التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6126 [ ص: 538 ] 31 - باب: من هم بحسنة أو بسيئة

6491 - حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا جعد أبو عثمان، حدثنا أبو رجاء العطاردي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه -عز وجل- قال: قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة". [مسلم: 131 - فتح: 11 \ 323].


ذكر فيه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة".

الشرح:

(هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا في الإيمان، وهو حديث عظيم من قواعد الإسلام، وهو من لطف الله بعبده، ورفقه به، واعتنائه بقوله "عنده" ولم يذكر ذلك في السيئة بل قال: "كتبها الله له واحدة" أي: عليه، وأكد بـ "كاملة"; لشدة الاعتناء، وكذا في السيئة المتروكة، ولا شك أنه) إذا حدث العبد نفسه بالمعصية لم يؤاخذ; فإذا عزم

[ ص: 539 ] فقد خرج عن حديث النفس ويصير من أعمال القلب، فإن عقد النية على الفعل فحينئذ يأثم.

وبيان الفرق بين الهم والعزم: أنه لو حدث نفسه في الصلاة وهو فيها بقطعها لم تنقطع، فإذا عزم انقطعت.

وسئل سفيان بن سعيد: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ قال: إذا عزم، والملكان يجدان ريح الحسنات والسيئات إذا عقد القلب.

وحديث الباب حديث شريف بين فيه الشارع مقدار فضل الله تعالى على عباده، كما أسلفناه، بأن جعل هموم العبد بالحسنة وإن لم يعملها حسنة، وجعل همومه بالسيئة إن لم يعملها حسنة، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، وإن عمل الحسنة كتبت عشرا، ولولا هذا التفضل العظيم، لم يدخل أحد الجنة; لأن السيئات من العباد أكثر من الحسنات، فلطف الله بعباده بأن ضاعف لهم الحسنات دون السيئات، وإنما جعل الهم بالحسنة حسنة; لأن الهم بالخير هو فعل القلب لعقد النية على ذلك.

فإن قلت: فكان ينبغي على ذلك أن تكتب لمن هم بالشر ولم يعمله سيئة; لأن الهم بالشر عمل من أعمال القلب للشر.

قيل: ليس كما توهمت، ومن كف عن أعمال الشر فقد فسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشر، فذلك عمل القلب من أعمال الخير فجوزي على ذلك بحسنة، وهذا كقوله - عليه السلام -: "على كل مسلم صدقة" قالوا: فإن لم يفعل. قال: "فليمسك عن الشر فإنه صدقة".

كما سلف في الأدب في باب: كل معروف صدقة.

[ ص: 540 ] وحديث ابن عباس معناه مخصوص لمن هم بسيئة فتركها لوجه الله، (كما في "صحيح مسلم": "إنما تركها من جرائي")، وأما من تركها مكرها على تركها; بأن يحال بينه وبينها فلا تكتب له حسنة ولا يدخل في معنى الحديث.

قال المازري: مذهب ابن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه مأثوم في اعتقاده وعزمه، وقد يحمل ما وقع من هذه الأحاديث وشبهها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما مر ذلك على فكره من غير استقرار ويسمي هذا الهم، ويفرق بين الهم والعزم، ويكون معنى قوله في مسلم: "لم تكتب عليه" على هذا القسم الذي هو خاطر غير مستقر، وخالفه كثير من الفقهاء و (المحدثين) أخذا بظاهر الأحاديث ويحتج للقاضي بقوله - عليه السلام -: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما" الحديث، وفيه: "لأنه كان حريصا على قتل صاحبه" فقد جعله مأثوما بالحرص على القتل، وهذا قد يتأولونه على خلاف هذا. فيقولون: قد قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما" فالإثم إنما يتعلق بالفعل والمقاتلة، وهو الذي وقع عليه اسم الحرص، ويتعلق بالكلام على الهم ما في قصة يوسف

وهو قوله: وهم بها [يوسف: 24] أما على طريقة الفقهاء فذلك مغفور لهم غير مؤاخذ به إذا كان شرعه كشرعنا في ذلك، وأما على طريقة القاضي فيحمل ذلك على الهم الذي ليس هو بتوطين النفس، ولو حمل على غيره لأمكن أن يقال: هي صغيرة.

[ ص: 541 ] وفي الصغائر عليهم فيها خلف.

(قال القاضي عياض: وعامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه أبو بكر القاضي; للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب بسيئة، وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله والأمانة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية، فتكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية لله كتبت كما في الحديث: "إنما تركها من جرائي" فصار تركه لها لخوف الله ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة، فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها، ولا يصحبها عقد ولا نية، وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لخوف الله، بل لخوف الناس، هل تكتب حسنة؟ قال: (لا) لأن ما حمله على تركها الحياء، وهذا ضعيف لا وجه له.

قال النووي: هذا كلام القاضي، وهو حسن لا مزيد عليه. وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر، من ذلك قوله تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة [النور: 19] وقوله تعالى: إن بعض الظن إثم [الحجرات: 12] وقد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد واحتقار المسلمين وإرادة

[ ص: 542 ] المكروه وغير ذلك من أعمال القلوب.

وقال الشيخ عز الدين في "أماليه": الآية وهي: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [الأنعام: 160] مخصوصة بعزائم الأعمال، فإن عملها كتبت له عشر حسنات لا أحد عشر لأنا نأخذها بقيد كونها مهموما بها، وكذلك إذا عمل السيئة، فإنه قال: كتبت له سيئة، أي: تكتب له على السيئة المهموم بها سيئة، ولا تكتب عليه واحدة للهم وواحدة للعمل).

فصل:

وفي هذا الحديث تصحيح مقالة من قال: إن الحفظة يكتبون ما يهم به العبد من حسنة أو سيئة، وتعلم اعتقاده كذلك، ورد مقالة من زعم أن الحفظة إنما تكتب ما ظهر من عمل العبد وسمع.

واحتجوا بما روى ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية، عن عائشة قالت: لأن أذكر الله في نفسي أحب إلي من أن أذكره بلساني سبعين مرة; وذلك لأن ملكا لا يكتبها وبشرا لا يسمعها، ذلك وقد جاء أن نية المؤمن خير من عمله، أي: لأنها مخفية عن الملك والبشر.

والصواب في ذلك كما قال الطبري: ما صح به الحديث عنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - أنه قال: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة". والهم بالحسنة إنما هو فعل العبد بقلبه دون سائر الجوارح كذكر الله بقلبه، فالمعنى الذي يصل به الملكان الموكلان بالعبد إلى علم ما يهم به بقلبه، هو المعنى الذي به يصل إلى علم ذكر ربه بقلبه.

[ ص: 543 ] ويجوز أن يكون جعل الله لهما إلى علم ذلك سبيلا، كما يجعل لكثير من أنبيائه السبيل إلى كثير من علم الغيب، وقد أخبر الله تعالى عن عيسى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لبني إسرائيل وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم [آل عمران: 49]، وقد أخبر نبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام - بكثير من علم الغيب، قالوا: فغير مستنكر أن يكون الكاتبان الموكلان بابن آدم قد جعل لهما سبيل إلى علم ما في قلوب بني آدم من خير أو شر فيكتبانه إذا حدث به نفسه أو عزم عليه، وقد قيل: إن ذلك بريح يظهر لهما من القلب.

سئل أبو معمر عن الرجل يذكر الله بقلبه كيف يكتب الملك، قال: يجد الريح، وسيأتي في كتاب الاعتصام في باب قوله تعالى:ويحذركم الله نفسه [آل عمران: 28] اختلاف السلف في أي الذكرين أعظم (ثوابا)، ذكر القلب أو اللسان، قال جماعة بالثاني، روي ذلك عن أبي عبيدة وعبد الله بن مسعود، والصواب في ذلك -كما قال أبو جعفر- الأول، (لمن) لم يكن إماما يقتدى به لا سيما إن كان في محفل اجتمع أهله لغير ذكر الله أو في سوق، وذلك أنه أسلم له من الرياء، وقد روينا في حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مرفوعا: "خير الرزق ما يكفي، وخير الذكر الخفي".

[ ص: 544 ] وأخرجه العسكري في كتاب "السرائر" من حديث زيد بن خالد بلفظ: "خير الذكر ما خفي، وخير الرزق ما كفى" فإن كان خليا فالذكر باللسان والقلب أفضل; لأن شغل جارحتين بما يرضي الله أفضل من شغل جارحة واحدة، وكذا ثلاث جوارح أفضل من جارحتين، وكلما زاد فهو أفضل عند الله.

وروى ابن أبي الدنيا من حديث جابر: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اغدوا وروحوا في ذكر الله، واذكروه في أنفسكم" ومن حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعا: "أفضل" أو قال: "تضاعف الذكر الخفي الذي لا تسمعه الحفظة على الذي تسمعه بسبعين ضعفا" وحديث أبي موسى السالف: "اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا".

وروى العسكري في الكتاب السالف من طريق أبي داود الطيالسي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلا قال: يا رسول الله إني أعمل العمل أسره، فإذا أطلع عليه سرني، فقال: "لك أجران: أجر السر وأجر العلانية"، وعن خصيف أنه قال: إذا عمل رجل عملا وحدث به قيل: اكتبوه علانية، وإن حدث به هو قيل: اكتبوه مرائيا.

[ ص: 545 ] فصل:

لما ذكر ابن التين حديث الباب قال: تأول العلماء هذا على أنه ترك عمل السيئة على القدرة عليها، ويزاد في ذلك حسنة من الله، وقد بينه في مسلم، فقال: "فإن تركها فأنا أكتبها له حسنة، إذا تركها من جرائي ".

وفي حديث آخر: "من هم بالسيئة فلم يعملها لم تكتب". قال: وكثير من الفقهاء والمحدثين على ظاهر هذه الأخبار; فإن هذا تفضل من الله، وأن من هم بسيئة لا إثم عليه، إن لم يعملها، وتكتب له حسنة إذا تركها من خشية الله، ومعنى ما في كتاب مسلم: لم تكتب إذا لم يتركها من خشية الله.

فصل:

قوله: فيما يرويه عن ربه، يقتضي أنه من الأحاديث الإلهية المنسوبة إلى كلام الله -عز وجل- نحو: "أنا عند ظن عبدي بي" وليس المراد ذلك، إنما المراد فيما يحكيه عن فضل ربه أو حكم ربه أو نحو ذلك.

[ ص: 546 ] ومعنى ("كتب") أمر الحفظة بكتابتها، أو كتبها في علم على وفق الواقع فيها. وقوله: ("ثم بين ذلك") أي: فصله، يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصل بقوله: "من هم بحسنة.. " إلى آخره ما أجمله بقوله: "إن الله كتب الحسنات والسيئات").

التالي السابق


الخدمات العلمية