صفحة جزء
4325 - "ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ؛ واختلافهم على أنبيائهم؛ فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم؛ وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"؛ (حم م ن هـ)؛ عن أبي هريرة ؛ (صح) .


(ذروني) ؛ أي: اتركوني من السؤال؛ (ما تركتكم) ؛ أي: مدة تركي إياكم؛ من الأمر بالشيء؛ والنهي عنه؛ فلا تتعرضوا لي بكثرة البحث عما لا يعينكم في دينكم؛ مهما أنا تارككم؛ لا أقول لكم شيئا؛ فقد يوافق ذلك إلزاما وتشديدا؛ وخذوا بظاهر ما أمرتكم؛ ولا تستكشفوا كما فعل أهل الكتاب ؛ ولا تكثروا من الاستقصاء فيما هو مبين بوجه ظاهر؛ وإن صلح لغيره؛ لإمكان أن يكثر الجواب المرتب عليه؛ فيضاهي قصة بقرة بني إسرائيل ؛ شددوا؛ فشدد عليهم؛ فخاف وقوع ذلك بأمته؛ ومن ثم علله بقوله: (فإنما هلك من كان قبلكم) ؛ من أمم الأنبياء؛ (بكثرة سؤالهم) ؛ إياهم عما لا يعنيهم؛ (واختلافهم) ؛ بالضم؛ لأنه أبلغ في ذم الاختلاف؛ إذ لا تقييد حينئذ بكثرة السؤال؛ بخلاف ما لو جر؛ هذا ما جرى عليه بعض الشارحين؛ وقال بعضهم: "واختلاف"؛ عطف على الكثرة؛ لا على السؤال؛ لأن الاختلاف على الأنبياء حرام؛ قل أو كثر؛ وآثر "تركتكم"؛ على "وذرتكم"؛ ماضي "ذروني"؛ لأن العرب لم تستعمله إلا في الشعر؛ اغتناء عنه بـ "ترك"؛ كـ "ودع"؛ ماضي "يدع"؛ (على أنبيائهم) ؛ فإنهم استوجبوا بذلك اللعن والمسخ وغير ذلك من البلايا والمحن؛ وكثرة السؤال؛ لتفرق القلوب؛ ووهن الدين؛ ومشعر بالتعنت؛ وأكثره مما ألبس فتنة؛ أو أشرب وأعقب عقوبة؛ فلا ملجئ لما قيل: إن النهي يخص زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ من خوف تحريم أو إيجاب [ما] يشق؛ لا يقال: السؤال مأمور به بنص: فاسألوا أهل الذكر ؛ فكيف يكون مأمورا منهيا؟ لأنا نقول: إنما هو مأمور فيما يأذن المعلم في السؤال عنه؛ والحاصل أن من الناس من فرط؛ فسد باب المسائل؛ حتى قل فهمه؛ وعلمه؛ ومنهم من أفرط؛ فتوسع حتى أكثر الخصومة؛ والجدل؛ بقصد المغالبة؛ وصرف وجوه الناس إليه؛ حتى تفرقت القلوب؛ وانشحنت بالبغضاء؛ ومنهم من اقتصد؛ فبحث عن معاني الكتاب والسنة؛ والحلال والحرام والرقائق ونحوها؛ مما فيه صفاء القلوب؛ والإخلاص لعلام الغيوب؛ وهذا القسم محبوب مطلوب؛ والأولان مذمومان؛ وبذلك عرف أن ما فعله العلماء من التأصيل والتفريع والتمهيد والتقرير في التأليفات مطلوب مندوب؛ بل ربما كان واجبا؛ شكر الله سعيهم؛ قال ابن حجر : وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردا عما ينذر؛ سيما في المختصرات؛ ليسهل تناوله؛ (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه) ؛ وجوبا؛ في الواجب؛ وندبا؛ في المندوب؛ (ما استطعتم) ؛ أي: أطقتم؛ لأن فعله هو إخراجه من العدم إلى الوجود؛ وذلك [ ص: 563 ] يتوقف على شرائط وأسباب؛ كالقدرة على الفعل؛ ونحوها؛ وبعضه لا يستطاع؛ وبعضه له؛ فلا جرم يسقط التكليف بما لا يستطاع؛ إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ؛ وبدلالة الموافقة له يخص عموم: وما آتاكم الرسول فخذوه ؛ ويؤخذ منه كما قال النووي في الأذكار -: ينبغي لمن بلغه شيء من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة؛ ليكون من أهله؛ ولا يتركه مطلقا؛ بل يأتي بما تيسر منه؛ لهذا الخبر؛ (وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) ؛ أي: دائما؛ على كل تقدير؛ ما دام منهيا عنه حتما في الحرام؛ وندبا في المكروه؛ إذ لا يتمثل مقتضى النهي إلا بترك جميع جزئياته؛ وإلا صدق عليه أنه عاص؛ أو مخالف؛ وهذا موافق لآية: فاتقوا الله ما استطعتم ؛ وأما: اتقوا الله حق تقاته ؛ فقيل: نسخ؛ وقيل: تلك مفسرة لهذه؛ قال النووي : هذا الحديث من جوامع الكلم؛ وقواعد الإسلام؛ ويدخل فيه كثير من الأحكام؛ كالصلاة لمن عجز عن ركن؛ أو شرط؛ فيأتي بمقدوره؛ وكذا الوضوء وستر العورة وحفظ بعض الفاتحة؛ وإخراج بعض زكاة الفطر؛ لمن لم يقدر على الكل؛ والإمساك في رمضان لمفطر بعذر قدر في أثناء النهار؛ إلى غير ذلك.

(حم م ن هـ؛ عن أبي هريرة ) ؛ قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فذكره؛ وظاهر صنيع المصنف أن ذا مما تفرد به مسلم عن صاحبه؛ وليس كذلك؛ بل رواه البخاري في الاعتصام؛ عن أبي هريرة ؛ قال المناوي : وألفاظهما متقاربة.

التالي السابق


الخدمات العلمية