التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6222 6595 - حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقها [ ص: 124 ] قال: أي رب، ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه". [انظر: 318 - مسلم: 2646 - فتح: 11 \ 477].


استروح بعض شيوخنا من شراحه فقال: أبوابه كلها تقدمت ولم يزد، ثم انتقل إلى الأيمان والقدر، وهذا كما فعل في الأدب إلى الاستئذان حيث تفرد في نحو أربع ورقات بخطه، وهو في كتاب البخاري نفسه ثلاث وعشرون ورقة، وقد شرحناه بحمد الله في نحو نصف جزء كما سلف.

وما خاب المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وعلى تقدير سبقها فتراجم البخاري وفقهه في أبوابه وصناعته في إسناده، أين تذهب؟ وللحروب رجال، فمن يتصدى لهذا الكتاب الجليل، ويعمل فيه هذا العمل القليل، في كثير مع عدم التحرير والتصحيف والتحريف والتكرار والنقص والتقليد والتقديم والتأخير؟! والله المستعان.

[ ص: 125 ] ذكر البخاري في الباب:

حديث زيد بن وهب ، عن عبد الله، يعني: ابن مسعود ، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق-: "إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما... الحديث.

وحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب، أذكر أم أتثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه) .

الشرح:

حديث أنس سلف في الحيض، وحديث ابن مسعود سلف في بدء الخلق.

ومعنى وصفه بالصادق: عصمته، لا يقول إلا حقا، وبالمصدوق: أن الله صدقه فيما وعده به ، وهذا تأكيد. و"العلقة" واحدة العلق، وهو الدم قبل أن (يغيض) وهو جامد، والمضغة: القطعة الصغيرة من اللحم، سميت بذلك; لأنها قدر ما يمضغ.

وقوله: ("فيؤمر بأربع") أي: كلمات، ولذا لم تثبت الهاء في أربع.

وقوله: ("برزقه، وأجله، وشقي أو سعيد") هذه ثلاثة; لأنه لا تجتمع الشقاوة والسعادة في واحد، وهو قد قال: "أربع" ولعله ذكر جملة ما يؤمر به. لا أن كل شخص يؤمر فيه بهذه الأربع، وفي رواية أخرى: "رزقه، وأجله، وأثره، وشقي أو سعيد" وهذا أبين من [ ص: 126 ] الأول، ويكون على كل شخص (وفي ابن حبان زيادة سلفت؛ إذ روى من حديث أبي الدرداء مرفوعا: "فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من رزقه، وأجله، وعمله، وأثره، ومضجعه" يعني: قبره، فإنه مضجعه على الدوام وما تدري نفس بأي أرض تموت [لقمان: 34].

وروى رزين في "تجريد الصحاح" من حديث سهل بن سعد مرفوعا: "إذا دفعت النطفة في الرحم" الحديث، وفيه: فيقول: "أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد، وما عمره، وما رزقه، وما أثره، وما مصائبه، فيقول الله، ويكتب الملك" فإذا مات الجسد، ودفن من حيث أخذ ذلك التراب، كذا ذكره، ولم يعلم له، ومقتضاه أن البخاري رواه، كما اصطلح عليه في خطبته، ولم نره فيه، لا جرم عزاه ابن الأثير إلى رزين وحده، وهو غريب غير مشهور). ومعنى: "يجمع في بطن أمه": ما فسره ابن مسعود ، وسئل الأعمش عنه، فقال: حدثني خيثمة قال: قال عبد الله بن مسعود : إن النطفة إذا وقعت في الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشرا طارت في بشر المرأة، تحت كل شعرة وظفر، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تصير دما في الرحم، فذلك جمعها .

وقوله: ("يعمل بعمل أهل الجنة") إلى آخره. قال الداودي : يقول قد يعمل أحدكم العمل الصالح إلى قرب موته، وقرب معاينته الملائكة الذين يقبضون روحه، ثم يعمل السيئات التي توجب النار، وتحبط ذلك العمل، فيدخل النار، والإيمان لا يحبطه إلا الكفر، قال تعالى: ولقد أوحي إليك الآية [الزمر: 65].

[ ص: 127 ] وذكر عن عمرو بن عبيد إمام القدرية ، وزاهدهم ومقدمهم، أنه قال: لو سمعت هذا الحديث من أبي عثمان (لكتبته) ولو سمعته من زيد بن وهب لرددته، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته، ولو سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطرحته، ولو سمعته من الله لقلت: ما على هذا أخذت مواثيقنا؟ فهذا قد ارتكب في مقالته هذه خطبا جسيما، نعوذ بالله من الضلال، ونسأله الفوز من الأهوال.

وقوله: ("غير باع أو ذراع") قال ابن التين : غير باع; كذا وقع لأبي ذر ، والباع; قدر مد اليدين، وهذا تمثيل كلام، وقد بسطت شرحه في "شرح الأربعين" أكمل من هذا.

فصل:

قال المهلب : في هذا الحديث رد لقول القدرية ، واعتقادهم أن العبد يخلق أفعاله كلها من الطاعات والمعاصي، وقالوا: إن الله يتنزه عن أن يخلق المعاصي والزنا والكفر وشبهه، فبان في هذا الحديث تكذيب قولهم بما أخبر به - عليه السلام - أنه يكتب في بطن أمه شقي أو سعيد، مع تعريف الله العبد أن سبيل الشقاء هو العمل بالمعاصي والكفر ، فكيف يجوز أن يعمل بما أعلمه الله أنه يعذبه عليه، ويشقيه به مع قدرة العبد على اختياره لنفسه وخلقه لأعماله دون ربه تعالى أن يكون معه خالق غيره، ثم قطع القدرية بقوله: "فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" فلو كان الأمر إلى اختياره أتراه كان يختار [ ص: 128 ] خسارة عمله طول عمره بالخير، ثم يخلق لنفسه عملا من الشر والكفر، فيدخل به النار، وهل السابق له إلا فعل ربه وخلقه له؟ وخلق عمله السيئ كسبا له، فاكتسب العبد بشهوة نفسه الأمارة بالسوء (مستلذا) بذلك العمل، أقدره الله عليه بقدرة خلقها له بحضرة الشيطان المغوي لنفسه الأمارة له مع الشيطان بالسوء، فاستحق العقاب على ذلك، فانقطعت حجة العبد بالنذارة، وانقطعت حجة القدرية بسابق كتاب الله تعالى على العبد المعترف بمآل أمره اكتسابه العمل القبيح; يخلق الله له قدرة على عمله بحضرة عدويه; نفسه وشيطانه; ولذلك نسب الشر إلى الشيطان لتزيينه له ، ونسبة الخير إلى الله لخلقه لعبده، وإقدار العبد عليه مع حضرة الملك المسدد له، الدافع لشيطانه عنه بعزة الله وعصمته، هذا هو أصل الكلام في القدرية ، ثم يلزمهم أن يكون العبد شريكا لله في خلقه، بأن يكون العبد يخلق أفعاله، والله تعالى قد أتى من ذلك بقوله: الله خالق كل شيء [الرعد: 16] و هل من خالق غير الله [فاطر: 3] فخالفوا النص، وأوجبوا للعبد من القدرة على خلق عمله ما أوجبه الله لنفسه من الانفراد بالخلق; ولذلك سميت القدرية مجوس هذه الأمة في عدة أحاديث; لقولها بخالقين، مثل ما قالته المجوس من اعتبارها الأرباب من الشمس والقمر والنور والنار والظلمة، كل على اختياره، وقد نص الله على إبطال قول القدرية لعلمه بضلالهم; ليهدي بذلك أهل سنته، فقال تعالى: والله خلقكم وما تعملون [الصافات: 96].

التالي السابق


الخدمات العلمية