التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6075 6440 - وقال لنا أبو الوليد: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبي قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت: ألهاكم التكاثر . [التكاثر: 1] [فتح: 11 \ 253].


ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث أبي بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدينار... " الحديث وسلف في الجهاد في باب: الحراسة في الغزو في سبيل الله.

و (أبو بكر) هذا هو: ابن عياش بن سالم الأسدي (الحناط). أحد الأعلام، مولى واصل بن حيان، الأحدب الأسدي الكوفي، انفرد به البخاري، روى له الأربعة، مات سنة ثلاث (وتسعين) ومائة، ومات عن ست وتسعين. قال أحمد: ربما غلط. وقال أبو حاتم: هو وشريك في الحفظ سواء.

ثانيها:

حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".

وفي رواية: "لو كان لابن آدم مثل واد مالا لأحب أن له إليه مثله.. ".

[ ص: 434 ] قال ابن عباس: ما أدري من القرآن هو أم لا؟ وسمعت ابن الزبير يقول ذلك على المنبر.

ثم ساقه إلى عباس بن سهل بن سعد قال: سمعت ابن الزبير على منبر بمكة في خطبته يقول: يا أيها الناس، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "لو أن ابن آدم أعطي واديا ملآن من ذهب أحب إليه ثانيا، ولو أعطي ثانيا أحب إليه ثالثا، ولا يسد جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".

رابعها:

حديث أنس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".

وقال لنا أبو الوليد: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس - رضي الله عنه -، عن أبي - رضي الله عنه - قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت: ألهاكم التكاثر [التكاثر: 1] وهذا من أفراده.

الشرح:

تعس: رويناه بكسر العين، وفي "الصحاح": تعس بالفتح يتعس وأتعسه الله، قال: والتعس: الهلاك، وأصله: الكب، وهو ضد الانتعاش. وقيل: التعس: أن يخر على وجهه. ففيه ذم من فتنه متاع الدنيا الفاني.

وقوله: ("إن أعطي رضي") أي: إن أعطاه المتولي.

[ ص: 435 ] وقوله: ("ملآن") كذا هو في الأصول، وذكره ابن التين بلفظ: "ملأ" ثم قال: كذا وقع، وصوابه: ملآن. قال في "الصحاح": يقال: دلو ملآى ماء على (فعلاء)، ويجوز: ملآن ماء، والعامة تقول: ملا ماء.

(فصل):

وحماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، والبخاري لا يأتي به إلا في الشواهد. قال أبو جعفر: وإنما أتى به في غير حديث ثابت من قبل ربيبه عبد الكريم بن أبي العوجاء -كان متهما بالزندقة- ويقال: إنه كان (يدس) في كتاب حماد بن سلمة، وهو من رجال مسلم والأربعة، وكان أحد الأعلام.

قال ابن معين: إذا رأيت من يقع فيه فاتهمه على الإسلام. وقال عمرو بن عاصم: كتب عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألفا. مات سنة سبع وستين ومائة. وكذا قال خلف الواسطي؟ ليس للبخاري عن ابن سلمة محتجا به غيره، إنما يقول: قال حماد: استشهادا.

وقال الإسماعيلي: أخبرنيه ابن ناجية على شك فيه: ثنا علي بن مسلم، ثنا عفان، قال: وثنا زهير بن محمد، ثنا أحمد بن إسحاق الحضرمي، أنا حماد بن سلمة.. فذكره.

فصل:

معنى هذا الحديث موجود في قوله تعالى: وإنه لحب الخير

[ ص: 436 ] لشديد
[العاديات: 8].

ومعنى الفتنة في كلام العرب: الاختبار والابتلاء، ومنه قوله تعالى: وفتناك فتونا [طه: 40] أي: اختبرناك. والفتنة: الإمالة عن القصد، ومنه قوله تعالى: وإن كادوا ليفتنونك [الإسراء: 73] أي: ليميلونك. والفتنة أيضا: الإحراق من قوله تعالى: يوم هم على النار يفتنون [الذاريات: 13] أي: يحرقون، هذا قول ابن الأنباري.

والاختبار والابتلاء يجمع ذلك كله، وقد أخبر الله تعالى عن الأموال والأولاد أنها فتنة، وقال تعالى: ألهاكم التكاثر [التكاثر: 1] وخرج لفظ الخطاب (بذلك) على العموم: لأن الله تعالى فطر العباد على حب المال والولد، ألا ترى قوله - عليه السلام - في الواديين؟! فأخبر عن حرص العباد على الزيادة في المال، وأنه لا غاية له يقنع بها ويقتصر عليها، ثم أتبع ذلك بقوله: "ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" يعني: إذا مات وصار في قبره ملأ جوفه التراب وأغناه بذلك عن تراب غيره حتى يصير رميما.

وأشار - عليه السلام - بهذا المثل إلى ذم الحرص على الدنيا والشره على الازدياد منها; ولذلك آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا والقناعة بالكفاف; فرارا من التعرض لما لا يعلم كيف النجاة من شر فتنته، واستعاذ - عليه السلام - من شر فتنة الغنى، وقد علم كل مؤمن أن الله قد أعاذه من شر كل فتنة، وإنما دعاؤه بذلك; تواضعا لله، وتعليما لأمته، وحضا لهم على إيثار الزهد في الدنيا.

التالي السابق


الخدمات العلمية