التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6106 6471 - حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا مسعر، حدثنا زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي حتى ترم -أو تنتفخ- قدماه، فيقال له، فيقول: "أفلا أكون عبدا شكورا؟". [انظر: 1130 - مسلم: 2819 - فتح: 11 \ 303].


ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يسأله أحد منهم إلا أعطاه، حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين نفد كل شيء أنفق بيديه: "ما يكن عندي من خير فلم أدخره عنكم، وإنه من يستعف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاء خيرا وأوسع من الصبر".

وحديث المغيرة - رضي الله عنه - يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم حتى ترم -أو تنتفخ- قدماه، فيقال له، فيقول: "أفلا أكون عبدا شكورا؟! ".

[ ص: 493 ] الشرح:

(معنى حديث أبي سعيد سلف في الزكاة، وحديث المغيرة سلف في قيامه - عليه السلام -).

ومعنى ("يستعف") لا يلحف في المسألة، كذا شرحه ابن التين. وقال ابن بطال: من يعفه الله يستعفف، وكذا: من نصره الله ينصر ومن يغنه الله يستغن، وهذا مثل قوله تعالى: فأما من أعطى واتقى الآية، [الليل: 5]، وبين صحة هذا قوله تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا [التوبة: 118] فلولا ما سبق في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا، وكذلك في العفة والغنى والصبر، لولا ما سبق في علمه أنهم ممن يقع ذلك منهم ما قدروا على شيء من ذلك بفعلهم، يبين ذلك قوله - عليه السلام -: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له". وهذا حجة في أن أفعال العباد خلق الله تعالى.

وقوله: ("يعفه الله") أي: يرزقه ما يعفه إما المال أو القناعة.

وقوله: (ترم)، يقال: ورم يرم بالكسر فيهما وهو شاذ مثل: يئس. قال الأصمعي: يقال يئس ييئس، وحسب يحسب، ونعم ينعم بالكسر فيهن. وقال أبو زيد: علياء مضر يكسرون العين فيهن وسفلاها يفتحونها. وقال سيبويه، هذا عند أصحابنا إنما يجيء على لغتين بمعنى، يئس ييأس، وياءس يئس لغتان، ثم ركب منهما، وأما: ورم يرم، وومق يمق و (نفق ينفق)، (وولي يلي)، وورث يرث فلا يجوز فيهن إلا الكسر لغة واحدة.

[ ص: 494 ] فصل:

أرفع الصابرين منزلة عند الله من صبر عن محارم الله، وصبر على العمل بطاعته، ومن فعل ذلك فهو من خالص عباده وصفوته، ألا ترى قوله - عليه السلام -: "لم تعطوا عطاء خيرا وأوسع من الصبر".

وسئل الحسن عن قوله - عليه السلام - حين سئل عن الإيمان، فقال: "الصبر والسماح". فقيل للحسن: ما الصبر والسماح؟ قال: السماح لفرائض

[ ص: 495 ] الله، والصبر عن محارم الله. وقال الحسن: وجدت الخير في صبر ساعة.

فصل:

الصبر في حديث المغيرة صبر على العمل بطاعة الله; لأنه - عليه السلام - كان يصلي بالليل حتى ترم قدماه، ويقول: "أفلا أكون عبدا شكورا؟!". واختلف السلف في حد الشكر كما قال الطبري، فقال بعضهم: شكر العبد ربه على أياديه عنده، ورضاه بقضائه وتسليمه لأمره فيما نابه من خير أو شر. ذكره الربيع بن أنس، عن بعض أصحابه. وقال آخرون: شكر العبد طاعته لربه، روي ذلك عن السدي ومحمد بن كعب.

وقال آخرون: هو الإقرار بالنعم أنها لله وأنه المتفضل بها، وقالوا: الحمد لله والشكر معنى واحد، روي ذلك عن ابن عباس وابن زيد.

قال الطبري: والصواب في ذلك أن شكر العبد هو إقراره بأن ذلك من الله دون غيره، إقرارا بحقيقة الفعل ويصدقه العمل، فأما الإقرار الذي يكذبه العمل فإن صاحبه لا يستحق اسم الشاكر بالإطلاق، ولكنه يقال: شكر باللسان، والدليل على صحة ذلك. قوله تعالى: اعملوا آل داود شكرا [سبأ: 13] ومعلوم أنه لم يأمرهم، إذ قال لهم ذلك بالإقرار بنعمته; لأنهم كانوا لا يجحدون أن يكون ذلك تفضلا منه عليهم، وإنما أمرهم بالشكر على نعمه بالطاعة له بالعمل. وكذلك قال نبينا حين تفطرت قدماه ما سلف.

فإن قلت: أي المنزلتين أعلى الصبر أو الشكر؟ قيل: كل رفيع الدرجة شريف المنزلة، وما ذو العافية والرخاء، كذي الفاقة والبلاء

[ ص: 496 ] وفي قوله: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر: 10] وخصوصه إياهم من الأجر على صبرهم دون سائر من ضمن له ثوابا على عمله ما يبين عن فضل الصبر، وقد روى الأعمش عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - رفعه: "يود أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم في الدنيا كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب الله لأهل البلاء".

وذكر ابن أبي الدنيا من حديث أم هانئ - رضي الله عنها - قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبشري فإن الله قد أنزل لأمتي الخير كله، إن الحسنات يذهبن السيئات" قلت: بأبي وأمي، وما الحسنات؟ قال: "الصلوات الخمس". ودخل علي فقال: "أبشري فإن الله قد نزل خيرا لا شر بعده" قلت: بأبي وأمي، ما هو؟ قال: "أنزل الله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، فقلت: يا رب، زد أمتي".

فأنزل الله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة [البقرة: 261] فقلت: "يا رب، زد أمتي". فأنزل الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر: 10].


وروى الطبراني من حديث الحسن، (عن جده)، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة، فلا يرفع لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان، فيصب عليهم الأجر صبا" ثم قرأ: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .

التالي السابق


الخدمات العلمية