التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6086 [ ص: 454 ] 6451 - حدثنا عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لقد توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني. [انظر: 3097 - مسلم: 2973 - فتح: 11 \ 274].


ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث سهل بن سعد: مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا؟ ". فقال رجل من أشراف الناس: هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وقد سلف.

ثانيها:

حديث خباب: (هاجرنا) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله.. الحديث، وسلف أيضا.

ثالثها:

حديث سلم بن زرير، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء".

تابعه أيوب وعوف، وقال صخر وحماد بن نجيح، عن أبي رجاء، عن ابن عباس.

[ ص: 455 ] رابعها:

حديث أنس - رضي الله عنه - قال: لم يأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خوان حتى مات، وما أكل خبزا مرققا حتى مات.

خامسها:

حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني.

الشرح:

ظاهر هذه الأحاديث فضل الفقر كما ترجم له، لكن اعترض عليه بأن الشارع إنما فضله باعتبار الأعمال، غير أن الغنى أعز، والفضل في الكفاف، وقد طال تنازع الناس في هذه المسألة، وأفردت بالتأليف، فذهب قوم إلى تفضيل الفقر، وممن ألف فيه ابن الفخار. وذهب آخرون إلى تفضيل الغنى، وممن ألف فيه ابن قتيبة. واحتج من فضل الفقر بهذه الآثار وغيرها.

فمنها: حديث أنس في الترمذي -وقال: غريب-: أنه - عليه السلام - كان يقول في دعائه: "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين".

وأخرجه الحاكم في "مستدركه" من حديث أبي سعيد، ثم قال: صحيح الإسناد.

[ ص: 456 ] ومنها: أنه - عليه السلام - قال: "اللهم من آمن بي وصدق ما جئت به فأقلل له من المال والولد".

ومنها قوله - عليه السلام -: "إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وأصحاب الجد محبوسون" أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، ثم قال: صحيح.

واحتج من فضل الغنى بقوله - عليه السلام -: "إن المكثرين هم (الأقلون) إلا من قال هكذا أو هكذا".

وبقوله - عليه السلام -: "لا حسد إلا في اثنتين; رجل أتاه الله مالا فيسلطه الله على هلكته في الحق.. " الحديث.

وبقوله - عليه السلام - لسعد: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".

وقال لأبي لبابة: "أمسك عنك بعض مالك، فإنه خير لك".

وقال في معاوية: "إنه صعلوك لا مال له".

[ ص: 457 ] ولم يكن - عليه السلام - يذم حالة فيها الفضل.

قال ابن بطال: وأحسن ما رأيت في هذه المسألة ما قاله أحمد بن نصر الداودي قال: الفقر والغنى محنتان من الله، وبليتان يبلو بهما خيار عباده; ليبدي صبر الصابرين وطغيان البطرين، وإنما أشكل ذلك على غير الراسخين، فوضع قوم الكتب في تفضيل الغنى على الفقر، وعكس آخرون وأغفلوا الوجه الذي يجب الحض عليه والندب إليه.

وأرجو لمن صحت نيته، وخلصت له طويته، وكانت لوجهه مقالته أن (يجازيه) الله على نيته ويعلمه، قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة [الأنبياء: 35] وقال: وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض الآية [الإسراء: 83]. وقال: إن الإنسان خلق هلوعا الآية [المعارج: 19] وقال: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه إلى قوله: أهانن [الفجر 15 - 16] وقال: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء [الشورى: 27] وقال: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا الآية [الزخرف: 33] وقال: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [العلق: 6 - 7] وقال: وإنه لحب الخير لشديد [العاديات: 8] يعني: لحب المال. وقال رسول الله - عليه السلام -: "ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخاف أن تفتح الدنيا عليكم.. " الحديث. وكان - عليه السلام - يستعيذ من فتنة الفقر وفتنة الغنى، فدل هذا كله على أن ما فوق الكفاف محنة لا يسلم منها إلا من عصم، وقد قال - عليه السلام -: "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى".

[ ص: 458 ] وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما أتي بأموال كسرى: ما فتح الله هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم، وقطعوا أرحامهم. وقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم إنك منعت هذا رسولك; إكراما له وفتحته علي لتبتليني به، اللهم سلطني على هلكته في الحق واعصمني من فتنته.

فهذا كله يدل على فضل الكفاف لا فضل الفقر كما خيل لهم، بل الغنى والفقر بليتان كأن - عليه السلام - يستعيذ من فتنتهما، ويدل على ذلك قوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك الآية. [الإسراء: 29] وقال: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية. [الفرقان: 67] وقال: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله: بالمعروف [النساء: 5، 6]، وقال: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية [النساء: 9] وقال - عليه السلام - لأبي لبابة وسعد ما سلف، وهذا من الغنى الذي لا يطغي، ولو كان كلما زاد كان أفضل لنهاه الشارع أن يوصي بشيء، ولقصرت أيدي الناس عن الصدقات، وعن الإنفاق في سبيل الله، وقال لعمرو بن العاصي: "هل لك أن أبعثك في جيش يسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبة من المال؟ " فقال: ما للمال كانت هجرتي، إنما كانت لله ولرسوله. فقال: "نعم المال الصالح للرجل الصالح". ولم يكن - عليه السلام - ليحض أحدا على ما ينقص حظه عند الله.

فلا يجوز أن يقال: إن إحدى هاتين الخصلتين أفضل من الأخرى; لأنهما محنتان، وكأن قائل هذا يقول: إن ذهاب يد الإنسان أفضل عند

[ ص: 459 ] الله من ذهاب رجله، وإن ذهاب سمعه أفضل من ذهاب بصره، فليس ها هنا موضع للفضل، وإنما هي محن يبلو الله بها عباده; ليعلم الصابرين والشاكرين من غيرهم. ولم يأت في الحديث فيما علمت أنه - عليه السلام - كان يدعو على نفسه بالفقر، ولا يدعو كذلك على أحد يريد به الخير، بل كان يدعو بالكفاف، ويستعيذ بالله من شر فتنة الفقر وفتنة الغنى، ولم يكن يدعو بالغنى إلا بشريطة يذكرها في دعائه.

فأما ما روي عنه أنه كان يقول: "اللهم أحيني مسكينا.. ". الحديث فإن ثبت في النقل فمعناه: ألا يجاوز به الكفاف، أو يريد به الاستكانة إلى الله. يوضحه أنه ترك أموال بني النضير وسهمه من فدك وخيبر فغير جائز أن يظن به أن يدعو إلى الله ألا يكون بيده شيء، وهو يقدر على إزالته من يده بإنفاقه.

وما روي عنه أنه قال: "اللهم من آمن بي.. " إلى آخره، فلا يصح في النقل ولا في الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك في قلة المال وحدها، لكان محتملا أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه في قلة الولد فكيف يدعو أن يقل المسلمون؟ وما يدفعه العيان (فمدفوع) عنه - عليه السلام -، وأحاديثه لا تتناقض، كيف يذم معاوية ويأمر أبا لبابة وسعدا أن يبقيا ما ذكر من المال؟ ويقول: إنه خير، ثم يخالف في ذلك، وقد ثبت أنه دعا لأنس بكثرة ماله وولده، وأن يبارك له فيما أعطيه، قال أنس: ولقد أحصت ابنتي أني قدمت من صلبي مقدم الحجاج البصرة مائة وبضعة وعشرين نسمة بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما سلف، وعاش بعد ذلك ستين سنة، وولد له.

[ ص: 460 ] فلم يدع له بكثرة المال إلا وقد قرن ذلك بقوله: "وبارك له فيما أعطيته".

فإن قلت: فأي الرجلين أفضل المبتلى بالفقر أو بالغنى إذا صلحت حال كل واحد منهما؟ قيل: السؤال عن هذا لا يستقيم، إذ قد يكون لهذا أعمال سوى تلك المحنة يفضل بها صاحبه وللآخر كذلك، وقد يكون هذا الذي صلح حاله على (الفقر لا يصلح حاله على) الغنى، ويصلح حال الآخر على الفقر والغنى.

فإن قلت: فإن كان كل واحد يصلح حاله في الأمرين، وهما في غير ذلك من الأعمال متساويان قد أدى الفقير ما يجب عليه في فقره من الصبر والعفاف والرضا، وأدى الغني ما يجب عليه من الإنفاق والبذل والشكر والتواضع، فأي الرجلين أفضل؟ قيل: علم هذا عند الله تعالى.

فصل:

وأما قوله: ("وأصحاب الجد محبوسون") فإنما يحبس لهذا أهل التفاخر والتكاثر: وأما من أدى حق الله في ماله، ولم يرد به التفاخر، وأرصد باقيه لحاجته إليه، فليس أولئك بأولى منه في السبق إلى شيء.

ويدل على هذا الحديث السالف: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق". فيبين أنه لا شيء أرفع من هاتين الحالتين، وهو المبين عن الله (معنى): ما أراد، ولو كان من هذه

[ ص: 461 ] حاله مسبوقا في الآخرة لما حض الشارع على أن يتنافس في عمله، ولحض أبا لبابة على الحالة التي يسبق بها إلى الجنة، ألا ترى قوله في حديث: "الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فالذي عليه وزر فرجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام"، فهذا من المحبوسين للحساب. والأولان فهو كفافهما، غير أن آفات الغنى أكثر، والناجون من أهل الغنى أقل; إذ لا يكاد يسلم من آفاته إلا من عصمه الله; فلذلك عظمت منزلة المعصوم فيه; لأن الشيطان يسول فيه إما في الأخذ بغير حقه، أو الوضع في غير حقه، أو في منعه من حقه، أو في (التجبر) والطغيان من أجله، أو في قلة الشكر عليه، أو المنافسة فيه إلا ما لا يبلغ صفته.

فصل:

قال المهلب: دخول الفقراء قبل الأغنياء بالمدة المذكورة ليس فيه تفضيل للفقر; لأن تقديم دخولها لا تستحق به فضيلة; ألا ترى أنه - عليه السلام - أفضل البشر ولا يتقدم بالدخول فيها حتى يشفع في أمته، وكذلك صالح المؤمنين يشفعون في قوم دونهم في الدرجة، وإنما ينظر يوم القيامة بين الناس فيتقدم الأقل حسابا فالأقل. فلذلك قدمت الفقراء; لأنه لا غلبة عليهم في حساب الأموال، فيدخلون الجنة قبل الأغنياء، ثم يحاسب أصحاب الأموال فيدخلون الجنة، وينالون فيها من

[ ص: 462 ] الدرجات ما قد لا يبلغهم الفقر.

فصل:

وكذلك ليس قوله: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء" لا يوجب فضل الفقير، وإنما معناه أن الفقراء في الدنيا أكثر من الأغنياء فأخبر عن ذلك، كما تقول: أكثر أهل الدنيا الفقراء. لا من جهة التفضيل، وإنما هو إخبار عن الحال، وليس الفقر أدخلهم الجنة، إنما دخلوا بصلاحهم مع الفقر، أرأيت الفقير إذا لم يكن صالحا فلا فضل له في الفقر.

فصل:

وحديث سهل لا يخلو أن يكون فضل الفقير عليهم لفقره أو لفضله، فإن كان الثاني فلا حجة فيه لهم، وإن كان الأول فكان ينبغي أن يشترط في ملء الأرض مثله لا فقير لهم، ولا دلالة في الحديث على تفضيله عليه مع جهة فقره; لأنا نجد الفقير إذا لم يكن صالحا، فكل غني صالح خير منه.

فصل:

في حديث خباب أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها ولا نعمة يستعجلونها، وإنما كانت لله; ليثيبهم عليها في الآخرة بالجنة والنجاة من النار، فمن قتل منهم قبل أن يفتح الله عليهم البلاد قالوا: مر ولم يأخذ من أجره شيئا في الدنيا، وكان أجره في الآخرة موفرا له، وكان الذي بقي منهم حتى فتح الله عليهم الدنيا ونالوا من الطيبات خشوا أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم وهجرتهم في الدنيا بما نالوا فيها من النعيم; إذ كانوا على نعيم الآخرة أحرص.

[ ص: 463 ] فصل:

وتركه - عليه السلام - الأكل على الخوان وأكل المرقق، فإنما فعل ذلك; لأنه رفع الطيبات للحياة الدائمة في الآخرة، ولم يرض أن يستعجل في الدنيا الفانية شيئا منها، أخذا منه بأفضل الدارين، وكان قد خيره الله بين أن يكون نبيا عبدا أو نبيا ملكا، فاختار عبدا، فلزمه أن يفي لله بما اختاره. والمال إنما يرغب فيه مع مقارنة الدين، ليستعان به على الآخرة، والشارع مغفور له، فلم يحتج إلى المال من هذا الوجوه، وكان ضمن الله له رزقه بقوله: نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [طه: 132]

فصل:

وقول عائشة - رضي الله عنها -: (لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -..) إلى آخره. هو في معنى حديث أنس - رضي الله عنه - الذي قبله من الأخذ بالاقتصاد وبما يسد الجوعة.

وفيه: بركة الشارع، وأن الطعام المكيل يكون فناؤه معلوما للعلم بكيله، وأن الطعام غير المكيل فيه البركة; لأنه غير معلوم مقداره.

(والرف: شبه الطاق، والجمع رفوف، قاله في "الصحاح". وقال في "المطالع": الرف خشب يرفع عن الأرض في البيت يرفأ إليه ما يراد حفظه، وهو الرفوف أيضا).

فصل:

قد أسلفنا أن ابن قتيبة صنف في تفضيل الغنى على الفقر، وأتى على ذلك بأخبار لا تثبت أسانيدها ولا تصح مرسلاتها، ثم أولها

[ ص: 464 ] بتوهمه أن ذلك تأويلها، ولو صحت لكان تأويلها غير تأويله، بل لا يصح تأويله أصلا.

ثم أتى بأشعار احتج بها على الشريعة، ثم بحكايات وأوصاف ليست بحجج ولا دلائل; بل هي خطب وتواريخ ومحن، فلسنا نقول: إن الغنى مكروه; بل هو مباح، وإنما الكلام في الأفضل، فمما قاله: زعم أنه - عليه السلام - روي عنه -بغير سند ولا إمام- أنه تعوذ من الفقر، ثم فسر ذلك بأنه لا يجوز أن يكون فقر النفس، وإنما هو فقر المال، وادعى أن له على ذلك شواهد كثيرة: منها:

أنه كان يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من غنى يبطر وفقر مرب أو ملب". وهو الملاصق بالأرض.

وكذلك قوله: "لا غنى يطغي ولا فقر ينسي" وفسره فقال: دعا بالتوسط في الحد، فتدبروا قوله.

هذا تأويله، فما أبعده مما قاله واعتقده، وحسب أن هذا له دليل، وهو عليه حجة; وذلك أنه ذكر حديثا لا يعرف، وقصد إلى الشواذ ثم جعله حجة في تفضيل الغنى، ولو صح ما كان في مثل هذا الغنى، ولا في مثل هذا الفقر، وكلاهما مرديان; لأن الغني المبطر قد عصى الله به، والفقير المنسي قد نسي الله فعصاه، قال تعالى: نسوا الله فنسيهم [التوبة: 67] وإنما الكلام في الغنى الذي لا يبطر، والفقر الذي لا ينسي. فمن قال مثل قوله هذا: هل مر به من إنعام النظر مثقال ذرة؟!:

ثم فسره أيضا بأن الفقر الذي استعاذ منه إنما هو فقر المال دون فقر النفس برواية وبغير رواية، والأولى على ظاهر الحديث أن يكون استعاذ من فقر النفس دون المال بدلالة الحديث الثابت:

[ ص: 465 ] "ولكن الغنى غنى النفس".

واحتج أيضا بحديث مرسل لا تثبت به حجة، أن الحسن قال: أنه - عليه السلام - قال: "كاد الفقر أن يكون كفرا". وهو غير صحيح، ولو صح لكان تأويله سترا من النار: لأن معنى كفرت الشيء: سترته، ولو قلنا بتأويله للزم منه الفقر في الدنيا، ودخول النار في الآخرة لكفره. ويدل على أن الفقر أفضل قول عمر في غزوة نهاوند إذ جيء بمالها فصب في المسجد: ما فتح الله هذا على قوم إلا سفكوا عليه دماءهم، وقطعوا أرحامهم. فهل سفك الناس دماءهم، وقطعوا أرحامهم على الفقر؟! فكيف يكون المال أفضل على هذا من الفقر، وهو ذريعة إلى قطع الأرحام؟ فإن احتج متوهم بعيد الفهم بقول الله تعالى: ترك خيرا [البقرة: 180] يعني: مالا; قلنا: قد قال أيضا: وإنه لحب الخير لشديد [العاديات: 8] يعني: المال، فقد عاب محبته مع تسميته خيرا، وعابه أيضا في آية أخرى، فقال: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه الآية [الفجر: 15].

واحتج أيضا بقول الشاعر:


ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء



ويرده أنه تعالى قال: أومن كان ميتا فأحييناه [الأنعام: 122] قيل: كان كافرا فأحييناه بالإسلام، أو ضالا فهديناه كما قال مجاهد. ولم يقل أحد إن ذلك في الفقر من المال.

قال ابن قتيبة: قبض الله نبينا موسرا إنما قال عليه، فتأول بذلك أنه لم يكن دعاؤه إذ استعاذ (من الفقر) إلا فقر المال.

[ ص: 466 ] وقد قال تعالى: ووجدك عائلا فأغنى [الضحى: 8] فالعائل: الفقير.

قال البخاري: عائلا: ذو عيال خلاف قول ابن قتيبة وهو أوفق.

ويقال لابن قتيبة: لو أمعنت النظر لما احتججت بمثل هذا، لأن سورة الضحى مكية، والغنى قد يكون غنى النفس، ويكون من المال كما تقدم عنه، وإنما قال: (فأغنى) ولم يقل: سأغنيك; لأن فدك والنضير وخيبر كان فتحها بعد هذه السورة بسنين، وقال عمر: إن الله خص رسوله في هذا المال بشيء لم يعطه أحدا غيره، فإذا كان مخصوصا بشهادة عمر، فكيف يجوز أن يكون لمن لم يخص بمثل هذا الخصوص؟!

وقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" كما سيأتي.

فإن قلت: إن الغنى أفضل; لقوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل [الأنفال: 60] والخيل لا يقوم إلا بالغنى.

قيل له: هذه حال ضرورة إلى الغنى في هذه الحال، وإذا دعت الضرورة إلى الغنى في حال يجوز أن يكون الغنى أفضل، كما أن الصلاة على هيئتها هو الغرض الذي لا يجوز غيره، وإذا دعت ضرورة الخوف إلى القصر من هيئتها في تلك الحال لم يجز على الإطلاق; إلا أن تكون تلك الصلاة في تلك الهيئة من القصر أفضل،

[ ص: 467 ] بل الصلاة على هيئتها من التمام هو الواجب، فكما لم يغير حال الخوف من جواز قصر الصلاة من فرض تأديتها على هيئتها في غير الخوف، كذلك لا تغير الضرورة إلى الغنى في حال الجهاد أن الفقر أفضل من الغنى.

ألا ترى أنه - عليه السلام - كان يجعل ما أفاء الله عليه بعد نفقته في الكراع والسلاح وما يحتاج الجهاد إليه; فإن قيل: إنما نقاتل العدو بالغنى، وهو المال. قيل: ليس كذلك; لأن الله تعالى قال: إذا لقيتم فئة فاثبتوا إلى قوله: مع الصابرين [الأنفال: 45 - 46] فقد نفى أن يكون المال من صفة القتال، وقال تعالى: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال [البقرة: 247]، وقال هرقل لأبي سفيان إذا سأله عن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكر أن ضعفاءهم اتبعوه، فقال: هم أتباع الرسل. فقد أعلمك أن الضعفاء أتباع الرسل، وهم الذين قاتلوا الكفار.

وقال أبو أمامة الباهلي: لقد فتح الفتوح أقوام ما كانت حلية سيوفهم الذهب والفضة إلا العلابي والآنك والحديد.

فصل:

المختار عندنا: أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر; لأن الغنى هي الحالة التي توفي عليها الشارع، وهي أكمل الحالات.

وقد سئل سيدي أبو علي الدقاق: أيهما أفضل الغنى أو الفقر؟ فقال: الغنى; لأنه وصف الحق، والفقر وصف الخلق، ووصف

[ ص: 468 ] الحق أفضل من وصف الخلق، وما أحسن هذا، وأما الكفاف فهي الدرجة الرفيعة; لأنه - عليه السلام - لا يسأل إلا أفضل الأحوال.

وفي ابن ماجه من حديث أنس مرفوعا: "ما من غني ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه أوتي قوتا".

قال القرطبي: فعلى هذا أهل الكفاف هم -إن شاء الله- صدر كتيبة الفقراء الداخلين قبل الأغنياء بخمسمائة عام; لأنهم وسطهم، والوسط: العدل; قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا [البقرة: 143].

فصل:

معنى (حري) في حديث سهل: حقيق.

والنمرة: في حديث خباب: بردة يلبسها الإماء، أو إزار من صوف مخطط، وقال الجوهري: بردة من صوف يلبسها الأعراب، وقال ابن فارس: كساء ملون.

والإذخر: نبت ريحه طيب، وهو جمع، والواحدة: إذخرة.

ومعنى (أينعت): أدركت، وكذلك ينع.

قال القزاز: وأينع أكثر من ينع.

(ويهدبها): بضم الدال وكسرها أي: يجنيها.

والخوان: بضم الخاء وكسرها: المائدة المعدة لذلك، ويقال فيه أيضا: الأخوان.

[ ص: 469 ] فصل:

قوله: (تابعه أيوب وعوف. وقال صخر وحماد بن نجيح: عن أبي رجاء عن ابن عباس)، أما متابعة أيوب فأخرجها النسائي عن بشر بن هلال، عن عمران بن موسى، عن عبد الوارث، عن أبي أيوب، عن أبي رجاء، عن عمران.

وأما متابعة عوف، فذكرها في النكاح عن عثمان بن الهيثم. ثنا عوف، عن أبي رجاء.

وقال أبو مسعود الدمشقي: إنما رواه عن أيوب -كما قاله البخاري- عبد الوارث، وسائر أصحاب أيوب يقولون: عن أيوب، عن أبي رجاء، عن ابن عباس.

وقد رواه أبو الأشهب وابن أبي عروبة وابن علية والثقفي وعاصم بن هلال وجماعة; عن أيوب، عن أبي رجاء، عن ابن عباس.

قلت: رواه النسائي عنه عن أبي رجاء، عن عمران، وأخرجه الترمذي عن ابن بشار، عن ابن أبي عدي وغندر وعبد الوهاب; عن عوف، عن أبي رجاء، ثم قال: حسن صحيح.

قال: وهكذا يقول عوف، عن أبي رجاء، عن عمران.

وكذا روى غيره. ويقول أيوب: عن أبي رجاء عن ابن عباس، وكلا الإسنادين ليس فيهما مقال، ويحتمل أن يكون أبو رجاء سمعه منهما.

[ ص: 470 ] ومتابعة صخر أخرجها النسائي عن يحيى بن مخلد المقسمي، ثنا المعافى بن عمران عن صخر بن جويرية، عن أبي رجاء.

ومتابعة حماد بن نجيح أخرجها النسائي أيضا عن محمد بن معمر البحراني، ثنا عثمان بن عمر، عن حماد بن نجيح، عن أبي رجاء

التالي السابق


الخدمات العلمية