التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6103 6468 - حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي، عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعته يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى لنا يوما الصلاة، ثم رقي المنبر فأشار بيده قبل قبلة المسجد فقال: "قد أريت الآن -منذ صليت لكم الصلاة- الجنة والنار ممثلتين في قبل هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، فلم أر كاليوم في الخير والشر". [انظر: 93 - مسلم: 2359 - فتح: 11 \ 295].


ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث مسروق: سألت عائشة - رضي الله عنها -: أي العمل كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: الدائم. قال: قلت: فأي حين كان يقوم؟ قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ.

ثانيها:

حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان أحب العمل إلى

[ ص: 484 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يدوم عليه صاحبه.


ثالثها:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن ينجي أحدا منكم عمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا".

وقال مجاهد: سدادا وتسديدا: صدقا.

رابعها:

حديث عائشة - رضي الله عنها - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "سددوا وقاربوا، واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.

خامسها:

حديثها أيضا قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "أدومه وإن قل". وقال: "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون".

سادسها:

حديث علقمة: سألت عائشة - رضي الله عنها - كيف كان عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ هل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستطيع؟!.

سابعها:

حدثنا علي بن عبد الله، ثنا محمد بن الزبرقان، ثنا موسى بن عقبة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله". قالوا:

[ ص: 485 ] ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته".
قال: أظنه عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة.

وقال عفان: ثنا وهيب، عن موسى بن عقبة قال: سمعت أبا سلمة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سددوا وأبشروا". قال مجاهد: سدادا وسديدا: صدقا.

ثامنها:

حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى لنا يوما الصلاة، ثم رقي المنبر فأشار بيده قبل قبلة المسجد فقال: "قد رأيت الآن -منذ صليت لكم الصلاة- الجنة والنار ممثلتين في قبل هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، فلم أر كاليوم في الخير والشر".

الشرح:

حديث عفان كأن البخاري أخذه عنه مذاكرة، وأخرجه مسلم عن محمد بن حاتم، ثنا بهز، ثنا وهيب، عن موسى به.

وأغرب ابن منده فقال في جزء له: إن البخاري حيث قال: قال فلان، فهو تدليس. وهو بعيد.

وقد قال ابن القطان لما ذكر تدليس الشيوخ قال: لم يصح ذلك عن البخاري قط.

ومعنى: ("يتغمد"): يغمر، ومعناه لغة: الستر. يقال: تغمدت فلانا أي: سترت ما كان منه وغطيت، ومنه: غمد السيف. قال أبو عبيد: لا أحسب يتغمدني إلا مأخوذا من غمد السيف; لأنك إذا غمدته فقد ألبسته إياه وغشيته به.

[ ص: 486 ] ("واغدوا وروحوا") هو مثل ضربه للعمل أي: يعمل ثم (يجمر) نفسه فيعمل طرفي النهار ويستريح وسطه لئلا يمل، والدلجة بضم الدال وفتحها مثل: برهة من الدهر وبرهة، وأراد بذلك زيادة صلاة الليل.

وقوله: ("والقصد القصد") هو منصوب على الإغراء أي: الزموا القصد.

و ("اكلفوا") بفتح اللام. وقال ابن التين: قرأناهما بالضم، وهو بالفتح في كتب أهل اللغة. ويقال: كلف بهذا الأمر بالكسر كلفا وهو الإبلاغ بالشيء.

وقوله: (ديمة) أي: دائما مثل الديمة من المطر، وأصل الديمة: المطر الدائم مع سكون، فشبهت عائشة - رضي الله عنها - عمله في دوامه مع الاقتصاد وترك الغلو بديمة المطر.

وقال ابن فارس: هو الذي يقيم أياما، وقال الجوهري: الديمة: المطر الذي ليس فيه رعد ولا برق، أقله ثلث النهار أو ثلث الليل، وأكثره ما بلغ من العدد.

وقوله: ("ممثلتين في قبل هذا الجدار") قال الداودي: يريد قدامه. وقال الجوهري: يقال: انزل بقبل هذا الجدار أي: بسفحه وهو أسفله حيث يتفسح فيه الماء.

فصل:

قال المهلب: إنما حض الشارع أمته على القصد والمداومة على

[ ص: 487 ] العمل
وإن قل، خشية الانقطاع عن العمل الكثير، فكأنه رجوع عن فعل الطاعات، وقد ذم الله ذلك، ومدح من أوفى بالنذر.

وقد سلف بيان هذا المعنى في أبواب صلاة الليل من كتاب الصلاة.

فإن قلت: إن قول عائشة - رضي الله عنها -: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخص شيئا من الأيام بالعمل يعارضه قولها: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر صياما منه في شعبان. قيل: لا تعارض بينهما، وذلك أنه - عليه السلام - كان كثير الأسفار في الجهاد، فلا يجد سبيلا إلى صيام الثلاثة الأيام من كل شهر، فيجمعهما في شعبان.

ألا ترى إلى قول عائشة - رضي الله عنها -: كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فهذا يبين أنه لم يخص شيئا من الزمان، إنما كان يوقع العبادة على قدر نشاطه وفراغه من جهاده وأسفاره، فيقل مرة ويكثر أخرى، وقد قيل في معنى (كثرة صيامه في شعبان وجوه أخرى)، قد ذكرتها في باب: صوم شعبان في كتاب الصيام، فإن قلت: فما معنى ذكر حديث أنس في هذا الباب؟ قيل: معناه أن يوجب ملازمة العمل وإدمانه ما مثل له من الجنة للرغبة، ومن النار للرهبة، فكان في ذلك فائدتان:

إحداهما: ينبغي للناس أن يتمثلوا الجنة والنار بين أعينهم إذا وقفوا بين يدي الله تعالى، كما مثلهما الله لنبيه، وشغله بالفكرة

[ ص: 488 ] فيهما عن سائر الأفكار الحادثة عن تذكير الشيطان بما يسهيه حتى لا يدري كم صلى.

والثانية: أن يكون الخوف من النار الممئلة، والرغبة في الجنة، نصب عيني المصلي، فيكونا باعثين له على الصبر، والمداومة على العمل المبلغ إلى رحمة الله، والنجاة من النار برحمته.

فإن قلت: قوله: "لن يدخل أحدكم الجنة عمله" يعارض قوله: وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [الزخرف: 72].

قيل: لا تعارض; فإن دخولها هو برحمة الله لا بعمله، والله أخبر أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، أي: كما هو مبين في الحديث.

ومعلوم أن درجات العباد فيها متباينة على قدر تباين أعمالهم.

فمعنى الآية في ارتفاع الدرجات وانخفاضها، والنعيم فيها، ومعنى الحديث في الدخول في الجنة والخلود فيها، فلا تعارض.

فإن قلت: فقد قال الله تعالى: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [النحل: 32] فأخبر أن دخولها بالأعمال أيضا.

فالجواب أن قوله: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون كلام مجمل وتقديره ادخلوا منازل الجنة وبيوتها بما كنتم تعملون، فالآية مفتقرة إلى بيان الحديث.

وللجمع بين الحديث وبين الآيات، وجه آخر، هو أن يكون الحديث مفسرا للآيات، ويكون تقديرها: وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [الزخرف: 72] و: كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون [الطور: 19]، و ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم; لأن فضله -عز وجل- ورحمته لعباده في اقتسام

[ ص: 489 ] المنازل في الجنة، كما هو في دخولها لا ينفك منه حين ألهمهم إلى ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاة الله عباده من رحمته وتفضله، ألا ترى أنه جازى على الحسنة عشرا وعلى السيئة واحدة، وأنه ابتدأ عباده بنعم لا تحصى، لم يتقدم لهم فيها سبب ولا فعل، منها: أن خلقهم بشرا سويا، ومنها: نعمة الإسلام، ونعمة العافية، ونعمة تضمنه لأرزاق عباده، وأنه كتب على نفسه الرحمة، وأن رحمته سبقت غضبه، إلى ما لا يهتدى إلى معرفته من ظاهر النعم وباطنها.

فصل:

وقول مجاهد: (سدادا سديدا: صدقا)، كأنه يريد به ما رواه الطبري في "تفسيره" عن موسى بن هارون، ثنا عمرو بن طلحة، ثنا أسباط، عن السدي، عن ابن أبي نجيح، عن ورقاء، عن مجاهد.

التالي السابق


الخدمات العلمية