التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6231 6605 - حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي - رضي الله عنه - قال: كنا جلوسا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه عود ينكت في الأرض وقال: " ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة". فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر" ثم قرأ: [ ص: 137 ] فأما من أعطى واتقى [الليل:5] الآية. [انظر: 1362 - مسلم: 2647 - فتح: 11 \ 494].


ذكر فيه خمسة أحاديث:

أحدها:

حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "لا تسأل المرأة طلاق أختها" سلف في النكاح.

ثانيها:

حديث أسامة - رضي الله عنه - أتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -رسول إحدى بناته - أن ابنها يجود بنفسه، فبعث إليها: "لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيء بأجل، فلتصبر ولتحتسب" .

ثالثها:

حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - في العزل: "لا عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة" الحديث، سلف في موضعه.

رابعها:

حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: لقد خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيت، فأعرف كما يعرف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه .

خامسها:

حديث علي - رضي الله عنه -: كنا جلوسا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه عود ينكت في الأرض، وقال: "ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من [ ص: 138 ] الجنة". فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر" ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى الآية [الليل: 5] .

غرضه في الباب كما نبه عليه المهلب أن يبين أن جميع مخلوقات الله المكونات بأمر كلمة كن، من حيوان أو عرض، أو حركات العباد ، واختلاف إرادتهم وأعمالهم بمعاص أو طاعات، كل مقدر بالأزمان والأوقات، لا مزيد في شيء منها ولا نقصان عنها، ولا تأخير لشيء منها عن وقته، ولا يقدم قبل وقته.

ألا ترى قوله: "لا تسأل المرأة طلاق أختها" لتصرف حظها إلى نفسها ولتنكح، فإنه لا تنال من الرزق إلا ما قدر لها كانت له زوجة أخرى أو لم تكن.

فصل:

وقوله: ("اعملوا فكل ميسر لما خلق له") فيه دليل على إبطال قول أهل الجبر ; لأن (التيسير غير الجبر) واليسرى: العمل بالطاعة. والعسرى: العمل بالمعصية.

فصل:

في حديث علي - رضي الله عنه - كما نبه عليه الطبري : إن الله لم يزل عالما بمن يطيعه فيدخله الجنة، وبمن يعصيه فيدخله النار. ولم يكن استحقاق من استحق الجنة منهم لعلمه السابق فيهم، ولا استحقاق من يستحق منهم النار لعلمه فيهم، ولا اضطر أحدا منهم علمه السابق إلى طاعة ولا معصية، ولكنه جل جلاله نفذ علمه فيهم قبل أن يخلقهم، وما هم [ ص: 139 ] عاملون، وإلى ما هم إليه صائرون، إذ كان لا تخفى عليه خافية قبل أن يخلقهم وبعدما خلقهم; ولذلك وصف أهل الجنة فقال: ثلة من الأولين وقليل من الآخرين إلى قوله: وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون [الواقعة: 22، 23، 24] وقال تعالى: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة: 17] وكذلك قال في أهل النار: ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون [فصلت: 28] فأخبر أنه أثاب أهل طاعته جنته بطاعته، وجازى أهل النار بمعصيتهم إياه، ولم يخبرنا أنه أدخل من أدخل منهم النار والجنة لسابق علمه فيهم، ولكنه سبق في علمه أن هذا من أهل السعادة والجنة، ويعمل بطاعته، وفي هذا أنه من أهل الشقاء، وأنه يعمل بعمل أهل النار فيدخلها بمعصيته; فلذلك أمر تبارك وتعالى ونهى ليطيعه الطائع منهم، فيستوجب بطاعته الجنة، ويستحق العقاب منهم العاصي بمعصيته، فيدخل بها النار، ولتتم حجة الله تعالى على خلقه.

فإن قلت: فما معنى قوله إذا: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" إن كان الأمر كما وصف من أن الذي سبق لأهل السعادة والشقاء لم يضطر واحدا من الفريقين إلى الذي كان يعمل، ويمهد لنفسه في الدنيا، ولم يجبره على ذلك، بل هو أن كل فريق من هذين مسهل له العمل الذي اختاره لنفسه مزين له، كما قال تعالى: ولكن الله حبب إليكم الإيمان إلى قوله: حكيم [الحجرات: 8] وأما أهل الشقاء فإنه زين لهم سوء أعمالهم; لإيثارهم لها على العمل بطاعته ، كما قال تعالى: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون [النمل: 4] وكما قال: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء [فاطر: 8]

[ ص: 140 ] وهذا يصحح ما قلنا: من أن علمه تعالى النافذ في خلقه بما هم عاملون، وكتابه الذي كتبه قبل خلقه أتاهم بأعمالهم لم يضطر أحدا منهم إلى عمله ذلك; لأن المضطر إلى الشيء لا شك أنه يكره عليه لا محبة له، بل هو له كاره ومنه هارب، والكافر يقاتل دون كفره أهل الإيمان، والفاسق يناصب دون فسوقه الأبرار، محاماة من هذا عن كفره الذي اختاره على الإيمان، وإيثارا من هذا لفسقه على الطاعة، وكذلك المؤمن يبذل مهجته دون إيمانه، ويؤثر العناء والنصب دون ملاذه وشهواته; حبا لما هو له مختار من طاعة ربه على معاصيه، وأنى يكون مضطرا إلى ما يعمله من كانت هذه صفته، فبان أن معنى قوله - عليه السلام -: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" هو أن كل فريقي السعادة والشقاوة مسهل له العمل الذي اختاره، مزين ذلك له، محبب إليه كما قلنا.

فصل:

معنى يجود بنفسه هو في السياق، يقال: جاد بنفسه عند الموت يجود جودا.

وقوله: "فلتصبر ولتحتسب" ولم يقل: فلتصبرين; لأنها غائبة، والغائب لا يخاطب بما يخاطب به الحاضر. تقول: هند تقوم وتقعد، وأنت تقومين، وليقم زيد، ولتقعد زينب. وقال الداودي : إنما خاطب الرسول ولو خاطب المأمور بالصبر، لقال: فاصبري واحتسبي.

فصل:

وقوله: ("لا عليكم ألا تفعلوا") قيل: هو على النهي، وقيل: على الإباحة للعزل، أي: لكم أن تعزلوا، وليس فعل ذلك موءودة; بدليل [ ص: 141 ] حديث جابر فيه، واحتج به فقهاء الأمصار على داود في إباحته بيع أمهات الأولاد ; لأن الإحبال لو كان لا يمنع البيع لقال: وأي حاجة لكم إلى العزل، والبيع جائز ولو حملن; لأن الحبل يبطل الثمن- أي: في قولهم: (ونحب المال) وإلا لم يكن يقرهم على هذا الاعتقاد وتكلف الحبلة له.

وقال لمن احتج لداود : لا دليل في ذلك; لأن ظاهره أنهم كانوا يريدون الفداء، فإذا حملن تعذر ذلك حتى يلدن، وإلا صار أولاد المسلمين في أيدي الكفار، ولعل العرب الذي كان ذلك السبي منهم إذا حملت من مسلم لا يفتدونها، فإن فادى بها فيسير من المال; لأن الإحبال ينقصهن، فعلى هذا سألوا إن صح الحديث أن الإيلاد يمنع البيع. قال: وفيه فساد آخر، وهو أن وطء السبي والالتذاذ بهن يحرم حتى يقسمن ويستبرئن بعد الملك، فكيف أرادوا وطأهن؟ ولعل القوم إنما أرادوا الالتذاذ بهن لشدة العزبة، وظنوا أن وطأها فيما دون الفرج مباح، إذا اجتنبوا موضع الولد، فأعلمهم الشارع أن الماء يسبق إلى الفرج، فيكون معه الولد مع العزل، ليس لهم تحريمه، وإذا احتمل ذلك لم يكن فيه دليل على منع بيعهن.

وفي قوله: ("ليست") نسمة كائنة إلا وهي كائنة") يدل: أن الولد يكون مع العزل، ولهذا إذا ادعى العزل حرم النفي على الصحيح عندنا.

التالي السابق


الخدمات العلمية