التوضيح لشرح الجامع الصحيح

ابن الملقن - عمر بن علي بن أحمد الأنصاري

صفحة جزء
6240 [ ص: 161 ] 11 - باب: تحاج آدم وموسى عند الله

6614 - حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال حفظناه من عمرو، عن طاوس سمعت أبا هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. قال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدر الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! فحج آدم موسى، فحج آدم موسى" ثلاثا.

قال سفيان: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. [انظر: 3409 - مسلم: 2652 - فتح: 11 \ 505].


ذكر فيه حديث سفيان قال: حفظناه من عمرو ، عن طاوس ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "احتج آدم وموسى ، فقال موسى : يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. قال له آدم : يا موسى ، أنت الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدر الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! فحج آدم موسى " ثلاثا .

قال سفيان : ثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله.

الشرح:

رواه مالك ، عن أبي الزناد ، به بزيادة: "اصطفاك الله برسالته" وليس فيه: "وخط لك بيده" وليس فيه: "بأربعين سنة" ولا: "أنت أبونا" ففيه دليل على سابق العلم، ويحتمل قوله: ("قدره الله علي قبل أن يخلقني") بكذا أن يكون ذلك قوله تعالى للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة [البقرة: 30] وذلك مقدر عليه في الأزل.

[ ص: 162 ] وقول موسى : "يا آدم " وهو أبوه; لشدة غضبه، وكان شديد الغضب، يكاد شعره يخرج من ثوبين عند الغضب، والخيبة: الحرمان والخسران، وقد خاب يخيب، يخوب.

وقوله: ("وخط لك بيده") يعني: التوراة، وهذا لا يوصف إلا بما في النص، لا يزاد عليه (بحاسة) ولا غيرها.

وقوله: ("فحج آدم موسى ") أتى عليه بالحجة. قال الداودي : وإنما تحاجا في الخروج من الجنة، فقامت حجة آدم : أن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، ولم يحتج آدم في نفي الذنب عن نفسه; لأنه لا يقوم له سابق العلم حجة، أنه كان أكله من الشجرة اختيارا. وجدالهما هذا يحتمل أن يكون بين روحيهما بعد موت موسى، أو يكون ذلك يوم القيامة. وقال ابن بطال: معنى احتج آدم وموسى : التقت أرواحهما في السماء، فوقع هذا الحجاج بينهما، وقد جاءت الرواية بذلك.

روى الطبري ، عن يونس بن عبد الأعلى ، ثنا ابن وهب ، ثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن موسى قال: يا رب، أبونا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم وقال له: أنت آدم ؟ قال: نعم، قال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر ملائكته فسجدوا لك، فما حملك أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولا من [ ص: 163 ] خلقه؟ قال: نعم، قال: أفما وجدت في كتاب الله أن ذلك كائن قبل الخلق؟ قال: نعم" . وذكر الحديث.

قال المهلب وغيره وقوله: ("فحج آدم موسى ") أتى عليه بالحجة.

قال الليث بن سعد : وإنما صحت الحجة في هذه القصة لآدم على موسى من أجل أن الله قد غفر لآدم ، وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعيره بما قد غفرها الله له، ولذلك قال له آدم : أنت موسى الذي آتاك الله التوراة، وفيها علم كل شيء، فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية، وقدر علي التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عني، أفتلومني أنت، والله لا يلومني؟! وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له: إن عثمان فر يوم أحد . فقال ابن عمر : ما على عثمان ذنب; لأن الله قد عفى عنه بقوله: ولقد عفا الله عنهم [آل عمران: 155].

وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة فإن العلماء مجمعون أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم ، فيقول: أتلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت، وقد قدر الله علي ذلك، والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه.

فإن قلت: فإن القدرية احتجت بقول موسى : "أنت آدم خيبتنا وأخرجتنا من الجنة" فنسب التخييب والإخراج إليه. قالوا: هذا يدل أن العباد يخلقون أفعالهم طاعتها ومعصيتها ، ولو كانت خلقا منه لم يصح أن يأمرهم ولا ينهاهم.

قال: وكذلك احتجت الجهمية على صحة الجبر، يقول آدم : "أتلومني على أمر قدر علي".

[ ص: 164 ] فالجواب: أنه ليس في قول موسى دليل قاطع على اعتقاد القول بالقدر، وأن العبد خالق لأفعاله دون ربه كما زعمت القدرية ; لأنه ليس في قوله: "أنت آدم " إلى آخره أكبر من إضافة التخييب والإخراج إليه، وإضافة ذلك إليه لا يقتضي كونه خالقا لهما؛ إذ قد يصح في اللغة إضافة الفعل إلى من يقع منه على سبيل (المجاز) وإلى من يقع منه على سبيل الاكتساب.

وإذا احتملت إضافة التخييب والإخراج الوجهين جميعا لم يقض بظاهره على أحد الاحتمالين دون الآخر إلا بدليل قاطع، وقد قام الدليل الواضح على استحالة اختراع المخلوق أفعاله دون إقدار الله له على ذلك بقوله تعالى: الله خالق كل شيء [الرعد: 16] وبقوله: والله خلقكم وما تعملون [الصافات: 96] وليس يجوز أن يريد تعالى بهذا: الحجارة; لأن الحجارة أجسام، والأجسام لا يجوز أن يعملها العباد، فدل أنه تعالى خالق أعمالهم، وقال تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة [الشورى: 29] واجتماعهم فعل لهم، وقد أخبر تعالى أنه خلق له، وقد ثبت أنه تعالى قادر على جميع أجناس الحركات التي يحدثها العباد، بدلالة أنه أقدرهم عليها، وما أقدرهم عليه فهو عليه أقدر، كما أنه ما أعلمهم (به) فهو به أعلم، فثبت أنه تعالى خالق الأفعال، والعبد مكتسب لها، كما نقول: إنه تعالى منفرد بخلق الولد، والوالد منفرد بكون الولد ولدا له، لا شركة فيه لغيره، فنسبة الأفعال إليه تعالى من جهة خلقه لها، ونسبتها إلى العباد من جهة اكتسابهم لها. هذا مذهب أهل [ ص: 165 ] السنة والحق، وهو مذهب موسى - عليه السلام - من قوله: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء [الأعراف: 155] فأضاف موسى الهداية والإضلال إلى الله تعالى، ولا تصح هذه الإضافة إلا على سبيل خلقه لها دون من وجدت منهم.

وأما قول الجهمية : إن الله تعالى أجبر العباد على أفعالهم، وهم مكرهون على الطاعة والمعصية، واحتجوا بقول آدم : "أتلومني" إلى آخره، فلا حجة لهم فيه أيضا; لأن الموجود بالاعتبار والمشاهدة خلاف قولهم، وذلك أن العباد لا يأتون الذنوب إلا مشتهين لها، راغبين فيها، والإجبار عند أهل اللغة هو اضطرار المرء إلى الفعل، وإدخاله فيه، غير راغب فيه، ولا محب له كالمسحوب على وجهه، والمرتعش من الحمى والفالج. وأهل الجبر معتقدون لوم من وقعت منه معصية الله، وتأنيبه عليها أشد التأنيب، أو مدح من وقعت منه الطاعة، وإثابته عليها، وإذا كان هذا عندهم، فاحتجاجهم بتأنيب آدم موسى على لومه له على أمر قد قدره عليه (وأكرهه عليه) فاسد متناقض على مذهبهم.

ومحاجة آدم موسى في أنه ذاكره ما قد عرفه، ووقف عليه في التوراة من توبة الله على آدم بما وقع، وإسقاطه اللوم عليها فوجب على موسى ترك لومه وعتابه على ما كان منه.

وقد سئل جعفر بن محمد الصادق ، فقيل له: هل أجبر الله تعالى العباد؟ قال: الله تعالى أعدل من ذلك.

قيل: فهل فوض إليهم؟ قال: الله أعز من ذلك، لو أجبرهم على [ ص: 166 ] [ذلك] ما عذبهم، ولو فوض إليهم ما كان للأمر والنهي معنى.

قلت: فكيف أقول إذا؟ قال: منزلة بين منزلتين، هي أبعد مما بين السماء والأرض، ولله في ذلك سر لا تعلمونه.

واحتجت أيضا طائفة من القدرية المجبرة غير الجهمية بهذا الحديث، فقالت: إن كان صحيحا قول آدم لموسى : "أتلومني على أمر؟" فلا لوم على كافر في كفره، ولا فاسق في فسقه، ولا يجوز أن يجور عليهم ويعذبهم على ما اضطرهم إليه.

فالجواب كما قال الطبري : إنه ليس معنى قوله: "أتلومني على أمر؟" كما توهمته، وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه، وقد عاقبه الله على ما وقع بإخراجه من الجنة، ولو لم يكن ملوما لكان وكنا في الجنة، كما أسكنه الله، ولكنه جل جلاله أخرجه منها بما وقع عقوبة عليها، ولم يعاقبه على ما قضى عليه; لأنه لو عاقبه عليه لما كان يسكنه الجنة حين أسكنه إياها، وذلك أن القضاء عليه بذلك قد كان يغني قبل أن يخلقه، فإنما استحق العقوبة على فعلته، لا على ما قضى عليه، وبمثل هذا أقر موسى لآدم بصحة حجته، ولم يقل له كما زعمت القدرية : ليس الأمر كما تزعم; لأن الله لو كان قضى عليك ذلك قبل أن يخلقك لم يعاقبك، ولكن لما كان من دين الله الذي أخذ بالإقرار به عهود أنبيائه ومواثيقهم، أنه لا شيء كان فيما مضى ولا فيما يحدث إلا (قد مضى) به قضاء، فإنه غير معاقبتهم على قضائه ولكن على طاعتهم ومعاصيهم، وكان ذلك معلوما عند الأنبياء والرسل، أقر موسى لآدم بأن الذي احتج به عليه له حجة، وحقق صحة ذلك نبينا [ ص: 167 ] عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله: "فحج آدم موسى عليهما الصلاة والسلام".

فصل:

قال غير الطبري : حديث أبي هريرة حجة لما يقوله أهل السنة - رضي الله عنهم -: التي أهبط الله فيها أبانا آدم هي جنة الخلد، ورد قول من زعم أنها لم تكن جنة خلد، قالوا: وإنما كانت جنة بأرض عدن، واحتجوا على بدعتهم، فقالوا: إن الله خلقها لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد لغى فيها إبليس حين كذب لآدم ، وأثم في الكذب، وإنه لا يسمع أهلها لغوا ولا كذابا، وإنه لا يخرج منها أهلها، وقد أخرج منها آدم وحواء بما وقع منهما. قالوا: وكيف يجوز على آدم -مع مكانه من الله وكمال (عقله)- أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلود والملك الذي لا يبلى؟ وأيضا فإن جنة الخلد دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي كلها; تطهيرا لها.

فيقال لهم: الدليل على إبطال قولكم: قول موسى لآدم : "أنت الذي أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة" فأدخل الألف واللام; ليدل على أنها الجنة المعروفة، وجنة الخلد الموعود بها، التي لا عوض منها في الدنيا، فلم ينكر ذلك آدم من قوله، ولو كانت غير جنة الخلد لرد آدم على موسى ، وقال: إني أخرجتهم من دار فناء وشقاء وزوال وعري إلى مثلها، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها في جميع الأحوال.

ويقال لهم فيما احتجوا به: إن الله خلق الجنة لا لغو [ ص: 168 ] فيها، ولا تأثيم، ولا كذب ، ولا يخرج منها أهلها. هذا كله مما (جعله) الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، وقد أخبر تعالى أن آدم إن عصاه فيما نهاه عنه أخرجه منها، ولا تمتنع أن تكون دار الخلد في وقت لمن أراد تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضى عليه بالفناء، وأجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهلها، ويخرجون منها، وأنها كانت بيد إبليس مفاتيحها، ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، ثم خرج منها، وأخبر بما رأى فيها، وأنها هي جنة الخلد حقا.

وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد؟ فيعكس عليهم، ويقال لهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء؟ هذا لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل.

وأما (قولهم): إن الجنة دار القدس، قد طهرها الله من الخطايا. فهو جهل منهم، وذلك أن الله تعالى أمربني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي بالشام ، وأجمع أهل العلم بالشرائع على أن الله تعالى قدسها، وقد شاهدوا فيها المعاصي، والكفر، والكذب، ولم يكن تقديسها بما يمنع فيها المعاصي، فكذلك دار القدس. وأهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم ، فلا معنى لقول من خالفهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية