأتي؛ فلا مانع من كون ذهب الجنة شفافا؛ فتدبر.

ثم إنه لم يقل: " أنا" ؛ لإبهامه؛ مع ما فيه من الإشعار بتعظيم المرء نفسه؛ وهو سيد المتواضعين؛ وهذه الكلمة جارية على ألسنة الطغاة المتجبرين؛ إذا ذكروا مفاخرهم؛ وزهوا بأنفسهم؛ قال في المطامح: وعادة العارفين المتقين أن يذكر أحدهم اسمه بدل قوله: " أنا" ؛ إلا في نحو إقرار بحق؛ فالضمير أولى.

وقال ابن الجوزي : " أنا" ؛ لا يخلو عن نوع تكبر؛ كأنه يقول: أنا؛ لا أحتاج إلى ذكر اسمي؛ ولا نسبي؛ لسمو مقامي؛ وقال بعض المحققين: ذهب طائفة من العلماء؛ وفرقة من الصوفية؛ إلى كراهة إخبار الرجل عن نفسه بقوله: " أنا" ؛ تمسكا بظاهر الحديث؛ حتى قالوا: كلمة " أنا" ؛ لم تزل مشؤومة على أصحابها؛ وأرادوا أن إبليس اللعين إنما لعن [ ص: 37 ] بقولها؛ وليس كما أطلقوا؛ بل المنهي عنه ما صحبه النظر إلى نفسه بالخيرية؛ كما تقرر؛ ولا ننكر إصابة الصوفية في دقائق علومهم؛ وإشاراتهم؛ في التبري من الدعاوى الوجودية؛ لكنا نقول: إن الذي أشاروا إليه بهذا راجع إلى معان تتعلق بأحوالهم؛ دون ما فيه التعلق بالقول؛ كيف وقد ناقض قولهم نصوص كثيرة؛ وهم أشد الناس فرارا عن مخالفتها؛ كقوله (تعالى) - حكاية عنه - عليه الصلاة والسلام -: إنما أنا بشر مثلكم ؛ وأنا أول المسلمين ؛ وما أنا من المتكلفين ؛ وخبر: " أنا سيد ولد آدم" ؛ قال بعض العارفين: والحاصل أن ذلك يتفاوت بتفاوت المقامات والأحوال؛ فالمتردد في الأحوال؛ المتجول في الفناء والتكوين؛ ينافي حاله أن يقول: " أنا" ؛ ومن رقى إلى مقام البقاء بالله؛ وتصاعد إلى درجات التمكين؛ فلا يضره؛ انتهى.

وأما من ليس من هذه الطائفة فقد قال النووي : لا بأس بقوله: " أنا الشيخ فلان" ؛ أو " القاضي فلان" ؛ إذا لم يحصل التمييز إلا به؛ وخلا عن الخيلاء والكبر والزهو؛ و" القول" : عبارة عن جملة ما يتكلم به المتكلم على وجه الحكاية؛ ذكره جمع؛ وقال القاضي: هو التلفظ بما يفيد؛ ويقال للمعنى المتصور في النفس؛ المعبر عنه باللفظ؛ ويقال للمذهب والرأي مجازا؛ وأصله قول الزمخشري : من المجاز: " هذا قول فلان" ؛ أي: رأيه ومذهبه.

(فيقول: بك) ؛ قيل: الباء متعلقة بالفعل بعدها؛ ثم هي سببية؛ قدمت للتخصيص؛ أي: بسببك؛ (أمرت) ؛ بالبناء للمفعول؛ والفاعل هو الله؛ (ألا أفتح) ؛ كذا في نسخة المؤلف؛ بخطه؛ وهكذا ذكره في جامعه الكبير؛ والذي وقفت عليه في نسخ مسلم الصحيحة المقروءة: " لا أفتح" ؛ بإسقاط " أن" ؛ (لأحد) ؛ من الخلائق؛ (قبلك) ؛ لا بسبب آخر؛ وقيل: الباء صلة للفعل: و" ألا أفتح" ؛ بدل من الضمير المجرور؛ أي: أمرت بفتح الباب لك قبل غيرك من الأنبياء؛ وفي رواية: " ولا أقوم لأحد بعدك" ؛ وذلك لأن قيامه إليه خاصة؛ إظهارا لمرتبته؛ ومزيته؛ ولا يقوم في خدمة أحد غيره؛ بل خزنة الجنة يقومون في خدمته؛ وهو كالملك عليهم؛ وقد أقامه الله في خدمته - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى مشى إليه وفتح له؛ و" أحد" ؛ يستعمل في النفي؛ فيكون لاستغراق جنس الناطقين؛ وتناول القليل والكثير على طريق الاجتماع والافتراق؛ وعلم من السياق أن طلب الفتح إنما هو من الخازن؛ وإلا لما كان هو المجيب؛ فإن قلت: ورد عن الحسن وقتادة وغيرهما أن أبواب الجنة يرى ظاهرها من باطنها؛ وعكسه؛ وتتكلم وتعقل ما يقال لها - " انفتحي" ؛ " انغلقي" - كما نقله ابن القيم وغيره؛ فلم طلب الفتح من الخازن؛ ولم يطلبه منها بلا واسطة؟ قلت: الظاهر أنها مأمورة بعدم الاستقلال بالفتح والغلق؛ وأنها لا تستطيع ذلك إلا بأمر عريفها المالك لأمرها بإذن ربها؛ وإنما يطالب بما يراد من القوم عرفاؤهم؛ فإن قلت: ما فائدة جعل الخازن للجنات؛ مع أن الخزن إنما يكون في المتعارف حفظا لما يخاف ضياعه؛ أو تلفه؛ أو تطرق النقص إليه؛ فيفوت كله أو بعضه على صاحبه؛ والجنة لا يمكن فيها ذلك؟ قلت: إن خزن ملائكة الجنة نعيمها إنما يكون لأهلها؛ فكل منهم يجعل إليه مراعاة قسط معلوم من تلك النعم؛ لمن أعد له؛ حتى إذا وافى الجنة كان الخازن هو الممكن له منه؛ فخزنه إياه قبل التسليم هو مقامه على ملاحظة ما جعل سبيله؛ وانتظار من أهل له؛ وإيصاله إليه؛ فهذا هو المراد؛ لا حفظها من أحد يخاف منه عليها؛ ذكره الحليمي.

فإن قلت: ما ذكر من أن رضوان هو متولي الفتح؛ يعارضه خبر أبي نعيم والديلمي : " أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة؛ فيفتحها الله - عز وجل - لي" ؛ قلت: لا معارضة؛ فإن الله (تعالى) هو الفاتح الحقيقي؛ وتولي رضوان ذلك إنما هو بإقداره وتمكينه؛ ثم إن ظاهر الحديث استشكل بأن الزمخشري والقاضي ذكرا أن أبواب الجنة تفتح لأهلها قبل مجيئهم؛ بدليل: جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ؛ ووجهه الإمام الرازي بأنه يوجب السرور والفرح؛ حيث نظروا الأبواب مفتحة من بعد؛ وبأنه يوجب الخلاص من ذل الوقوف للاستفتاح؛ وأجيب أولا بخروج المصطفى ومن تبعه عن سياق الآية؛ واعترض بأنه خلاف الظاهر بلا ضرورة؛ وثانيا بأن الجملة الحالية قيد لمجيء المجموع؛ فيكون مقتضاها تحقق الفتح قبل مجيء الكل؛ فلا ينافي تأخره عن مجيء إنسان واحد؛ أو زمرة واحدة؛ ونوزع بأن فعل الجمع إذا قيد بزمن فالمفهوم المتبادر منه أنه زمن لصدور الفعل عنهم؛ فإنا إذا قلنا: " زيد وعمرو وبكر ضربوا بعد الطلوع" ؛ لم يفهم منه إلا صدور الضرب عنهم في ذلك الزمن؛ حتى لو ضرب واحد منهم قبله رمي بالكذب؛ وثالثا بأن المراد بالأبواب في الآية أبواب المنازل التي في الجنة؛ لا أبواب الجنة المحيطة بالكل؛ والمراد في الحديث باب نفس الجنة المحيطة؛ ونوقش بأن " الجنة" ؛ و" النار" ؛ حيث وقعا في القرآن معا؛ مفردين أو متقابلين؛ فالمراد منهما أصلهما؛ ورابعا بأنا لا نسلم دلالة الآية على تقدم الفتح؛ إذ لو فتح عند إتيانهم صح؛ إذ [ ص: 38 ] الجنان مفتحة لهم أبوابها؛ غايته أن المدح في الأول أبلغ؛ وبأن اسم المفعول العامل؛ إذ كان بمعنى الاستقبال؛ فعدم الدلالة ظاهر؛ إذ المعنى: ستفتح لهم؛ وكذا إن كان هو بمعنى الحال؛ مريدا به حال الدخول؛ وإن أريد به حال التكلم ففيه بعد؛ وخامسا قال بعض المحققين؛ وهو أحسنها؛ إن أبوابها تفتح أولا بعد الاستفتاح من جمع؛ ويكون مقدما بالنسبة إلى البعض؛ كما يقتضيه خبر: " إن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام" ؛ والظاهر أنها بعد الفتح للفقراء لا تغلق؛ وسادسا بأن الجنة لكونها دار الله؛ ومحل كرامته؛ ومعدن خواصه؛ إذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة؛ فيرغبون إلى مالكها أن يفتحها لهم؛ ويستشفعون إليه بأولي العزم؛ فكلهم يحجم؛ حتى تقع الدلالة على أفضلهم؛ فيأتي إلى العرش ويخر ساجدا لربه؛ فيدعه ما شاء الله أن يدعه؛ ثم يأذن له في الرفع؛ وأن يسأل حاجته؛ فيشفع في فتحها؛ فيشفعه؛ تعظيما لخطرها؛ وإظهارا لمنزلته عنده؛ ودفعا لتوهم الغبي أنها كالجنان التي يدخلها من شاء؛ ولا يعارضه مفتحة لهم الأبواب ؛ لدلالة السياق على أن المعنى أنهم إذا دخلوها لم تغلق أبوابها عليهم؛ بل تبقى مفتحة؛ إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم ودخول الملائكة عليهم من كل باب؛ بالتحف والألطاف من ربهم؛ وإلى أنها دار أمن؛ لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب؛ كما كانوا في الدنيا؛ فلا تدافع بين الآية والخبر.

ثم إن الأولية في الحديث لا تشكل بإدريس؛ حيث أدخل الجنة بعد موته؛ وهو فيها؛ كما ورد؛ لأن المراد الدخول التام يوم القيامة؛ وإدريس يحضر الموقف؛ للسؤال عن التبليغ؛ ولا بأن السبعين ألفا الداخلين بغير حساب يدخلون قبله؛ لأن دخولهم بشفاعته؛ فينسب إليه؛ واعترض بأن التعبير بسبعين ألفا فيه قصور؛ لثبوت الزيادة؛ هو القصور؛ لأن العرب تريد به المبالغة في التكثير؛ ومثله غير عزيز؛ ألا ترى إلى ما ذكره المفسرون [في]: في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ؟ ولا بخبر أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال : " بم سبقتني؟! فما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك أمامي" ؛ لأنها رؤية منام؛ ولا يقدح فيه أن رؤيا الأنبياء حق؛ إذ معناه أنها ليست من الشيطان؛ وبلال مثل له ماشيا أمامه؛ إشارة إلى أنه استوجب الدخول لسبقه للإسلام؛ وتعذيبه في الله؛ وأن ذلك صار أمرا محققا؛ وقد أشار إلى ذلك السمهودي؛ فقال - في حديث بلال " إنه يدخل الجنة قبل المصطفى" -: وإنما رآه أمامه في منامه؛ والمراد منه سريان الروح في حالة النوم في تلك الحالة؛ تنبيها على فضيلة عمله؛ وأما الجواب بأن دخوله كالحاجب له؛ إظهارا لشرفه؛ فلا يلائم السياق؛ إذ لو كان كذلك لما قال له: " بم سبقتني؟" ؛ وليت شعري؛ ما يصنع من أجاب به بخبر أبي يعلى وغيره: " أول من يفتح له باب الجنة أنا؛ إلا أن امرأة تبادرني؛ فأقول: ما لك؟ - أو من أنت؟ - فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى" ؛ وخبر البيهقي : " أول من يقرع باب الجنة عبد أدى حق الله؛ وحق مواليه" ؟ وأقول: هذه أجوبة كلها لا ظهور لها؛ ولا حاجة إليها؛ إذ ليس في هذا الخبر إلا أنه أول من يفتح له الباب؛ وليس فيه أنه أول داخل؛ بل يحتمل أنه يستفتح لهم؛ ويقدم من شاء من أمته في الدخول؛ كما هو المتعارف في الدنيا؛ فإن أبيت إلا جوابا على فرض أنه أول داخل؛ وهو ما ورد في أحاديث أخرى؛ فدونك جوابا يثلج الفؤاد؛ بعون الرؤوف الجواد؛ وهو أنه قد ثبت في خبر مسدد أن دخول المصطفى يتعدد؛ فالدخول الأول لا يتقدم؛ ولا يشاركه فيه أحد؛ ويتخلل بينه وبين ما بعده دخول غيره؛ فقد روى الحافظ ابن منده ؛ بسنده؛ عن أنس رفعه: " أنا أول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة؛ ولا فخر؛ وأعطى لواء الحمد؛ ولا فخر؛ وأنا سيد الناس يوم القيامة؛ ولا فخر؛ وأنا أول من يدخل الجنة؛ ولا فخر؛ أجيء باب الجنة فآخذ بحلقتها؛ فيقولون: من؟ فأقول: أنا محمد؛ فيفتحون لي؛ فأجد الجبار مستقبلي؛ فأسجد له؛ فيقول: ارفع رأسك؛ وقل يسمع لك؛ واشفع تشفع؛ فأرفع رأسي؛ فأقول: أمتي أمتي؛ فيقول: اذهب إلى أمتك؛ فمن وجدت في قلبه مثقال حبة من شعير من الإيمان فأدخله الجنة؛ فأقبل؛ فمن وجدت في قلبه ذلك فأدخله الجنة؛ فإذا الجبار مستقبلي؛ فأسجد له..." ؛ الحديث؛ وكرر فيه الدخول أربعا؛ وفي البخاري نحوه؛ وبه تندفع الإشكالات؛ ويستغنى عن تلك التكلفات؛ وفي أبي داود أن أبا بكر أول من يدخل من هذه الأمة؛ ولعله أول داخل من الرجال بعده؛ وإلا فقد جزم المؤلف وغيره بأن أول من يدخل بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بنته فاطمة ؛ لخبر أبي نعيم: " أنا أول من يدخل الجنة؛ ولا فخر؛ وأول من يدخل علي الجنة ابنتي فاطمة " ؛ وقد انبسط الكلام في هذا الخبر؛ وما كان لنا باختيار؛ لكن تضمن أسرارا جرنا حبها إلى إبداء بعضها؛ وبعد؛ ففي الزوايا خبايا.

(حم م)؛ في كتاب الإيمان؛ (عن أنس )؛ ابن مالك .

التالي السابق


الخدمات العلمية