صفحة جزء
435 - " إذا استيقظ أحدكم من نومه؛ فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " ؛ مالك ؛ والشافعي ؛ (حم ق 4) ؛ عن أبي هريرة ؛ (صح ح) .


(إذا استيقظ) ؛ أي: انتبه؛ وفي رواية: " إذا قام" ؛ (أحدكم) ؛ خطاب في عمومه خلف؛ والأصح عدمه؛ لكن العموم هنا بدليل آخر؛ ذكره الطيبي وغيره؛ (من نومه) ؛ فائدة ذكره " من نومه" - مع أن الاستيقاظ لا يكون إلا من نوم -؛ دفع توهم مشاركة الغشي فيه؛ وفائدة إضافة النوم إلى " أحدنا" - مع أن أحدا لا يستيقظ من نوم غيره - الإيماء إلى أن نومه مغاير لنومنا؛ إذ لا ينام قلبه؛ وفيه شمول لنوم النهار؛ وقول ابن جرير ؛ وراهويه؛ وداود: خاص بنوم الليل؛ لقوله في رواية ابن ماجه : " إذا استيقظ أحدكم من الليل" ؛ رده ابن دقيق العيد؛ بأن في ذكر السبب المترتب على النوم ما يشعر بتعميم المعنى؛ والحكم يعم بعموم علته؛ فيكون من مفهوم الموافقة؛ أي: الأولوية؛ نعم؛ قال الرافعي: الكراهة في نوم الليل أشد؛ لأن احتمال الإفضاء فيه أظهر؛ (فلا يدخل) ؛ وفي رواية: " فلا يضع" ؛ أي: ندبا؛ فلو فعل لم يتنجس الماء؛ خلافا لداود؛ والحسن البصري ؛ والطبري ؛ فعلم أن النهي للتنزيه؛ وصرفه عن التحريم التعليل بأمر يقتضي الشك؛ إذ الشك لا يقتضي وجوبا في هذا الحكم؛ استصحابا للطهارة؛ ولهذا قال بعضهم: هذا يرده القاعدة المتفق عليها؛ أن التردد لا يوجب العمل بخلاف الأصل؛ وهو الطهارة؛ (يده) ؛ مفرد؛ مضاف؛ فيعم كل يد؛ ولو زائدة؛ (في الإناء) ؛ الذي فيه ماء الوضوء؛ أو الغسل؛ وبين به أن النهي مخصوص بالآنية المعدة للطهر؛ وما فيها ماء قليل؛ بخلاف نحو بركة؛ وحوض؛ إذ لا يخاف فساد مائه بغمس اليد فيه؛ بفرض نجاستها؛ لكثرته؛ (حتى يغسلها ثلاثا) ؛ فيكره إدخالها قبل استكمال الثلاث؛ ولا تزول الكراهة بمرة؛ مع تيقن الطهر لها؛ لأن الشارع إذا غيا حكما بغاية؛ وعقبه وصفا مصدرا بالفاء؛ و" إن" ؛ أو بأحدهما؛ كان إيماء إلى ثبوت الحكم لأجله؛ فلا يخرج عن عهدته؛ إلا باستيفائها؛ فاندفع استشكاله بأنه لا كراهة عند تيقن الطهر ابتداء؛ (فإن) ؛ قال الكمال بن أبي شريف: الفاء فيه لبيان أن ما بعدها علة الحكم؛ (أحدكم لا يدري أين باتت يده) ؛ من جسده؛ أي: هل لاقت محلا طاهرا؛ أم نجسا؛ كبثرة؛ أو جرح؛ أو محل نجو؛ أو غيرها؛ والتعليل به غالبي؛ إذ لو نام نهارا؛ أو علم أن يده لم تلق نجسا؛ كأن لفها في خرقة؛ أو شك في نجاستها بلا نوم؛ ندب غسلها؛ فقد صح أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - غسل يديه قبل إدخالهما الإناء حال اليقظة؛ مع تيقن الطهر؛ فمع الشك أولى؛ لكن القائم من النوم يسن له الفعل؛ ويكره تركه؛ والمستيقظ يسن له الفعل؛ ولا يكره تركه؛ لعدم ورود النهي؛ ذكره ابن حجر؛ كغيره؛ وهو غير معتبر؛ لتصريح أئمة مذهبه بالكراهة فيها؛ وقال الولي العراقي: قال الخليل؛ في المغني: " البيتوتة" : دخولك في الليل؛ وكونك فيه بنوم؛ وغيره؛ ومن قال: " بت" ؛ بمعنى: " نمت" ؛ وقصره عليه؛ فقد أخطأ؛ واعلم أن " بات" ؛ قد يكون بمعنى " صار" ؛ كما في: ظل وجهه مسودا

وذكر غير واحد أن " بات" ؛ هنا بمعنى " صار" ؛ منهم الآمدي؛ وابن عصفور؛ والزمخشري ؛ وابن الصائغ؛ وابن برهان؛ فلا يختص بوقت؛ وقال ابن الخباز: توهم كثير دلالتها على النوم؛ يبطله قوله (تعالى): والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ؛ و" يدري" ؛ من أفعال القلوب؛ وهو معلق عن العمل فيما بعده باسم الاستفهام الذي هو " أين" ؛ وقد أشكل هذا التركيب؛ بأن انتفاء الدراية لا يمكن تعلقه بلفظ " أين باتت يده" ؛ ولا بمعناه؛ لأن معناه الاستفهام؛ ولا يقال: " إنه لا يدري الاستفهام" ؛ فقالوا: معناه: " لا يدري تعيين الموضع الذي باتت فيه يده" ؛ فيكون فيه مضاف محذوف؛ وليس استفهاما؛ وإن كان صورته صورته؛ والنهي للتنزيه؛ لا للتحريم؛ عند الجمهور؛ ومعقول؛ لا تعبدي؛ خلافا لبعض المالكية؛ والحنابلة؛ وليست الرجل كاليد؛ خلافا لابن حزم؛ لأن اليد آلة الاستعمال؛ والرجل لا تشاركها في الجولان؛ وبفرضه هي أقل جولانا؛ وليس الحكم خاصا بنوم الليل؛ كما مر؛ نعم؛ فرق أحمد بينهما بالنسبة للوجوب؛ وللندب؛ فجعله في نوم الليل واجبا؛ وفي النهار [ ص: 279 ] مندوبا؛ وهو - كما قال النووي - مذهب ضعيف؛ إذ قوله: " من نومه" ؛ اسم جنس؛ فيعم كل نوم؛ وقوله في رواية أخرى: " من الليل" ؛ من ذكر بعض أفراد العام؛ ثم قال العراقي: وإذا تقرر أن العلة احتمال النجاسة؛ فلا يختص الحكم بحال الانتباه من النوم؛ فمتى شك في طهر يده؛ كره غمسها قبل غسلها ثلاثا؛ وإن لم يكن انتبه من نوم؛ هذا مذهبنا؛ كالجمهور؛ ومن يرى الحكم تعبديا؛ لا يلحق الشك بالنوم؛ قال ابن قدامة: ولا فرق بين كون النائم متسرولا؛ أو يده في جراب؛ أو لا؛ لأن الحكم إذا علق على المظنة؛ لم يعتبر حقيقة الحكمة؛ كالعدة لبراءة الرحم؛ قال: وغمس بعض اليد؛ ولو بعض أصبع؛ أو ظفر؛ ككلها؛ لوجود العلة؛ وقوله: " فلا يدخل يده" ؛ يدل على أنه إذا غسل إحداهما أدخلها؛ وإن لم تغسل الأخرى؛ خلافا لبعض المالكية؛ ولا تجب نية عند غسلهما إلا عند من أوجبه؛ وزعم أنه تعبدي؛ وقوله: " في الإناء" ؛ محمول على إناء دون قلتين؛ كما في غالب الأواني؛ وفيه أنه يندب غسل النجاسة ثلاثا؛ لأنه إذا أمر به في المتوهمة؛ فالمحققة أولى؛ إذ المتوهمة لا يحصل الاحتياط فيها بالنضح؛ بل لا بد من الغسل؛ وأن محل الاستنجاء بالحجر لا يطهر؛ بل يعفى عنه بالنسبة للصلاة؛ وأن الماء القليل ينجس بوصول نجس إليه؛ وإن قل؛ ولم يغيره؛ لأن الذي يعلق باليد ولا يرى؛ في غاية القلة؛ وأن الغسل سبعا غير عام في جميع النجاسات؛ وهو قول الجمهور؛ خلافا لأحمد؛ والأخذ بالوثيقة العمل بالاحتياط؛ ما لم يخرج إلى الوسوسة؛ واستعمال لفظ الكناية فيما يتحاشى عن التصريح به؛ وغير ذلك؛ واستدل بهذا الحديث على التفريق بين ورود الماء على النجاسة؛ وعكسه؛ وهو جلي؛ وعلى أن النجاسة تؤثر في الماء؛ وهو صحيح؛ لكن كونها تؤثر التنجيس وإن لم يتغير؛ فيه ما فيه؛ إذ مطلق التأثير لا يدل على خصوص التأثير بالتنجيس؛ فيحتمل أن الكراهة بالمتيقن أشد منها بالمظنون؛ فلا دلالة فيه قطعية؛ ذكره ابن دقيق العيد.

(تتمة) : قال النووي في بستانه - عن محمد بن الفضل التيمي ؛ في شرحه لمسلم -: إن بعض المبتدعة لما سمع بهذا الحديث قال متهكما به: أنا أدري أين باتت يدي؛ باتت في الفراش؛ فأصبح وقد أدخل يده في دبره إلى ذراعه؛ قال ابن طاهر: فليتق امرؤ استخفافا بالسنن؛ ومواضع التوقيف؛ لئلا يسرع إليه شؤم فعله؛ قال النووي : ومن هذا المعنى ما وجد في زماننا؛ وتواترت الأخبار به؛ وثبت عند الثقات أن رجلا بقرية ببلاد بصرى؛ في سنة خمس وستين وستمائة؛ كان سيئ الاعتقاد في أهل الخير؛ وابنه يعتقدهم؛ فجاءه من عند شيخ صالح؛ ومعه سواك؛ فقال مستهزئا: أعطاك شيخك هذا السواك؛ فأخذه وأدخله في دبره؛ استحقارا له؛ فبقي مدة؛ ثم ولد ذلك الرجل الذي استدخل السواك جروا؛ قريب الشبه بالسمكة؛ فقتله؛ ثم مات الرجل حالا؛ أو بعد يومين.

( مالك ) ؛ في الموطإ؛ ( والشافعي ) ؛ في مسنده؛ (حم ق 4) ؛ كلهم في الطهارة؛ عن أبي هريرة ؛ واللفظ لمسلم؛ قال المناوي وغيره: ولم يقل البخاري : " ثلاثا" ؛ انتهى؛ وبه يعرف أن ما أوهمه صنع المؤلف من أن الكل رووا الكل؛ غير صواب؛ فكان عليه تحرير البيان؛ كما هو دأب أهل هذا الشأن.

التالي السابق


الخدمات العلمية