التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6137 6502 - حدثني محمد بن عثمان، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش، بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته". [فتح: 11 \ 340].


ذكر فيه حديث أنس - رضي الله عنه - كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة.

وفي لفظ: كانت ناقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسمى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه".

وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله -عز وجل- قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب

[ ص: 584 ] إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش، بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت أكره مساءته".


الشرح:

اللفظ الثاني: حديث أنس أخرجه البخاري، عن محمد وهو ابن سلام البيكندي، أنا الفزاري، وهو مروان بن معاوية، وأبو خالد الأحمر، وهو سليمان بن حيان الكوفي أزدي، نزل في بني جعفر بن كلاب.

فصل:

ومعنى: ("آذنته بالحرب"): أعلمته، رباعي، وهو ممدود; لأنه رباعي، والتقرب المراد به: قرب المنزلة، وقبول العمل.

وقوله: ("كنت سمعه.. ") إلى آخره، هو من المجاز، يعني: أنه يحفظه كما يحفظ العبد جوارحه لئلا يقع في مهلكة، قاله الداودي، وقال الخطابي: هذه أمثال، والمعنى: ترقيه في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، ويسمع الخير له فيها، فيحفظ جوارحه عليه، ويعصمه من مواقعة ما يكره الله من إصغاء إلى لهو، ونظر إلى ما نهي عنه، وبطش إلى ما لا يحل، وسعي إلى باطل. قال: وقد يكون معناه: سرعة إجابة الدعاء، والإلحاح في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان إنما تكون لهذه الجوارح.

[ ص: 585 ] (فصل):

وفي حديث أنس: بيان الدنيا عند الله من الهوان والضعة. ألا ترى قوله: "إن حقا على الله.. " إلى آخره، فنبه بذلك أمته على ترك المباهاة والفخر بمتاع الدنيا، وأن ما كان عند الله في منزل الضعة فحق على كل ذي عقل الزهد فيه، وقلة المنافسة في طلبه، وترك الترفع. والغبطة بنيله; لأن المتاع به قليل، والحساب عليه طويل.

(فصل):

وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - من معنى الباب: أن التقرب إلى الله بالنوافل حتى يستحق المحبة منه تعالى لا يكون ذلك إلا بغاية التواضع والتذلل له، وهذا وجه مناسبته الباب، وإن كان قال الداودي: إنه ليس من الباب، وقال في حديث أنس أيضا: إن إدخاله هنا ليس من شكله، وقد يحتمل أن يريد أن قوله: "إلا وضعه". فيه: تواضعه - عليه السلام -، وإعلامه أن أمور الدنيا ناقصة، ففي مضمونه الأمر بالتواضع، وأن يكون المرء يجتنب التعاظم والكبر، ويستعمل الخضوع.

فصل:

فيه: أن النوافل، إنما يزكو ثوابها عند الله لمن حافظ على فرائضه وأداها. قال ابن بطال: ورأيت لبعضهم أن وجه البصر، وكذا الأذن في رواية، واليد، والرجل أنه لا يحرك جارحة من جوارحه إلا لله وفي الله، فجوارحه كلها تعمل بالحق، فمن كان كذلك لم ترد له دعوة.

[ ص: 586 ] فصل:

وفيه: جواز المسابقة بالإبل، وهو الإجماع، ولا بأس بالرهن فيه، ولم يقل مالك بالمحلل، والحديث جاء به. قال الداودي: وليس سبق العضباء ينقص من فضله - عليه السلام -، ولا يزيد في صاحب القعود.

والعضباء: التي قطع طرف أذنها أو شق، ولم تكن عضباء بل كان علما لها، وعبارة ابن فارس: شاة عضباء مكسورة القرن.

والقعود: الناقة الكبيرة التي طعنت في السن بفتح القاف. قال في "الصحاح": وهو من الإبل البكر حين تركب، أي يمكن ظهره من الركوب، وأدنى ذلك أن تأتي عليه سنتان، إلى أن يثني، فإذا أثنى سمي جملا، ولا تكون البكرة قعودا بل قلوصا.

قال أبو عبيد: القعود من البعير الذي يقتعد الراعي في كل حاجة. قال: وهو بالفارسية وجب، ويقال له: قعدة بضم القاف. وقال ابن فارس: القعود: الدابة المقتعدة للركوب خاصة، والقعود من الإبل كذلك.

(فصل):

وقد جاء في فضل التواضع آثار كثيرة، فروى الطبري من حديث شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - رفعه: "ما تواضع رجل إلا رفعه الله بها درجة".

[ ص: 587 ] وعن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - رفعه: "ما من بني آدم أحد إلا وفي رأسه سلسلتان: إحداهما في السماء السابعة، والأخرى في الأرض السابعة، فإذا تواضع رفعه الله بالسلسلة التي في السماء، وإذا أراد أن يرفع رأسه وضعه الله".

وفي كتاب الجوزي قالت عائشة - رضي الله عنها -: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة التواضع. وفيه من حديث إسماعيل بن عياش، عن مطعم بن المقدام الصنعاني، وعنبسة بن سعيد، عن نصيح العنسي، عن ركب الحميري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسكنة". الحديث، ومن حديث الحجاج بن يوسف الأصبهاني، عن بشر بن الحسين، ثنا الزبير بن عدي، عن أنس رفعه: "إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله تعالى".

[ ص: 588 ] ومن حديث نعيم بن مورق، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة مرفوعا: "من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله"، ومن حديث محمد بن طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبيه، (عن جده)، عن طلحة بن عبيد الله بمثله مرفوعا. وعن الحسن: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوحى الله إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد". وروينا في "رقائق ابن المبارك"، عن معاذ بن جبل أنه قال: لن يبلغ ذروة الإيمان، حتى تكون الضعة أحب إليه من الشرف، وما قل من الدنيا أحب إليه مما كثر.

فصل:

قال الطبري: التواضع من المحن التي امتحن الله بها عباده المؤمنين; لينظر كيف طاعتهم فيها إياه، ولما علم تعالى من مصلحة خلقه في ذلك في عاجل دنياهم وآجل أخراهم، فمصلحة الدنيا به لو استعمله الناس لارتفع -والله أعلم- الشحناء بينهم والعداوة،

[ ص: 589 ] واستراحوا من تعب المباهاة، والمفاخرة والتذوا بما قسم لهم، وكان لهم فيه صلاح ذات البين، وارتفاع الحسد والشح.

روى النعمان بن بشير، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "للشيطان (مصائد) وفخوخ، منها البطر بما أنعم الله، والفخر بعطاء الله، والتكبر على عباد الله".

فصل:

وتواضعه - عليه السلام - معلوم لا يخفى، ومنه أنه لما دخل مكة جعل الناس يقولون: هو هذا، هو هذا، فجعل يحني ظهره على الرحل، ويقول: "الله أعلى وأجل".

وهذه سيرة السلف المهديين; روى سفيان، عن أيوب الطائي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خفيه، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره; فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنعا عظيما عند أهل الأرض فصك في صدره، وقال له: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبون العز في غيره يذلكم الله.

[ ص: 590 ] وروى ابن وهب بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه أقبل في السوق يحمل حزمة حطب، وهو يومئذ خليفة لمروان، فقال: أوسعوا الطريق للأمير فقيل له: يكفي أصلحك الله، فقال: أوسع الطريق للأمير، فقيل له: يكفي أصلحك الله، فقال: أوسع الطريق والحزمة عليه. وعن عبد الله بن سلام أنه خرج من حائط له بحزمة حطب يحملها، فقيل له: قد كان في ولدك وعبيدك من يكفيك هذا قال: أردت أن أجرب قلبي هل ينكر هذا. وعن سالم بن عبد الله أنه كان يخرج إلى السوق، فيشتري حوائج نفسه، وكان الربيع بن خثيم يكنس الحش بنفسه، فقيل له: إنك تكفى هذا. فقال: أحب أن آخذ بنصيبي من المهنة. واستقصاء ذلك مما يطول.

فصل:

وقوله: ("وما ترددت عن شيء.. ") إلى آخره. أي: ما عطفت وشفقت، والكراهية من الله، والمحبة، والرضا، والسخط، والغضب ما يكون منه من ذلك قد سبق في علمه، فليس هو محتمل الحوادث. وقال الخطابي: هو مثل، والتردد في صفات الله غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير ثابت، وتأويله على وجهين:

أحدهما: أن العبد قد يشرف مرات على المهالك فيدعو الله فيشفيه، يكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرا، ثم يبدو له ولا مرد له منه إذا بلغ الكتاب أجله; فإنه كتب الفناء على خلقه، وهذا على معنى ما ورد: أن الدعاء يرد البلاء.

[ ص: 591 ] والثاني: ما ترددت رسلي في شيء أنا فاعله ترددي إياهم في ذلك، وكما روي في قصة موسى وملك الموت، وما كان من لطمه وتردده إليه، وحقيقة المعنى في الوجهين بقاء عطف الله على العبيد، وشفقته عليهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية