التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
47 [ ص: 144 ] 35 - باب: اتباع الجنائز من الإيمان

47 - حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي المنجوفي قال: حدثنا روح قال: حدثنا عوف عن الحسن ومحمد، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط". تابعه عثمان المؤذن قال: حدثنا عوف، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نحوه. [1324، 1323، 1325 - مسلم 945 - فتح: 1 \ 108]


ثنا أحمد بن عبد الله بن علي المنجوفي، ثنا روح، ثنا عوف، عن الحسن ومحمد، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط".

تابعه عثمان المؤذن قال: حدثنا عوف، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نحوه.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في التعريف برواته غير من سلف، وهو أبو هريرة والحسن، وهو البصري.

وأما محمد فهو ابن سيرين وهو أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري، مولاهم البصري التابعي الجليل، أخو أنس ومعبد ويحيى وحفصة وكريمة أولاد سيرين، وسيرين مولى أنس من سبي عين التمر، وإذا أطلق ابن سيرين فهو محمد هذا، وهؤلاء الستة كلهم تابعيون.

[ ص: 145 ] ذكر أبو علي الحافظ: خالدا بدل: كريمة قال: وأكبرهم معبد وأصغرهم حفصة.

قلت: ومن أولاد سيرين أيضا عمرة وسودة، قال ابن سعد : أمهما أم ولد كانت لأنس. وذكر بعضهم من أولاده: أشعث أيضا، فهؤلاء عشرة.

وروى (محمد، عن يحيى، عن أنس، عن أنس بن مالك ) حديثا.

قال ابن الصلاح: وهذه غريبة عايا بها بعضهم فقال: ثلاثة إخوة يروي بعضهم عن بعض. وكأنه تبع الرامهرمزي فإنه ذكره في "فاصله" كذلك وزاد: ثلاثة إخوة (فقهاء).

وزاد ابن طاهر أخا رابعا فيه وهو: معبد بين يحيى وأنس، فاستفد ذلك. وقد أوضحته في "المقنع في علوم الحديث".

كاتب أنس سيرين على عشرين ألف درهم فأداها وعتق. وأم محمد وإخوته صفية مولاة الصديق، طيبها ثلاث من أمهات المؤمنين ودعون لها، وحضر إملاكها ثلاثة عشر بدريا، منهم: أبي بن كعب يدعو وهم يؤمنون.

سمع جمعا من الصحابة وخلقا من التابعين. قال هشام بن حسان: أدرك ثلاثين صحابيا. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وهو أكبر من [ ص: 146 ] أخيه أنس، وعنه خلق من التابعين: الشعبي وقتادة وأيوب وغيرهم. مات سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة يوم.

وقد أسلفنا أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، فلهذا قرنه البخاري بمحمد لأنه سمع منه، فالاعتماد عليه إذن.

وأما عوف فهو أبو سهل بن أبي جميلة بندويه الأعرابي -ولم يكن أعرابيا- العبدي الهجري البصري. سمع (جمعا) من كبار التابعين منهم: الحسن، وعنه الأعلام: الثوري وشعبة وغيرهما. وثقته مجمع عليها. ولد سنة تسع وخمسين، ومات. سنة ست، وقيل: سبع وأربعين ومائة. ونسب إلى (التشيع).

وأما روح (ع) فهو أبو محمد روح بن عبادة بن العلائي حسان بن عمرو بن مرثد القيسي البصري. سمع خلقا من الأعلام أشعث ومالكا وغيرهما، وعنه أحمد وغيره من الأعلام.

قال الخطيب: كان كثير الحديث، وصنف الكتب في السنن والأحكام والتفسير، وكان ثقة. وقال ابن المديني: نظرت لروح في أكثر من مائة ألف حديث، كتبت منها عشرة آلاف. وقال يحيى بن معين : لا بأس به صدوق. مات سنة خمس ومائتين.

[ ص: 147 ] وأما أحمد شيخ البخاري فهو أبو بكر أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف -بفتح الميم ثم نون ساكنة ثم جيم ثم فاء- السدوسي المنجوفي البصري، سمع ابن مهدي وغيره، وعنه البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم. مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين.

وأما عثمان المذكور في المتابعة فهو أبو عمرو عثمان بن الهيثم بن جهضم بن عيسى بن حسان بن المنذر البصري العبدي مؤذن جامعها، سمع عوفا وغيره، وعنه الذهلي وآخرون، وروى البخاري عنه في مواضع، وروى هو والنسائي عن رجل عنه، وروى البخاري عن محمد غير منسوب وهو الذهلي عنه، مات في رجب سنة عشرين ومائتين.

الوجه الثاني:

قوله: (تابعه عثمان) أي: تابع روحا في الرواية عن عوف، فالهاء عائدة على روح، فالحديث من رواية عثمان رباعي، ومن رواية المنجوفي خماسي، وذكر هذا أولا; لأنه أتم سياقا; ولهذا قال: تابعه عثمان نحوه.

الوجه الثالث: في ألفاظه ومعانيه:

الجنازة -بفتح الجيم وكسرها-: اسم للميت وللسرير أيضا، والكسر أفصح، وقيل: بالفتح للميت وبالكسر للنعش وعليه الميت.

وقيل: عكسه. مشتقة من جنز إذا ستر.

[ ص: 148 ] ومعنى: اتبعها: مشى معها وحضرها. يقال: تبعت الشيء تبعا وتباعة -بفتح التاء- وتبع وأتبع (واتبع) واحد، وقيل: أتبعه: لحقه ومشى خلفه، واتبعه: حذا حذوه.

وتقدم تفسير قوله: ("إيمانا واحتسابا")، وقوله: ("ويفرغ") هو بضم أوله وفتح ثالثه وهو أعم.

والقيراط: اسم لمقدار من الثواب يقع على القليل والكثير، بين في هذا الحديث أنه مثل أحد، وفي رواية للحاكم: "القيراط أعظم من أحد" ثم قال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وفي رواية للحاكم من حديث أبي بن كعب مرفوعا: "والذي نفس محمد بيده لهو في الميزان أثقل من أحد" في إسناده الحجاج بن أرطاة، (حالته) معلومة.

وفي "السنن الصحاح المأثورة" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "من أوذن بجنازة فأتى (أهلها) فعزاهم كتب الله له قيراطا، فإن شيعها كتب الله له قيراطين، فإن صلى عليها كتب الله له ثلاثة قراريط، فإن شهد [ ص: 149 ] دفنها كتب الله له أربعة قراريط. القيراط مثل أحد".

الوجه الرابع: في أحكامه وفوائده:

الأولى: الحث على الصلاة على الميت واتباع جنازته وحضور دفنه. وسيأتي بسط هذا كله في موضعه إن شاء الله تعالى وقدره.

قال أبو الزناد: حض الشارع على التواصل في الجنازة بقوله: "صل من قطعك، وأعط من حرمك"، و"لا تقاطعوا ولا تدابروا" وعلى التواصل بعد الموت بالصلاة والتشييع إلى القبر والدعاء له.

قلت: والتشييع من حقوق المسلم على المسلم. كما أخرجه الترمذي من حديث (...): "للمسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا [ ص: 150 ] مرض، ويشيع جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه".

الثانية: القيراط الأول يحصل بالصلاة إذا انفردت، فإن ضم إليها اتباعه وحضوره حتى يفرغ من دفنه حصل له قيراط ثان.

ولا يقال: يحصل بالصلاة مع الدفن ثلاثة كما قد يتوهم من ظاهر بعض الأحاديث، فالمطلق والمجمل محمول على هذا المصرح، وممن صرح بحصولهما فقط أبو الحسن علي بن عمر القزويني وابن الصباغ، من أصحابنا.

قال -أعني: ابن الصباغ-: وأما رواية: "ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان" (فمعناها): فمن تبعها حتى تدفن فله تمام قيراطين بالمجموع، قال: ونظيره قوله تعالى: قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى قوله: في أربعة أيام [فصلت: 9 - 10]، (أي: تمام أربعة). ثم قال: فقضاهن سبع سماوات في يومين .

[ ص: 151 ] الثالثة: في (الدفن الذي يحصل به) القيراط الثاني وجهان:

أصحهما: بالفراغ منه. أي: من تسوية القبر، والثاني: يحصل إذا ستر الميت في القبر باللبن وإن لم يلق عليه التراب.

وفي وجه ثالث بعيد أنه يحصل بمجرد الوضع في اللحد وإن لم يلق عليه التراب، ورواية مسلم : "حتى يوضع في اللحد" تدل عليه، لكنها تؤول بالفراغ من الدفن جمعا بين الروايتين، وسيكون لنا عودة -إن شاء الله تعالى- إلى هذا الموضع في بابه.

الرابعة: الحديث (دل) على أن حصول القيراطين إذا اتبعها وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ منها، ومن سبقها إلى الصلاة أو إلى القبر فأجره دون ذلك; لأنه ليس معها. وكره أشهب اتباعها والرجوع قبل الصلاة.

الخامسة: حكى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لا ينصرف بعد الدفن إلا بإذن، وإطلاق هذا الحديث وغيره يخالفه.

[ ص: 152 ] السادسة: قد يستدل بلفظ الاتباع من يرى أن المشي وراء الجنازة أفضل من أمامها، وهو مذهب أبي حنيفة، والجمهور على خلافه، وبه قال باقي الأئمة الأربعة، وقال الثوري وطائفة: هما سواء.

ولا فرق عندنا بين الراكب والماشي، خلافا للثوري، حيث قال: إن الراكب يكون خلفها. وتبعه الرافعي في "شرح المسند"، وكأنه قلد الخطابي; فإنه كذا ادعى.

وفيه حديث صححه الحاكم على شرط البخاري من حديث المغيرة بن شعبة، وقال به من المالكية أيضا أبو مصعب.

السابعة: الحديث دال على أن الثواب المذكور إنما يحصل لمن تبعها إيمانا واحتسابا، فإن حضورها على ثلاثة أقسام: احتساب، ومكافأة، ومخافة.

والأول: هو الذي يجازى عليه الأجر ويحط الوزر، والثاني: لا يبعد ذلك في حقه، والثالث: الله أعلم بما فيه.

الثامنة: إنما كان الجزاء بالقيراط دون غيره; لأنه أقل مقابل عادة، وإنما خص بأحد; لأنه أعظم جبال المدينة، والشارع كان يحبه وهو يحبه.

[ ص: 153 ] التاسعة: وجوب الصلاة على الميت ودفنه وهو إجماع.

العاشرة: الحض على (الاجتماع) لهما والتنبيه على عظم ثوابهما وهي مما خصت بها هذه الأمة، وفيه غير ذلك مما أوضحته في "شرح العمدة" فراجعه منه.

التالي السابق


الخدمات العلمية